الفقه المالكي عند ابن باديس بين التعصب المذهبي والتحرر الفكري (ج2)
بقلم: علي الصلابي-
1ـ الدعوة إلى تأصيل الفتوى وتعليها:
لقد دعا الشيخ عبد الحميد بن باديس المفتين إلى وجوب بيان الأدلة التي بنوا عليها فتاواهم من الكتاب والسنَّة، لأنَّ الله تعبد المسلمين بالنصوص، وذكرُها في نصِّ الفتوى يكسبها هيبة وجلالاً، ويجعلها أدعى للقبول عند المستفتي، وفي ذكر وجه الاستدلال منها عند الأئمة الأعلام الذين تواترت أدلتهم في تقريب المستفتين من العلم ودرجة النظر، فقال رحمه الله: ومما ينبغي لأهل العلم ـ أيضاً ـ إذا أفتوا أو أرشدوا أن يذكروا أدلّة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم، ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائماً على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلب وأثر في النفوس، فإلى القرآن والسنة ـ أيها العلماء ـ إن كنتم للخير تريدون.
وفي هذا الإطار علَّق الشيخ عبد الحميد بن باديس على فتاوى مجلَّة نور الإسلام التي كان يكتب فيها كبار علماء الأزهر الشريف، ومما أخذه على تلك الفتاوى أنها عارية عن الدليل من الكتاب والسنة، خالية من التأصيل بعيدة عن التقعيد، فقال رحمه الله: كنا ننتظر من مجلة يحررها كبار العلماء بالأزهر الشريف ؛ أن تأتينا في باب الفتاوى والأحكام منها بأدلة المسائل، والمستندات الأقوال مع إبدائها رأيها في الترجيح بالطرق المعتبرة عند أهله، وكنا ننتظر لذلك أنها لا ترجع في استدلالها إلا إلى الكتاب والسنة الثابتة، فكنا نخرج منها ـ لو كان ما انتظرناه ـ بمسائل محررة وأدلة معتبرة وأحاديث ثابتة، وفي ذلك زيادة على العلم الصحيح تُعيد لطريق النظر والاستدلال، وربط الأحكام بأدلتها وهو ما لا تزال معاهدها الدينية الكبرى في العالم محرومة منه إلى اليوم.
ومراد الشيخ عبد الحميد بن باديس من هذا النص هو تأصيل الفتوى وتعليلها، وليس مراده الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة وعدم الأخذ بالقياس والتعليل، كما هو شأن المذهب الظاهري، فالشيخ ابن باديس لم يكن ظاهرياً، بل كان يأخذ بالنصوص ومعقولاتها، من الإجماع والقياس والاستحسان، والأخذ بالمصالح والغوص في أسرار التشريع والبحث عن المقاصد، ولذلك أجاب الشيخ عبد الحميد عن السؤال الاتي وهو المجتهد: إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الاحاد والأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدَّلالة، هل هو متبع لغير العلم؟
والجواب: لا بل هو متبع للعلم وذلك من ثلاثة وجوه، إن كل دليل يكون ظنياً بمفرده، يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده وشهدت له بالصواب، وهذا شأن المجتهدين في الأدلة الفردية، إنَّ المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الداعية إلى اعتبارها.إن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي الذي يكون جزماً ويسمَّى كما تقدَّم علماً، فما اتبع المجتهد إلا العلم.
وهكذا يدعو الشيخ عبد الحميد بن باديس المفتي إلى تأصيل فتواه وتعليلها والاستدلال لها استدلالاً صحيحاً، سواء أكان الدليل نصاً من الكتاب أو السنة إن وجدا، أو إجماعاً متيقناً منقولاً، أو قياساً صحيحاً، أو مصلحة راجحة، أو مقصداً من مقاصد التشريع شهدت له الأدلة الإجمالية والنصوص القطعية، مما ينفي عن الشيخ تهمة الظاهرية التي حاول البعض إلصاقها به ظلماً وزوراً.
وبالإضافة إلى الدعوة إلى تأصيل الفتوى وتعليلها فإنَّ الشيخ ابن باديس، كان يدعو المفتين إلى تحرير الفتوى بعيداً عن أيَّ غموض يكتنفها، بما يجعلها واضحة عند المستفتين، أما أن يعمد المفتي إلى إيراد كل الأقوال المذكورة في المسألة دونما مناقشة لها، أو ترجيح بعضها فهو من إيقاع المستفتي في الخلط، والتشويش، وهو أمر منبوذ لأنه يؤدي إلى نتائج غير حميدة.
