مالك ابن نبي.. فيلسوف مشكلات الحضارة
يُعتبَر المفكّر الجزائري مالك ابن نبيّ من أبرز المفكرين المسلمين الجزائريين الذين استطاعوا أن يشخّصوا مشكلات راهن العالم الإسلامي ومشكلات الحضارة الإنسانية. وقد تمكّن من تشخيص العِلل التي تسبّبت في إنتاج حالة القابلية للاستعمار والتخلّف بمنطقٍ رياضي والذي كثيرًا ما كان يستخدمه في منحنيات فكره والذي اتسم بكثير من الواقعية.
لم يكُ مالك ابن نبي ينظّر للواقع الإسلامي من برجٍ عاجي، فهو كان ضدّ الطرف في التنظير وضدّ استعمال المخيلة في تشخيص أدواء تسبّبت في نكبة العالم الإسلامي. كان يدعو على الدوام إلى الإحتكاك بالواقع المعاش وإنتاج معرفةٍ من وحي هذا الواقع. ومثلما وقف ضدّ ما أسماه بالتكديس الفكري واستخدام المنتوج الحضاري الذي أنتجه الآخر، فقد وقف أيضًا ضد الحلول التي لا تؤدي إلى تغيير الواقع من جذوره، خصوصًا في ظل معركةٍ حضاريةٍ قوامها نكون أو لا نكون. وكان على الدوام يردّد إما أن نغيّر أو نتغيّر.
لم يربط مالك ابن نبي فكره بموقع جغرافي معين. فهو رغم انتمائه للجزائر فقد كان فكره على امتداد خط طنجة جاكرتا، وحاول أن تكون طروحاته الفكرية بحجم التحديات المحدقة بالعالم الإسلامي. نعم، نجح إلى أبعد الحدود في إنتاج نظرياتٍ معرفية إسلامية يستفيد منها المسلمون في إيران، في باكستان، في الجزائر، في مصر، في الهند، في لبنان، في المغرب، في خط طنجة جاكرتا عمومًا. وكان يعتبر أنّ المعضلة أي معضلة العالم الإسلامي بشكلٍ عام متشابهة من حيث ظروف التكون والنتائج. وقال أنّ حلّها يتطلب تضافر جهود المجموع الإسلامي، الذي كان يطالبه ابن نبي بضرورة النهوض ومواجهة التحديات الحضارية.
صحيح أنّ مالك ابن نبي كان مفكرًا ومنتجًا للأفكار محسوبًا على القرن الماضي الذي انقضى حيث نحن في ألفية ثالثة، غير أنّ قدرة مالك ابن نبي الاستشرافية أهلت أفكاره وطروحاته أن تكون حاضرة وبقوة في راهننا الإسلامي، لأنّ القضايا التي عالجها هي هي، مازالت قراءته للواقع الإسلامي وآفاق النهضة الإسلامية وآلياتها تتمتع بصيرورةٍ يمكن الإستفادة منها اليوم.
ترك مالك ابن نبي كمًا هائلاً من الأفكار والمؤلفات منها "الظاهرة القرآنية"، "شروط النهضة"، "وجهة العالم الإسلامي"، "فكرة الإفريقية الآسيوية"، "مشكلة الثقافة"، "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، "في مهب المعركة"، "المسلم في عالم الاقتصاد"، وما إلى ذلك من المؤلفات.
يقول عنه الباحث الأمريكي بروس لورنس أنّ مالك ابن نبي لا يوجد له شبيهٌ لا في أوروبا ولا في أمريكا ولا في المغرب العربي، هو ببساطة ابن خلدون المعاصر.
مالك ابن نبي فيلسوف مشكلات الحضارة عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش من لبنان الأستاذ الدكتور أسعد السحمراني الكاتب والمؤلف الأكاديمي وأستاذ الفلسفة في جامعة بيروت سابقًا والأستاذ الدكتور في العقائد والأديان المقارنة في جامعة الإمام الأوزاعي وأيضًا كانت أطروحة دكتوراه عن المفكر الجزائري مالك ابن نبي، ومن الجزائر الدكتور عمار طالبي عميد معهد العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر والذي واكب مسيرة مالك ابن نبي، ومن المغرب الكاتب والباحث الأستاذ إدريس هاني. مرحبًا بكم جميعا.
الأستاذ الدكتور أسعد السحمراني، مرحبًا بك في حضرة مالك ابن نبي، في حضرة مفكر عملاقٍ أهمله قومه في المغرب العربي ثم أهمله العرب والمسلمون في خط طنجة جاكرتا. مبدئيًا وبإيجازٍ، لماذا نحن في العالم الإسلامي ندوس على مفكرينا؟ لماذا الغرب يحتفي بالمفكر في حياته وفي العالم الإسلامي يحتفي بالمفكر بعد موته بـ200، 300 سنة ربما، أقول ربما، يحتفى بالمفكر؟ هل الفكر في بلادنا هزيل ركيك رخيص إلى هذه الدرجة؟
أسعد السحمراني: بسم الله العليم الحكيم مستخلف الإنسان في الأرض والصلاة والسلام على أنبياء الله ورسله أجمعين.
أولا شكرًا للأخ الدكتور يحيى أبو زكريا على هذه المقدّمة الضافية التي لامست العناوين الرئيسة في فكر مالك ابن نبي. وأنا سعيدٌ لوجودي في هذه الحلقة على مائدة مفكرنا الكبير مالك ابن نبي مع أخٍ عزيز رفيق دربٍ ومسيرةٍ فكرية الأستاذ الدكتور عمار الطالبي حفظه الله ورعاه، ونسأله تعالى أن يرعى بلادنا الجزائر وألا تنزلق إلى ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي، حيث نحضر اليوم في هذه الحلقة وقلوبنا دامية لأنّ الكثير ممّا يجري مُخالِفٌ لمبعث ومبحث الحضارة الذي ركّز عليه مالك ابن نبي. ومن ذلك الحدث بالأمس الذي أدمى قلوبنا جميعًا في الجريمة النكراء ضدّ الشهيد معاذ الكساسبة ومن شاشتكم أتوجّه بالتعزية لوالد الشهيد ولأهلنا في الأردن، والتعزية أيضًا بشهدائنا جميعًا في مصر وسورية والعراق وسائر بلادنا العربية التي يستهدفها مشروعٌ تكفيريٌ إرهابيٌ خطير لعلّ إضاءات مالك ابن نبي تشكّل بعضًا من بلسم جراح الأمة في هذه المرحلة.
