يوميات طالب في الجامع الأخضر من خلال مذكرات طاهر الطاهري (1994/1911)

بقلم: محمد بسكر-

يرجع تأسيس الجامع الأخضر إلى العهد التركي، فهو من المؤسسات التي أشرف على بنائها الباي حسن بن حسين بك الملقب (أبوحنك) سنة (1156هـ /1743م)، وموقعه بجانب رحبة الصوف بقسنطينة، درّس فيه نحو ثمانية مدرسين، وآخر مدرس أَحيَ فيه رسوم العلم هو الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي بدأ نشاطه العلمي فيه سنة 1912م، بإلقاء دروس في شرح الشفا بأحوال المصطفى للقاضي عياض، وقد تنوعت دروسه في الفترة التي قضاها في التعليم لتشمل فنونا كثيرة موزعة على أطوار التعليم، وهي التفسير للكتاب الحكيم وتجويده، والحديث الشريف، والفقه من المختصر وغيره، والعقائد والآداب، والأصول والمنطق والحساب، والتاريخ والجغرافية، وعلى العربية بفنونها، من نحو وصرف وبيان ولغة وأدب.

تحدث طلبة ابن باديس في مؤلّفاتهم ومذكراتهم الشخصية عن مقررات التدريس، ومنهج شيخهم في التربية والتعليم، كل حسب رؤيته وما خزنته ذاكرته، ومن بين السّير الشخصية التي تطرقت لهذا الجانب ما كتبه الشيخ طاهر الطاهري في مذكراته، التي أَجملَ فيها حياته العلمية والمهنية، وهي يوميات مختصرة، لا تزيد صفحاتها عن 214 صفحة، سهلة في لغتها، بليغة في معانيها، لَمَّ فيها أحداثا مختلفة، مبعثرة من غير نَسَق، سجلها خشيت الضياع… وما شدّ انتباهي أثناء قراءتي لها، ما جمعه فيها من معلومات تاريخية -على قلّتها- عن التعليم بالجامع الأخضر، إضافة إلى نقله للوائح التنظيمية التي تضبط الحياة الداخلية للمنتسبين من الطلبة لدروس الجامع الأخضر.

الشيخ طاهر الطاهري بن عيسى من مواليد مَحَلَّة (الطواهرية)، بأولاد سيدي إبراهيم سنة 1911م، تعلّم ببلدته على يد مدرسين ينتقيهم والده من خُلَّص شيوخ منطقته، وفي حدود سنة 1930م التحق بزاوية الشيخ السعيد بن أبي داود بآقبو، فتلقى هناك علم التجويد والنّحو واللّغة والفقه، وفي سنة 1936م انتقل من بلدته إلى قسنطينة مصحوبا بتوصية من الشيخ محمد بن بسكر قَدَّمه فيها إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أحاله إلى رئيس العرفاء؛ أي المراقب العام السيد المختار مغربي، المنحدر من بلدة طولقة، وقد لازم دروس شيخه مدة أربع سنوات، قال بأنّها: «أحلى أيام حياته وأخصبها»، وبعد وفاة شيخه التحق بجامع الزيتونة، وشارك هناك في عدة أنشطة اجتماعية وثقافية، فكان كاتبا عاما لجمعية الطلبة الجزائريين بتونس سنة 1946م، التي ترأسها آنذاك أحمد بورزاق ثمّ من بعده الشيخ عبد الرحمن شيبان. وانخرط في صفوف الكشافة مرشدا، وعمل في جمعية الشبان المسلمين التي يديرها الشيخ محمد الصالح النيفر، وعندما أنهى تعليمه بجامع الزيتونة اشتغل في بلده بالتعليم في مدرسة التهذيب التّابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد مثّل مكتبها في ناحيته، أشار إلى ذلك الشيخ خير الدّين البسكري في مذكراته، عندما تحدث عن اختيار أعضاء المكتب الدّائم للجمعية، في شهر أوت من سنة 1954م، الذين يمثلون جهات القطر، فكان الشيخ الطاهري ينوب عن ناحية سيدي عيسى، وبوسعادة وأعراشها، إضافة إلى بلدة سور الغزلان.