ولذلك قال معلقاً على فتوى أحد شيوخ الأزهر: لا والله ما مثل فضيلته مع سائله إلا مثل طبيب قدَّم لمريضه زجاجات من الأدوية والعقاقير منها السام القاتل، ومنها المسكِّن، ومنها المهيج، ومنها غير ذلك، ثم قال لذلك المريض ها أنا قدمت لك ما تداوى به أو ما يمكن أن تداوى به، ولك أيها المريض الرأي في اختيار ما شئت منها، ليس من غرضي أن أبين لك ما يصلح لمداواتك وما لا يصلح، وما هي حينئذ قيمة أمانة ذلك الطبيب ونصحه لمريضه؟ وأين هي ثمرة علمه؟ ومن العجيب أن يقول فضيلته ؛ بعد ما نقل أكثر من صفحة من تلك الاحتمالات الواهية والأقوال المسمومة: ـ ولا داعي للاسترسال ـ وأي استرسال أكثر من هذا.
2 ـ مناصرة المذهب:
لقد امتازت فتاوى الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ بأنها وفق المشهور، حريصاً على نبذ الأقوال الشاذة وعدم اعتمادها، ولذلك كان يقول ـ رحمه الله ـ: فخير لمن يريد السلامة بدينه أن يقتصر على المتفق عليه وحده أو مع إتيان المختلف فيه مع مبالغته في تحسين قصده وتمام تحرِّيه.
ومن المسائل الدَّالة على انتصار الإمام عبد الحميد بن باديس لمذهب الإمام مالك، موقفه من مسألة الصلاة الوسطى وما هي؟ فعند تفسير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *} [الإسراء : 78]، تعرض إلى موضوع أفضلية الصلوات عن بعضها البعض، فكتب قائلاً: من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية ؛ أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها على غيرها، فإن قلت صلاة العصر أيضاً لها مزية كما تقدم في حديث مالك.
قلت: إنَّ ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنص القرآن ومتفق عليه في روايات الحديث بخلاف العصر، فقد جاء في بعض الروايات دون بعض وتبقى صلاة الفجر ممتازة تخصيصها بالتأكيد في نصِّ الكتاب وكفى هذا مرجحاً لها.
وأوضح من هذا النَّص انتصار العلامة ابن باديس للرأي المشهور في مذهب مالك رحمه الله الذي يعتبر أن الصلاة الوسطى التي وردت النصوص الشرعية بالتأكيد على المحافظة عليها، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *} [البقرة : 238]، بأنها هي صلاة الصبح، جاء في الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: أما صلاة الصُبح فهي الصلاة الوسطى عند أهل المدينة وهي صلاة الفجر.
لقد انتصر ابن باديس في هذه المسألة إلى الرأي المشهور في مذهب الإمام مالك واستدل بأدلة متنوعة، وعوَّل عليها إلا أنه كان له منزع آخر في الترجيح وهو إشارة القرآن الكريم إلى هذه الأفضلية لصلاة الصبح: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *}. ومن الأصول في مذهب مالك رحمه الله تقديم ظاهر القرآن على السنة عند التعارض لم تكن السنَّة متواترة أو معضدة بعمل أهل المدينة.
3 ـ ذم التعصب المذهبي:
بالرغم من اعتزاز الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ بتمذهبه بالمذهب المالكي في الفروع ومناصرته له وإفتاؤه وفق المشهور من الأقوال فيه ؛ فإنه لم يكن متعصباً لا يرى الحق إلا في مذهبه، ولا يتصور الصواب مع غيره، بل كان ـ رحمه الله ـ يؤمن بأنَّ المذاهب الفقهية كلها مناهج اجتهادية صحيحة، إجتهد أصحابها في استنباط الأحكام الفرعية من نصوص الكتاب والسنة ومن العمل بمعقولها أو القياس عليها، فالاختلاف الفقهي في الأحكام الفرعية يمثل ثروة تشريعية تعتبر مبعثاً للافتخار والاعتزاز؛ لأنه في حقيقته ما هو إلا تعدد النظريات والمبادئ والطرائق الحقوقية في استمداد من التشريعات الأخرى، لذلك قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ الخليفة الراشد: ما أحب أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون ؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، إنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سُنَّة.
وكان ابن باديس يؤكد على وجوب الاطلاع الواسع على المذاهب وارائها بالنسبة لمن يتخصصون في الفتوى وفي القضاء الشرعي، فيقول: فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام، وتكون «بداية المجتهد» من الكتب التي يدرسونها، ويدرسون علم التوثيق، ويتوسعون في علم الفرائض والحساب، ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مراة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيقة.
فالفقيه المعاصر يجب أن يستفيد من جميع المذاهب الفقهية، والمدارس الاجتهادية وألا يكون قد حرم نفسه، وبالتالي أمته، من خير كثير وأوقعها في الحرج، لأنَّ المذهب الواحد لا يسع الأمة بكل احتياجاتها.