أما أنّ الإهمال لمالك بن نبي، فقد لا أوافق عليه كثيرًا، لأنّ مفكّرنا الكبير مالك ابن نبي الذي رحل إلى الرفيق الأعلى في مطلع شهر نوفمبر تشرين الثاني من العام 73 من القرن الماضي، كانت حوله أعمالٌ أكاديميةٌ كثيرة، منها أطروحتي للدكتوراه التي كانت معنونة "مالك ابن نبي مفكرًا إصلاحيًا"، وقد صدر قسمٌ منها في كتاب يعرفه من يسمعنا الآن من المتابعين، وهناك مفارقة جميلة أريد أن أقولها للإخوة المستمعين أنّ أطروحتي نوقشت في قاعة المركز الثقافي الإسلامي في شارع الحمرا في بيروت ووجدنا في وثائق المركز أن المرحوم مالك ابن نبي ألقى آخر محاضرة له في الثالث والعشرين من نيسان أبريل عام 73 وأنا ناقشت الأطروحة في الثالث والعشرين من نيسان أبريل عام 83 بعد عشر سنوات، وبعدها توالت حبات السبحة بأطاريح للدكتوراه أو رسائل الماجستير في أكثر من جامعة في مصر، وفي الجزائر، وفي المملكة العربية السعودية، وفي فرنسا، لذلك كتاباته موجودة.
أما المسألة في عدم التداول الفكري، في الحقيقة هناك إشكالية ومشكلة مع القراء والقراءات لأنّ قسمًا من شبابنا وقبيلاً من المتعلمين ذهبوا يا أخي العزيز باتجاه وسائل الإتصال وحسبوها معرفة، وهي وسيلة لتوصيل المعرفة، فشغلنا وقتنا بالأجهزة الصغيرة الإلكترونية، ولا بدّ أن نعيد الاعتبار للكتاب، ومن هنا نحن في دار النفائس في بيروت، حيث نُشِر الكتاب لأول مرة منذ العام 83 من القرن الماضي، كنت أكلّم اليوم صاحب الدار لكي يعاد طبعه من جديد بطبعة جديدة وبحلة جديدة إن شاء الله ليكون بين يدي القراء إلى جانب غيره.
أهمية مالك ابن نبي التي تحدثت عنها حضرتك هي أنه عاش التحدي، والحضارة كما نعلم هي تحدّ واستجابة، فمالك ابن نبي الذي تخرج في العام 36 من القرن الماضي مهندسا في الكهرباء ولم يمسك في حياته شريطًا أو سلكًا كهربائيًا ولا يعمل في هذا القطاع، وبعد سنوات سئل مرة أنت تخرّجت في هذا الاختصاص وكان نادرًا فلماذا تفرّغت للكتابة في الحضارة ومشكلاتها وفي الإصلاح وتجلياته وغادرت اختصاصك الأساسي؟ فقال رحمه الله تعالى، بعد تخرّجي من المعهد الجامعي في باريس اكتشفت أنّ أمّتي العربية وعالمي الإسلامي يحتاجاني مفكّرًا أكثر من حاجتهم لي مهندسًا. وحبذا لو أنّ كلّ إنسانٍ منّا فهم هذا الملمح في توظيف جهده وإبداعاته وعصارة فكره في مشروع الأمّة بدل ان يتسكع هنا وهناك على أبواب حانات الجاحدين المتنكرين أو الجامدين التكفيريين، فكلاهما خطرٌ كبير للأمة.
ونعم، كما تفضّلت في مقدمتك الضافية، انطلق رائدنا الفكري مالك ابن نبي إلى مشكلات الحضارة من خلال الآية الحادية عشرة في سورة الرعد وفيها قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وهذا ما عنى به هو رحمه الله تعالى بأنّ مشروعات الإصلاح والتطوير لا تُستورَد بحقائب كما نستورد الملابس أو بعض المتاع، ولا هي تكديس أشياء، وإنما دائمًا مشروعات الإصلاح هي بنت الواقع، بنت المجتمع. لذلك قال بأنّ مشروعًا حضاريًا في الدائرة الإسلامية الحضارية يختلف عن مشروعٍ آخر يصلح للدائرة الغربية أو الشرقية أو غيرها. من هذا المنطلق أصّل مالك ابن نبي لمسألة رئيسة هي في صلب الإسلام، هي مركزية الإنسان في مشروع الحضارة.
يحيى أبو زكريا: هل تسمح لي أن أتوقف عند هذه النقطة من أجل أن تتداخل الأفكار ويتعمق الحوار؟
أسعد السحمراني: بكل محبة متشوقون للدكتور عمار حتى نسمعك.