نظام الطلبة الدّاخلي:

سجّل لنا الشيخ طاهر الطاهري في مذكراته لائحة النظام العام الذي يخضع له الطلبة داخل الإقامة، بعد أن عثر عليها مندسة في أوراقه سنة 1978م؛ أي بعد أربعين سنة من كتابتها، وهي بخطّ الإمام ابن باديس، محررة بتاريخ 5 رمضان من سنة 1357 هـ/1938م، شملت واجبات الطلبة، وآداب المعاشرة، وواجبات الناظر. وفي سرده ليومياته تفاصيل عن النظام الإداري الذي يسير عليه التَّدريس، ومختلف العلوم التي يتلقها الطلبة عن الشيخ عبد الحميد بن باديس.

يذكر الطاهري أنّ التعلم في هذه الفترة يتم في الجامع الأخضر وجامع بومعزة وجامع سيدي قموش، ولم يظهر المعهد الباديسي إلّا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اشترت جمعية العلماء دارا كبيرة بقرب الجامع، هي من أملاك آل الشيخ فكون، وميزانية هذا المعهد تُشرف عليها جماعة من المحسنين، يطلق عليهم اسم (حماة المعهد).

تحدّث الشيخ طاهر الطاهري عن نمط الحياة التي يعيشها التلامذة تحت إشراف ابن باديس، الذي اتّسم بالصرامة، فأوامره حاسمة في تنظيم الحياة اليومية للطلبة، وخاصّة فيما يتعلق بالسّلوك العام، والنظام الدّاخلي لسكن الطلبة يخضع لوصاية العرفاء، كلّ عريف يشرف على جمع من طلبة ولاية من الولايات الثلاث(الجزائر، قسنطينة، وهران)، والعريف كمصطلح يطلق على التلميذ الذي تُناط به وظيفة مراقبة التلاميذ في المكتب وتأطيرهم، وهي مهمة تُسند إلى العرفاء الذين يختارهم ابن باديس من أفضل طلبته، وهم يجتمعون به دوريا في حجرته بالجامع الأخضر، فيستمع إليهم، ويأخذ باقتراحاتهم التنظيمية. يشير الطاهري أنّه كان يشرف على التلاميذ القادمين من ولاية الجزائر(الجزائر العاصمة، المدية، بوسعادة، الجلفة)، وعددهم يزيد على الأربعين طالبا، وممّا حزَّ في صدره أنّ وثائقه التي تحمل أسماءهم وما يتعلّق بهم، ضاعت منه أيام ثورة التحرير.

يقطن الطلبة في مرافق خاصّة بهم، وهي عبارة عن غرف تابعة للمسجد، أو أماكن اكتريت لهم، يدفع نفقاتها المحسنون، ويأخذ الطلاب الفقراء- وهم الأكثر- طعاما زهيدا، قطعة رغيف في اليوم، من مخبزة معينة بأوراق مطبوعة على حساب (الجمعية الخيرية الإسلامية) التي أسسها ابن باديس لهذا الغرض سنة 1917م، واتّخذت من نهج علي موسى بالرماح مقرًا لها. اشتمل نشاطها المجال التربوي وتغطية نفقات واحتياجات المعوزين من الفقراء والأيتام والأرامل، اعتمادا على ما يجود به أهل الإحسان من سكان قسنطينة وماجوراها، واستمرت هذه الجمعية في نشاطها زهاء الأربعين سنة.