وفي هذا الإطار وجدنا العلاَّمة عبد الحميد بن باديس يوجِّه انتقاداً لاذعاً لمجلة الأحكام العدلية، تلك المجلة التي صدرت عام 1286هـ والتي فصلت بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة وتبلغ عدد المواد فيها 1851 مادة، وكلُّها مستقاة من قسم المعاملات من المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة، فقال رحمه الله: لسنا نبرر صنيعه في رفض الأحكام، ولكننا نريد أن يذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على المشهور وراجح مذهب الحنفية ؛ ما كنت تسع حاجة أمة من الأمم في كل عصر، لأنَّ الذي يسع البشرية كُلَّها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه لا مذهب واحد، أو جملة مذاهب محصورة كائناً ما كان، وكائنة ما كانت، ونريد أن يذكر الناس أيضاً أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم، وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع لأكثر من ذلك، كما لا يجب أن يذكروا أن مصر بلد الأزهر الشريف ما زالت إلى اليوم الأحكام الشرعية ـ غير الشخصية ـ معطلة فيها، وما زال كود نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم، وما زال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء ـ غير المذهب الحنفي ـ مهجوراً كذلك إلا قليلاً جدًّا.
4 ـ الاختلاف المذهبي ووحدة الصف:
بذل الاستعمار الفرنسي جهوداً جبارة من أجل إفساد ذات البين بين الإباضية والمالكية، وكان بعض قالة السوء من المنتسبين للعلم وأهله يغذون هذا التوجه، ويذكون ناره، واستغلوا حادثة منع الإباضية للمالكية من الأذان، فأعلن كل فريق الحرب ضد الاخر، وأراد كل فريق أن يستميل الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى صفه، ولما لم ينحز رحمه الله إلى أي طرف، زاد كل فريق في لومه والحنق عليه، فكتب رحمه الله يقول: واليوم وقد اتفق الجانبان على إنكار سُكوتنا وحمل الحنق علينا وسوء الظن فينا، فإننا نقول كلمتنا للحق والنصفة، غير منحازين بها إلى إحدى الفئتين، بالغة ما بلغت في إرضاء من رضي، وإسخاط من سخط، حيث كنا نعتقد أننا أرضينا بها الحق والوجدان فنقول:
ـ قد ثبت عندنا أنَّ بعض الأباضية بغرداية منذ زمان بعيد بنى مسجداً وجعل له مأذنة وأحدث فيه أذاناً ثانياً، فاتفقت كلمة جماعة الإباضيين على منعه وهدم مأذنته، فعلمنا بهذا أن الإباضية لم يمنعوا مالكية غرداية من الأذان تعصباً عليهم لأنَّهم مالكية ؛ كيف وقد منعوا قبل ذلك الإباضية مثلهم وهدموا الصومعة، وإنما منعوهم لأنهم يرون الاكتفاء في البلد بأذان واحد.
ـ فنحن بهذا قد برأنا الإباضية من تعصبهم على المالكية لأنهم مالكية، ولكننا من ناحية أخرى نرى أنه حق عليهم أن يرجعوا في هذه المسألة عن رأيهم، ويسمحوا لإخوانهم المالكية بأذان.
أولاً: إصلاحاً لذات البين بين المسلمين، وهي في الإسلام من أول ما تجب وتتأكد المحافظة عليه والقيام به.
ثانياً: حفاظاً للوحدة الإسلامية بحفظ القلوب غير متصدعة بداء الفرقة، القتّال المعدود في الإسلام من أكبر المحرمات المهلكات.
ثالثاً: مجاملة لبقية إخوانهم المالكية بالقطر الذين تربطهم بهم رابطة الدين والوطن والمصلحة.
هذه كلمتنا نقولها بعهد الله، لا نقصد بها إلا القيام بواجب الصَّدع بالحق والدعوة إليه والإصلاح بين المسلمين، فإن كانت صواباً فمن الله الكريم الرحيم، وإذا كانت خطأ فمنا وعلينا، وليست بالأولى من خطئنا.
فإيمان الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ بوحدة الأمة الإسلامية وسعيه الدؤوب وعمله المتواصل من أجل تحقيق الاتحاد بين المسلمين ؛ هما الأمران اللذان جعلاه يركز على القواسم المشتركة بين المسلمين، ويقوِّيها، ويدعو إلى تمتينها، وينظر إلى القضايا الخلافية التي نتيجة الاجتهاد المذهبي نظرة متفهم متسامح، فكان رحمه الله يقول: هذا العاجز ـ كما يعلم الناس كلهم ـ كان ولا زال من دعاة التوحيد والاتحاد، وكنت ولا زلت أقول في مجالس ودروس إنَّ المذاهب الفقهية غير الأربعة المشهورة هي كالأربعة، تتفق وتختلف عن نظر واجتهاد.
وقال: عند المصلحة العامة من مصالح الأمَّة يجب تناسي كلَّ خلاف يُفرِّق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التازر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة، بإذن الله، ثم بقوة الحق وأدراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة.
مراجع البحث:
– علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج(2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 2016م، ص(430:423).
– محمد الدراجي، الشيخ عبد الحميد السلفية والتجديد، دار الهدى للطباعة، الجزائر, 2012 ص159.
– أحمد طالب الإبراهيمي، آثار الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997، (2 / 196)
– عبد الحميد بن باديس – عمار الطالبي، آثار بن باديس، الشركة الجزائرية، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1997 (3 / 124 ـ 125).
– مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية 1425ه2004 م،(1 / 212).