يحيى أبو زكريا: دكتور عمار طالبي، نحيّيك ونحيّي الجزائر الحبيبة. الأفكار في العالم الإسلامي كثيرة جدا، ولعلّ العقل الإسلامي قبل أن يصاب بداء الكساح والكساد والانبطاح عرف إنتاج الإبستمولوجيا، المعرفة. عندما يتحدّث مالك بن نبي، ما هي أبرز الأفكار التي زلزلت الواقع الإسلامي؟ ولماذا في كلّ لحظةٍ نتوقف ونقول هذا مالك ابن نبي وهذا فكره العظيم؟ ما هي سمات هذا الفكر التي جعلت هذا الرجل الذي وُلد في الشرق الجزائري تبسة تحديدًا وهي أنتجت الكثير من العلماء العربي تبسي وغيرهم، جعلت فكر هذا الرجل متميّزًا؟
عمار طالبي: بسم الله الرحمن الرحيم. الواقع أنّ الذي يمتاز به مالك بن نبي عن غيره هو المنهج، فقد كان منهجه علميًا رياضيًا نقديًا، كأنه رجل كيمياء يحلّل عناصر المادة ويصنّفها، ثمّ بعد ذلك يركّبها تركيبًا آخر، وهذا يبدو في تعبيره عن أفكاره بسِيَرٍ رياضية كما فعل في مفهوم الحضارة مثلاً، الإنسان والوقت والتراب، والتراب يقصد به كلّ ما هو مادي، عالِم الأشياء. ولذلك، فإنّ أفكاره تصيب الواقع وتحلّله وتنتهي إلى نتائج في بعض الأحيان تكون استشرافية وأحيانًا أخرى تكون علاجية لمشاكلنا في العالم الإسلامي، فهو كما تفضّلتم سابقًا بمثابة ابن خلدون، لكنّ ابن خلدون كان يحلّل الثقافة والحضارة في مستوى معيّن وهو ما كان يجري في العالم العربي الإسلامي من تحول في الدول، ولكن هو اتخذ طريقًا آخر أوسع من ذلك أفقًا، وهو الحضارة باعتبارها كلاً شاملاً، سواء كانت حضارة إسلامية أو غير إسلامية، ولكنّ تحليلاته الرياضية العلمية كانت منصبّة على الظواهر الاجتماعية الإسلامية، أي ما يتصل بالحضارة الإسلامية، سواءً كانت من الناحية العقلية أو من الناحية المادية ولذلك فهو رجلٌ واقعي كان يتأمّل الظواهر ويلاحظ ويسجّل ملاحظاته ومشاهداته في هذه الكتب التي نراها اليوم تنتشر. ومن أهمّ كتبه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، لأنه يرى أنّ المشكلة الأساسية في العالم الإسلامي هي مشكلة أفكاره، فالمفاهيم في الفكر الإسلامي في العهود المتأخّرة كانت غير واضحة، ولا ترتبط المقدّمات بالنتائج أو النتائج بالمقدّمات، ولذلك فهو يريد أن يبيّن هذا الضعف في عالم الأفكار، وأنّ الفِكر الذي يُستورَد يكون فكرًا معطّلاً ويكون غير مجدٍ، لأنه لا ينبت في أرضه وإنما هو نبتَ في أرض أخرى، فلا يمكن أن ننقله إلى أرضٍ تختلف عنه في تاريخها وفي ثقافتها وفي حياتها الإجتماعية، ومن ثمّ فلا عجب أن نجد الإخوان في ماليزيا يهتمّون به لا بالنظر والفكر وتحليل الأفكار، وإنما بالاستفادة من الأفكار التي انتهى إليها، فنجد أنّ أول مؤتمر عالمي أقامته ماليزيا وقد دُعيت لهذا المؤتمر في ذلك الوقت سنة 90 تقريبًا، ولذلك فإننا كما أشرت أنت يا يحيى وأحيّيك تحية تحيا بها أكثر.
يحيى أبو زكريا: حيّاك ربيّ.
عمار الطالبي: ولذلك أشرت إلى أن مالك بن نبي قد أهمل. نعم، أهمل من هذه الناحية وهي الإهتمام بأفكاره وفي تطبيقاتها الحقيقية سواء في ما يتعلق بالاقتصاد أو في ما يتعلق بالإجتماع. فقد نادى في كتبه بإنشاء علمٍ اجتماعيٍ جديد سمّاه علم اجتماع ما بعد الإستقلال لأنّ الظواهر التي نشأت بعد الإستقلال وخاصة في الجزائر تختلف عن الظواهر التي كانت قبل الإستقلال، فقد نشأت أشياء جديدة وتحولات جديدة بالنظر إلى هذا العهد الذي أخذت الجزائر استقلالها، ولذلك لا بدّ أن تُدرَس المجتمعات الإسلامية والمجتمع الجزائري من بينها من حيث هذه الظواهر الجديدة، وألا نعتمد على الدراسات الاجتماعية الغربية التي تعالج واقعها ومفاهيمها التي نبتت في أرضها. أما أن ننقل هذه المفاهيم وهذه النظريات الاجتماعية ونطبّقها على مجتمعنا فهذا من أكبر الأخطاء، فإنّك تعالج الجرح بضمادات من فوقه ولكن لا تعالجه في أعماقه لتستأصل ما يعانيه، ولذلك فإنه كان منذ صغره، منذ أن كان طالبًا في قسطنطينة ثم في باريس كان يلاحظ الفرق بين العالم الغربي والعالم الإسلامي في هذه الظواهر الاجتماعية، وكان يسوؤه جدًا حينما يقرأ في السوربون المعلقات والبرامج والمواد التي تدرس، كان يتألم أنّ العالم الإسلامي لا يهتم بهذا العلم ولا بالبحوث التي تجري في باريس. كان يشتدّ ألمه وكاد يبكي كما يقول هو في مذكراته حينما يرى هذا التخلف الفظيع في المجتمع الإسلامي الذي تتراكم فيه الأمراض الاجتماعية من دون أن تجد علاجًا حاسمًا، ولذلك فإننا في الجزائر قد أهملناه في الحقيقة، وكانت بعض التيارات تعاديه في هذه البلاد لأنها لا تريد هذه النزعة العلمية التي تستند إلى التراث الإسلامي وإلى الحضارة الإسلامية كما تعلمون ذلك بوضوح. ومن ثمّ، فقد عادوه وآذوه وكان يتألم كثيرًا ممّا يعانيه، وهذه المعاناة قد آلمته كثيرً، ولذلك أريد أن أشير ربما في هذه الكلمة إلى أنه في آخر حياته كتب يقول "إن لم نغيّر أنفسنا، إن لم يغيّر المسلمون أنفسهم وأحوالهم، فإنّ غيرهم سيغيّرهم"، وهذا ما نشاهده اليوم، فإن محاولات التغيير في ما يسمّى بالربيع العربي ولكنها وجدت صدودًا ووجدت عراقيل ووجدت مضادات وثورات مضادة ولم تستطع بعد أن تأخذ الأمور بيديها تمام الأخذ، ومن ثمّ فإنها محاولات التغيير هذه تبشّر بخير، ولا يمكن لنا أن نيأس بل هذه بشائر، وإن لم تنجح كلها فإنها ستأتي خطوات أخرى وسيتغيّر ما بالأمة الإسلامية اليوم التي أصبحت منقسمة، ضعيفة، تهون على الآخرين، يرمونها بقنابلهم من فوق وهي تُستباح أراضيها وأهلها ويقتلون، والغريب أنّ بعض أهلنا يدعونهم ليصلحوا بيننا ويدعونهم لنصرتنا وهذا من أعجب ما يقع في التاريخ. وعلى كل حال التغيير أمر أساسي.