كيفية تلقي الدروس:

طريقة تلقين ابن باديس الدروس تحدّث عنها الكثير من طلبته، والجميع يتفق أنّ له منهجا مبتكرا، يعتمد على إحياء ملكة التفهيم، وإيصال المعلومة إلى ذهن الطالب بأيسر الطرق، والشيخ ابن باديس مدرس مثابرٌ، لا ينتابه الكلل، ولا ينال من عزيمته الملل، فدروسه (( تستغرق معظم النهار، فمن بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، لا ينقطع عن التدريس إلّا لراحة قصيرة، أو عمل في مكتبه بجريدة، أو مجلة الشهاب، يعلّم الصغار الذين لم يجدوا مكانا في المدارس الفرنسية صباحا، ويعلم طلبة المدارس الفرنسية عصرا بعد خروجهم من المدرسة، ليربطهم بعقيدتهم وتراثهم الحضاري، لم يكن يهدف إلى تكوين معلمين محترفين ليمارسوا مهنة التعليم، بل لتكوين دعاة على أساس العلم والعمل))، وطريقته في شرح المقرّرات مبنية على الاستقصاء والتحليل، قال الطاهري: «والأستاذ يشرح المسألة مع الطلاب، ويعقب عليها بآرائه الخاصة، موضحا وجهة نظره بالحجّة والبرهان»، فمنهجه يرتكز على استقلالية التفكير، فهو يفتح للطلبة أبواب البحث والمناقشة، وله توجيه حكيم في معالجة المواضيع العلمية والقضايا الوطنية، يوقظ المشاعر ويدفع الطالب للتفاعل معه فيما يريد غرسه في ذهنه.

ومن نماذج دروسه التي تحدّث عنها شرح مقدمة ابن خلدون، فقال: إنّ ابن باديس لا يكتفي بسرد الرّوايات التاريخية، وإنّما يقوم بإخضاعها لمعايير وقواعد النّقد التاريخي، وتحليل ما ورد فيها من الحكايات المدخُولة ونقدها، وأعطى مثالا على ذلك (نكبة الرشيد للبرامكة) في قصة العباسية أخت الرشيد مع جعفر بن يحي بن خالد، وقد عارض ابن باديس ابن خلدون في دفاعه عن العباسية، واعتبر دفاعه عاريا من الحجج السليمة.

في هذه المذكرات عرضٌ لنظام التدريس والقوانين التي تضبط حياة الطلبة، نلخصها في النقاط التالية:
• يعتني ابن باديس كثيرا بدقة النّظام داخل أقسام الدراسة، وطلبته ملزمون بهيئة خاصة في لباسهم، وهي عبارة «عن جبّة يلبسها التلميذ فوق بدلته، ويضع فوق رأسه طربوشا يلف عليه عمامة بيضاء قصيرة يرسل عذبتها من خلف»، ويهتم أيضا بطريقة جلوس طلبته، حيث يتحلقون حوله في صفوف منتظمة متوازية، كلّ طالب يضع محفظته أمامه، وكلّ مادة تدرّس من كتابها المقرر.

• يتصف الشّيخ ابن باديس بالحزم والجدية، وعدم التساهل مع الطلبة أثناء التعليم، فهو «لا يسمح لهم باللّحن، ولا بالغمغمة في القراءة»، ويذكر الطاهري أنّه لا يتوان في طرد من يراه غير صالح لمتابعة الدروس، وإن كان هذا النوع نادرا بين طلبته.

• ومن أساليبه تشجيع الطلبة على الخطابة والتدريس، وقد أفرد ليلة الجمعة لندوة الخطابة والمناقشات، وحرص على مراعاة الفوارق الذّهنية بينهم، فخصّ النّبهاء الأذكياء بحصص إضافية تتلاءم وما يمتلكون من مواهب وقدرات.

• من منهج ابن باديس تشجيع الطلبة على التأليف وكتابة المقالات، يَنشرُ ما يراه صالحا من كتاباتهم في مجلة الشهاب تحفيزا لهم، ويحرضهم على البحث والنّقد النزيه، ومذهبه في ذلك «انتقد قبل أن تعتقد».
• يقضي النظام عند ابن باديس أن لا يبارح الطلبة قسنطينة، في أي عطلة حتى يتصلوا به ليزودهم بتوجيهاته ووصاياه، ففي السنوات الأولى استقبل الطلبة أو غيرهم من الضيوف في حجرة الإمام بالجامع الأخضر، وبعد إنشاء مدرسة التربية والتعليم تحول مكتبه فيها.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.