يحيى أبو زكريا: دكتور عمار، سنتابع بالتأكيد بقية التفاصيل والنقاط، لكن بُعيد حين. أرجو أن تبقى معي.
الأستاذ الفاضل العزيز إدريس هاني تحيّة لك وللمغرب الشقيق. مالك بن نبي كما نعلم جميعًا كان متخصّصًا في الهندسة الكهربائية، وهو لم يمارس عمله كمهندس، بل مارس عمله كمنتجٍ للأفكار. دعني أشير إلى مذكرات مالك بن نبي، مذكرات العفن، الجزء الأول من 1932 إلى 1940، عندما يقول إنّ تدهور العالم الإسلامي مردّه، فضلاً عن أسبابٍ أخرى، إلى أنّ التفسير القرآني محشوٌ بالخرافات الإغريقية وبالإسرائيليات"، كما يشير إلى أنه قرأ أول ما بدأ القراءة، قرأ كتاب "الإفلاس المعنوي: هل هو للسياسة الغربية في الشرق" لأحمد محرم، وكتاب "رسالة التوحيد" للإمام محمد عبدة، وكتاب "أم القرى" لعبد الرحمن الكواكبي.
إذا نحن أمام مثقفٍ مارس الإجتهاد الذاتي للوصول إلى المعرفة ومن ثمّ إنتاج هذه المعرفة، أليس كذلك؟
إدريس هاني: نعم أستاذي العزيز أستاذ يحيى، أحيّيك وأحيّي برنامجك وأشكركم على هذه المأدبة الرائعة، لأنه بالفعل كما تفضّل ضيفاك الكريمان وتفضلتم قبل ذلك في رسم هذه البانوراما لأهمّ أفكار مالك ابن نبي، ما أحوجنا إلى فكر مالك بن نبي وراهنيته الآن، بل راهنيته تزداد وتتضخم يوما بعد يوم.
حينما تتحدثون عن خط طنجة جاكرتا، فنصيبنا من هذا الخط أن مالك بن نبي كل أعماله لقيت اهتمامًا كبيرًا في ذلك الرعيل الذي جايله، ولا ننسى أنّ معظم أعماله التي تُرجِمت بعد ذلك نشِرت في مجلة دعوة الحق التي كانت تصدرها وزارة الأوقاف، وأيضًا رموز الحركة الوطنية الذين تعرّف عليهم سواء في باريس أو في مصر، فالرجل كانت له علاقة مع المُجاهد المغربي الكبير عبد الكريم الخطابي، ولكن يبقى الحظ الأكثر عندما تعرّف على الطالب عبد السلام الهراسي الذي عرّفه أيضًا من جهته بعبد الصبور شاهين الذي عمل على ترجمة أعماله وإدخالها إلى اللغة العربية. أذكر يوم التقيت في بداية التسعينات مع الدكتور عبد الصبور شاهين، وكان هناك مشكل حصل في كلية دار العلوم في ما يتعلق بأعمال الدكتور ناصر حامد أبو زيد، وكان الذي يتحمّل هذه الحملة هو عبد الصبور، فكان يقول أو حينما سألته، بأنه يؤكد على أنه رجلٌ منفتح وليس متطرفًا بدليل أنه اهتمّ بتراث مالك ابن نبي وترجم لمالك ابن نبي.
بالفعل، نحن أمام قامة فكرية. أنا لا اعتبر مالك ابن نبي مفكرًا جزائريًا فقط حتى ولو تحدث عن شروط النهضة في الجزائر لكن في الحقيقة هو مفكر عالمي بامتياز. إن قلتم أنه ابن خلدون فنعم، فهو أحيا رسوم ابن خلدون ولكن زاد عليها طبعا أنه تكيف مع قضايا عصره ومع مشكلات المجتمع الجزائري بشكل أعمق وأوسع وأكمل ولكن أيضًا كان أجرأ من ابن خلدون في كثير من الأمور. الدارسون لابن خلدون يدركون أنّ في بعض المحطات، ربما السياق التاريخي لم يكن يسمح بهذا النوع منه، ولكن مالك ابن نبي وفي ظلّ الاستعمار وضغط الاستعمار، كان رجلاً جريئًا ولم يترك شيئًا في نفسه وقال كلّ شيء، فالرجل في الحقيقة من خلال كل أعماله بما فيها حتى الظاهرة القرآنية، كان يأخذ بعين الاعتبار الفجوة الكبيرة بين أوروبا والعالم الإسلامي والجزائر هو نماذج معاش.
يحيى أبو زكريا: أستاذ إدريس هاني، مفكّرنا المغربي العزيز، أمهلني لُحيظات أمضي إلى فاصل ثمّ أعود إليك مباشرة لاستكمال الفكرة، ومن ثمّ العودة إلى ضيفنا البروفيسور الدكتور أسعد السحمراني.
المحور الثاني
يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد. عُدنا والعَود أحمدُ، ومن أدرك حلقتنا الآن، نحن نعالج موضوع المفكّر الحاضر المنسيّ للأسف الشديد الأستاذ مالك ابن نبي الفيلسوف الجزائري رحمة الله تعالى عليه.
الأستاذ والمفكر المغربي الأستاذ إدريس هاني، كنت تتحدّث عن فكرة بين فكرين أو نقطة بين نقطتين، العالم العربي وأوروبا، وقاطعتك لداعي الفاصل. هلا أكملت فكرتك رجاءً؟
إدريس هاني: بارك الله فيك. بالفعل، مالك ابن نبي كما تفضّلتم هو رجلٌ أصيل. أولا اطلع على مجموعة من الأدبيات النهضوية والإصلاحية في حينها، قرأ للكواكبي، قرأ التوحيد لمحمد عبدو، كما قرأ لآخرين. أيضًا هذا الذي يسمى بالعقل أو التفكير الديكارتي الذي تأطّر به مالك ابن نبي على مستوى علوم المجتمع والإنسان، وليس فقط الكهرباء. هو صحيح أنه لم يشتغل بالكهرباء وهذه في الحقيقة إحدى المفارقات لأنه كان مأخوذاً بالعلوم الاجتماعية والفلسفة أيضًا التي تحضر بشكلٍ كبير في كلّ نصوصه، من له دراية بالفكر والفلسفات الأوروبية الحديثة سيدرك أنها لم يخلُ منها نص مالك ابن نبي قط. لكن ما أريد أن أشير إليه الآن أنّ مالك ابن نبي في الحقيقة يعيدنا إلى رفاع الطهطاوي الذي في رحلته كان مدشّنًا لبداية التفكير في الفجوة بين العالمين، ونحن لا نقول حضارتين، لأنّ مالك ابن نبي له مفهوم أعمق للحضارة، أنّ الحضارة هي إنسانية وشاملة، وأن الذي يشارك فيها هو الجميع والذي يتأثر بها الجميع، ولذلك ممكن أن ينخرط العالم الإسلامي فقط في بناء الحضارة الإنسانية، ولسنا كما يقول البعض أنه صراع حضارات أو حضارة مقابل حضارة، فهذه كلها عناوين لتسطيح القول في الحضارة. نحن نعلم بأنّ خطاب النهضة من أيام رفعت الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني كان إيقاعه رفيعًا، وكان يتحرّك في الأفق الحضاري وبعمق فكري أيضًا وعقلي، لكن لاحظنا أنه مع تداعي الأمور والاستعمار وسقوط الخلافة العثمانية وغير ذلك، تشكّل نوع من ردود الأفعال التي انتهت ما بعد محمد عبدو ورشيد رضا إلى أن بدأنا ندخل في النمطية من التفكير للأسف تنزل كثيرًا عن فكرة الحضارة. وهنا لا أريد أن أمرّ على الأدبيات التي ظهرت في ما بعد رشيد رضا مع تيار الإخوان المسلمين أو غيره، مع سيد قطب ومحمد قطب تحديدًا الذي حاول أن يعالج قضايا كثيرة في الحضارة ولكن للأسف بالمفهوم الصراعي الذي ربما سيشكل في ما بعد عقود من الزمن مادة دسمة لهنتنغتون في صراع الحضارات.
يحيى أبو زكريا: الأستاذ، بالنسبة لمالك بن نبي.
إدريس هاني: فقط هذه النقطة.
يحيى أبو زكريا: تفضّل أكملها قبل أن أنتقل إلى الدكتور السحمراني.
إدريس هاني: أحب أن أقول بأنه حصل فراغ في الفكر العربي والإسلامي من هذه الفترة، ولكن كان على الهامش مالك ابن نبي الذي لم يؤسّس حزبًا أو جماعة أو كذا، كان يتحرّك بأفكار كبيرة سابقة حتى للغرب، حتى لرواد مدرسة فرانكفورت الذين انتقدوا الحضارة الغربية وأعلنوا أنها وصلت الى باب مسدود إلى غير ذلك مع ماركيز وأدورنو وغيرهما في ما بعد، لكن هو صادف بالفعل في الخمسينات كان هناك ظهور تيارات فلسفية جديدة أو الفلسفة النقدية التي كانت تضع الحضارة الغربية في محك النقد. فمنذ ذلك الوقت، أستطيع أن أقول بأنّ مالك ابن نبي هو الذي يشكّل همزة الوصل بين فكر النهضة والإصلاح، الجامعة الإسلامية في عهد جمال الدين الأفغاني إلى عهدي، ولكن للأسف أنتم تقولون أنه أهمِل فكره وأنا أقول للأسف هو لم يُفهَم في حينه لا من قبل الذين كانوا يعتبرون أنّ قضية التحرّر من الاستعمار هي مجرد طرد لمستعمر، فكما سنرى في ما بعد سنتحدث عن القابلية للاستعمار وعن كيفية الانخراط في الحلول الحضارية الكبرى، نعتقد بأنّ مالك ابن نبي هو الذي واصل وطوّر تفكير النهضة والإصلاح من رفاع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، ولكن للأسف الذي غلب هو فكر الجماعة والفكر المتحزّب الذي لا يلتفت إلى الأفكار العميقة وإلى من هو خارج الحدود.
يحيى أبو زكريا: أستاذ إدريس، طبعًا أذكّرك فقط بما قاله الشاعر العربي وهو ينطبق على كلّ مبدعينا، مفكّرينا، المرء ما دام حيًا يُستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد. نحن في الجزائر أنت تعرف المثل الجزائري يقول، عندما كان حيًا كان يشتاق إلى تمرة وعندما مات غرسوا نخلة قرب قبره. يا للعالم الإسلامي.
دكتور أسعد السحمراني، دعني أعود إلى مالك ابن نبي العام قبل أن أدخل في خصوصياته. طبعا ترك لنا إرثا معرفيا ابستمولوجيًا فكريًا واسعًا. أبدأ من مؤلفاته "الظاهرة القرآنية"، "شروط النهضة"، "حديث في البناء الجديد"، "الإسلام والديمقراطية"، "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، "مذكرات شاهد القرن"، أشرت إلى فقرة من فقراته، "ميلاد مجتمع"، "أثر المستشرقين في الفكر الإسلامي الحديث"، "المسلم في عالم الاقتصاد"، "فكرة common wealth إسلامي"، "في مهب المعركة"، "مشكلة الثقافة بين الرشاد والتيه"، "تأملات"، "لبيك"، "وجهة العالم الإسلامي"، "النجدة"، "دور المسلم ورسالته"، "الفكرة الأفرو آسيوية"، "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة". طبعًا هناك كتب كما بحثت مفقودة للأسف، منها "دولة مجتمع إسلامي"، "العفن أو الغسيل" وهو الجزء الثالث من المذكرات، "خطاب مفتوح لخروتشوف" الروسي مفقود للأسف الشديد، "نموذج المنهج الثوري" مفقود، "المشكلة اليهودية"، ربما روجيه غارودي لما كتب المشكلة اليهودية كان قد اطلع عليه، "اليهودية والنصرانية"، "دراسة حول النصرانية"، "العلاقات الاجتماعية"، "مجالس دمشق"، "مجالس تفكير".
إذا نحن أمام قامة فكرية بأتمّ معنى الكلمة، لكن دعني أسأل، لماذا مالك ابن نبي تعامل مع الفكر بأسلوب رياضي؟ الحضارة تساوي "إنسان زائد وقت زائد تراب". عندما تتأمل مصطلحات مالك ابن نبي، إما نغير أو نتغير، إما نكون أو لا نكون، أن المجتمعات التي لا تحترم الأفكار تموت. كانت جمله رياضية قابلة للحياة، أليس كذلك؟
أسعد السحمراني: أولا في الحقيقة لنعود إلى عالم مالك ابن نبي كما تفضّلت فهو كان يعرف ماذا يريد، لم يكن تائهاً في خضم التحديات، فعندما نشأ في الجزائر ووجد تحدي الاستعمار الفرنسي في الفرنسة مقابل العروبة وفي التنصير مقابل الإسلام وفي نسخ الوطنية الجزائرية، تأثّر بفكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وفكر عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي قبل أن يقرأ الطهطاوي وغيره، لذلك عندما كتب.
يحيى أبو زكريا: هنا فقط تأكيدًا لكلامك هو يشير إلى أنه تأثر مبدئيًا بمجلة الشهاب التي كانت تابعة لجمعية العلماء المسلمين.
أسعد السحمراني: هذا أمر معروف، ثمّ عندما كتب كتابه الشهير "الظاهرة القرآنية"، أذكّر هنا بأنه قال فيه عبارة نحتاجها في كلّ عصر ومصرٍ وزمن، ففي هذه العبارة يقول "علينا أن نتعامل مع النصّ القرآني وكأنّ الوحي ينزل لتوه من السماء"، أي يجب ان نتفاعل روحًا وفهمًا مع النص دون أن نثقله بالإسرائيليات أو ببعض التراثيات الميتة، ولذلك حذر مالك بن نبي من موردين فكريين نعاني منهما الآن: الوافد المسموم، والموروث الميت، فكلاهما قاتل. لكن هو عندما بدأت مرحلة الثورة في الجزائر ووجد حضانة جمال عبد الناصر والقاهرة للثورة، ترك باريس إلى مصر، وهو قد عمل وصنع مشروعه "مشكلات الحضارة" وهو في إعلام مصر وعلى مدارج الجامعات في القاهرة وفي دمشق وفي لبنان، وكان حوله من حوله من الناس. إذًا هو نعم، كان صاحب مشروع وحوله رعاية، ولذلك لماذا كتب فكرة الأفرو آسيوية ومؤتمر باندونغ؟ عندما ركز على محور طنجة جاكرتا الذي تذكره حضرتك بشكل دائم. هذا المحور طنجة جاكرتا هو العالم الإسلامي الذي يسميه علماء الجغرافيا القارة الوسيطة، أي هي قارة الاعتدال المناخي والاعتدال الفكري وقارة الثروات بكل أنواعها، وفي قلب هذه القارة الوسيطة الأمّة العربية، وفي قلب الأمّة العربية مصر التي ترعرع في رحابها فكر مالك ابن نبي، فكتب معظم فكره برعاية وتمويل جمال عبد الناصر ومصر، ومن ثمّ بعد الثورة والاستقلال في الجزائر ذهب وكان مديرًا للتعليم العالي.
إذًا غير صحيح أنه كان فقط ينظّر من خلال المكتبات. الأمر الآخر أنّ المسألة التي تحدث عنها بشكل رياضي، قبل أن نتحدث عن مسألة الحضارة، أولاً ميّز بين الثقافة والحضارة والمدنية، فالمدنية مُنجَزٌ مادي تقني والحضارة منجز في الإنسان والمادة والثقافة هي الهوية، لذلك أكّد وركّز على مسألة أساسية بأنّ الرأسمال الإنساني البشري هو الرأسمال الأهم، أهم من تكديس الأشياء، ولهذا عندما تحدث مالك ابن نبي عن مسار الحضارة وصيرورتها في صيرورة الإنسان، تحدّث عن ثلاثية هي عالم الأفكار الذي يحمله عالم الأشخاص للفعل والإنجاز في عالم الأشياء. فإذًا الإنسان هو الذي يحمل الفكر من أجل أن ينجز في الحضارة. نعم، نحن لنا حضارة لها خصوصية نابعة من هويتنا. هذه الحضارة نقدم إنجازاتها للآخرين. لذلك من هذا المنطلق نقول الثقافة تنجز الإنسان والإنسان ينجز الحضارة وهذا ملمح أساسي عند مالك ابن نبي، في عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء.
إذا انتقلنا إلى المعادلة الرياضية، هو قال بأن الحضارة تساوي "إنسان بالترتيب، تراب، زمن" ولم يول وقت لأن الوقت هو محطة قليلة الزمن لأن أساسًا المرحلة تحتاج الى وقت طويل والتراب كان يقصد به الثروة لكن هو قدم الإنسان، لذلك إذا أردنا أن نطلق مشروعا حضاريا لا بدّ أن نوجّه الإهتمام على الإنسان من أجل أن نعرف بأن الهوية الثقافية وهذه ركز عليها مالك ابن نبي، الهوية الثقافية لابن الأمّة العربية هي من الراعي إلى الفيلسوف هي نفسها، كما ضرب مثلا عن البريطاني، فالراعي البريطاني هو نفس الهوية الثقافية التي عنده إلى أن نصل إلى المفكر. من هذا المنطلق وجد مالك ابن نبي أنّ النهضة ستكون في الإنسان ولهذا ركّز على مسألة التربية وعلى مسألة الإعداد والتوجيه، ومنها تحدّث عن عالم الاقتصاد، وفي عالم الاقتصاد هناك لفتة جد مهمّة. هذه اللفتة هي في عالم الاقتصاد عندما قال بأنّ الأمن الغذائي له الأولوية وأنّ أمّتنا العربية وعالمنا الإسلامي عنده الخبرات المتراكمة في الزراعة، فلنبدأ التنمية من الزراعة أولا. هذا من جهة أولا نختصر مسافات في التقدم، ثانيًا نؤمن الأمن الغذائي والصراع كما تعلم اليوم عالميا هو الأمن الغذائي.
من هذا المنطلق إذا مالك ابن نبي كان يعرف إلى أين يتجه. أما أن نربط ما فعله مالك ابن نبي مع واقعنا، في الحقيقة أفكار مالك ابن نبي حاضرة في الملتقيات، في الأفكار، في الجامعات عند المفكرين، وليس فقط في ماليزيا، في كل عالمنا من طنجة إلى جاكرتا على تفاوت، لكن من دون أن ننسى ما ذكرت منذ قليل، الإغراق في الشعارات الذي نعيشه اليوم، أي ثورات وثورات مضادة وأي ربيع أو خريف والذي نرى فيه الكساسبة يُحرَق ونرى فيه هذا القتل وهذا الإجرام الذي يجري؟
في الحقيقة هناك فكر فئوي، فكر عنصري ادّعى أنه يمثل الإسلام لوحده وأنه له الحق الحصري في الفهم والتفسير، هذا الفكر هو الذي أنتج هذه المجموعات الإرهابية التكفيرية التي أهلكت الحرث والنسل وأهلكت فكر مالك ابن نبي وفكر غير مالك ابن نبي لأنها هي صادرت الحق في التفكير عند الآخرين. لكن عند العودة إلى مالك ابن نبي، نجد بأنه عالج مشكلات الأمة أولا في بعد العلاقات الدولية، عندما تحدث عن قيمة محور طنجة جاكرتا كمنطقة فاصلة في الصراع الدولي والحرب الباردة، تحدث عن الاقتصاد، تحدث عن الدائرة العربية ضمن الدائرة الإسلامية وهذه قضية مهمة جدًا وكانت له الحضانة.
لهذا السبب في الحقيقة نحن ندعو اليوم إلى التأمل بإمعان خاصة في نقطة مهمة يجب أن نبدأ منها كلنا هي عندما حدّد بأنّ النهضة تكون من الإنسان أولا، إنطلاقا من الآية الكريمة الحادية عشرة في سورة الرعد "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ". في هذه الحالة ركز مالك ابن نبي على مخاطر الدونية.
يحيى أبو زكريا: دعني، الدكتور عمار يبدو يريد أن يتداخل معك. دكتور عمار إذا الإنسان هو مرتكز الحضارة، هو محور صناعة الفعل الحضاري. هل لذلك طالب مالك ابن نبي بإعداد هذا الإنسان في خط طنجة جاكرتا بتحصينه، بتحقيق الأمن الثقافي له، بألا يكون ذا قابلية للاستعمار وللاستحمار كما قال بعده مولود نايت بلقاسم رحمة الله عليه؟ ما الذي كان يقصده مالك بن نبي القابلية للاستعمار؟ هل الإنسان المسلم مدروس، مطحون، تأتي الأمركة يصفّق لها، تأتي الفرانكوفونية يصفق لها، تأتي الفكرة من الخارج يصفق لها حتى لكأنه يدوس على الثلاجة الوطنية ويذهب إلى الثلاجة الألمانية والفرنسية؟ ماذا كان يريد مالك ابن نبي من وراء فكرة تحصين الإنسان المسلم؟
عمار الطالبي: الواقع أن مالك ابن نبي يرى أن القانون التاريخي هو تغيير النفس أولا فهو يعطي الأولوية لتغيير الأفكار والقيم، قيم الإنسانية. ولذلك فهو ليس مع النظرية التي تقول بتغيير النواحي المادية والاقتصادية لكي يتغيّر الإنسان، وهي النظرية التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عند الماركسيين وغيرهم، فهو يرى أنّ التغيير يكون من داخل الإنسان، من فكره، من قيمه، حتى يستطيع أن يتخلّص من التخلف بأفكار فعّالة جديدة تدفعه كجذوة روحية قوية، تدفعه لصنع الحضارة وصنع التاريخ بتغيير نفسه أولاً. ولذلك فإنّ تغيير عالم الأفكار يسبق التغيير في عالم الأشياء، ومن ثمّ فنظريته منصبّة على الإنسان كما ترى الجدول الذي وضعه في كتابه "مسلم في عالم الاقتصاد"، القيم الإنسانية والقيم المادية، وضع جدولاً، ما هي الأولوية بين هذين النوعين من القيم، وأريد أن أشير، بما أنّ الأخ من المغرب تكلّم عن السيد الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراش، أريد أن أشير إلى أنّ مالك ابن نبي لمّا انتقل من باريس سنة 1956 سرًا فارًا من القبضة الاستعمارية في باريس إلى مصر، وكان قد أعدّ من قبل الفكرة الإفريقية الآسيوية، وكان ينوي قبل أن يسلّمها للهند، ثمّ بدا له أن يسلّمها لجمال عبد الناصر وذهب بهذا الكتاب ونشره في مصر وتُرجِم وكتب له مقدّمة في ذلك الوقت السادات، ولكن الذي أريد أن أشير إليه أنه لمّا دخل إلى مصر عاش مع الطلبة، منهم الأستاذ الكريم عبد السلام الهراش ذكره الله بخير وشفاه لأننا سمعنا أنه مريض، وكوّن في منزله في القاهرة ندوة يحضرها الطلبة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، من أندونيسيا، من ماليزيا، من المغرب، من تونس، من الشام بطبيعة الحال ومن مصر. هذه الندوة كانت أسبوعية يحلل فيها الأفكار ويبثّ ما يراه من النظريات التي يمكن أن تخرجنا من عالم التخلف، ومن أهم ما كتبه في مصر عام 1960 كتابه "common wealth إسلامي"، فهو يرى أن الوحدة التي يمكن أن تسمّى بالخلافة هذه لا يمكن أن تقع الآن وإنما يقع ما بين الدول وهذه الوحدة العامة الاقتصادية بين الدول الإسلامية تكون على أساس مجمع علمي يدرس ويهيىء كل الظروف التي يمكن لها أن تؤدي إلى قيام هذا التجمع "common wealth" بين الدول الإسلامية لتكون لها اتجاهات اقتصادية تكاد تكون متوحّدة، وكذلك اتجاهات سياسية خارجية وما إلى ذلك. وأما أن نقول بأنه الآن يمكن لنا أن نقيم خلافة إسلامية عامة ونمحو هذه الدول التي أصبحت راسخة، هذا لا يمكن، ولذلك قال لا بدّ أن نجتهد من جديد في إيجاد هذه الوحدة ومع الأسف اليوم نرى أن المسلمين في انقسام تام.
كما أريد أن أشير إلى أنه لما جاء إلى الجزائر سنة 1963 بعد الاستقلال أقام ندوة أخرى في بيته، هذه الندوة كان يحضرها الطلاب من الجامعات الجزائرية وخاصة في ذلك الوقت كانت جامعة واحدة في العاصمة ثم تكونت مراكز جامعية في قسطنطينة وفي وهران فكان هؤلاء الطلبة يستمعون إليه في ندوته الأسبوعية، وكان فكره ينتشر بين هؤلاء الطلاب واستطاع أن يكوّن فئة من الطلاب أصدرت مجلة صغيرة بالفرنسية تحت اسم "ماذا أعرف عن الإسلام"، وكان يكتب في هذه المجلة، وأصبح هؤلاء الجماعة من الطلبة المتنورين فئة طيبة، نخبة طيبة في الجزائر، ولكنهم كانوا يجدون تضييقًا ومعارضة من الجماعة في ذلك الوقت، النخبة الأخرى التي كانت تتخذ الماركسية والاشتراكية وغيرها من المذاهب الأخرى سندًا لها وأيديولوجية.
ومن أهم الأشياء التي وقعت في الجزائر مالك ابن نبي كان يتصدى لهذه الأشياء التي تقع في الجزائر في ذلك الحين وهذا التحول، ولذلك ألقى ثلاث محاضرات مهمة بالفرنسية، المحاضرة الأولى في الثقافة والمحاضرة الثانية في الحضارة والمحاضرة الثالثة في الأيديولوجية، وكان يشير من خلالها كلها إلى أن قوام المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يقوم على أفكار تُلصَق به إلصاقا وإنما لا بدّ أن يتطور من داخله، من ذاتيته ومن خلال حضارته وثقافته ليهدم ما هو فاسد ومتخلف ويعتمد على العناصر الحية ويبني عليها ثقافة جديدة وحضارة جديدة توجّه المجتمع إلى المستقبل لبناء ثقافة، وهو يقول أننا نجد العالم الإسلامي يكدّس الأفكار، ولكن الأفكار يجب أن تُبنى لا أن تُكدَّس فأنت إذا أتيت بكمية كبيرة من الحجارة والاسمنت والحديد وكدست ذلك كله بعض فوق بعض فإنك تنتج جدارًا، ولكن ليس بناء، هو الذي ينبغي أن نسير عليه وأن نترك هذا التكديس في الأشياء وفي الأفكار.
يحيى أبو زكريا: دكتور عمار طالبي سأواصل كل هذه التفاصيل بعيد الفاصل إذا سمحت. أذكّر أن مالك ابن نبي رحمة الله عليه كان يقول دومًا أنّ المفكرين المسلمين كثيرًا ما يشيرون إلى أعراض الداء. يقولون أنّ العالم الإسلامي عنده حمى، عنده إسهال، عنده كذا وكذا، لكنهم لم يشيروا إلى أصل الداء وسبب البلاء الذي حل بخط طنجة جاكرتا. رحم الله مالك ابن نبي، كان فيلسوفًا جزائريًا عملاقا.
المحور الثالث
يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلا بكم من جديد. من أدرك حلقتنا الآن، نحن نعالج حياة وفكر الفيلسوف الجزائري مالك ابن نبي رحمه الله تعالى.
الأستاذ إدريس هاني، طبعًا مالك ابن نبي لم يُثِر، لم يحرّك لواعج المثقفين والانتلجنسيا العربية والمسلمة، أيضًا هنالك عباقرة في العالم الإسلامي ومنهم الشهيد السعيد محمد باقر الصدر أوصي بقراءة كتبه. اليوم في دنيا الذبح، في دنيا البتر والحرق، ما كفانا جئناكم بالذبح، صرنا جئناكم بالحرق، كيف نستحضر مالك ابن نبي مفكرًا تنويريًا للقضاء على العاطفة الدينية المنحرفة، للقضاء على الإسرائيليات، للقضاء على التعصب وإحلال العقلانية الإسلامية في خضمّ جنون العالم الإسلامي؟
إدريس هاني: طبعًا نحن نعيش اليوم كلّ المصائب والانحرافات ومعالم الانحطاط التي حذّر منها المرحوم المفكر مالك ابن نبي، ومالك ابن نبي يميّز بين الحضارة والثقافة لأنه على إطّلاع على الفلسفة الغربية وتحديدًا الألمانية، نجد أنّ الرجل هنا يقف على مفرق طريق مع ما سيقوله هنتغتون بمعنى الصراع ليس بين حضارات وإنما بين ثقافات وقيم وبين التقدم والتخلف. طالما تتحدثون عن هذا المحور المهم وهو طنجة جاكرتا فنحن في صلب الوعي والفكر الجغرافي أو في قلب الوعي بالجغرافيا السياسية التي يجب أن تتحرك فيها أفكار النهضة والتغيير. مالك ابن نبي الذي وُلد عام 1905، قبل عام أصدر ماركن دارلي مؤسس في مقالته التي صدرت في إحدى الصحف المعنية بالجغرافيا في لندن مقالته الشهيرة حول المحور الجغرافي للتاريخ، وبذلك تأسس هذا العلم، الجيوسياسية، في الحقيقة ليس هذا من قبيل الصدف أنه يأتي مالك ابن نبي ويركّز على هذه الفكرة، للأسف اليوم فقط بدأنا نحاول أن نتقرّب منه، في ذلك الوقت يثيرها من خلال خط طنجة جاكرتا، من خلال فكرة الأفرو آسيوية والتي يحاول أن يركز فيها انبعاث الحضارة في هذه الرقعة الجغرافية الممتدة وهذا الإقليم، الذي كما تفضّل بعض ضيوفك أنّه إقليم الاعتدال كما ذهب ابن خلدون وماكيندرو وغيرهم ممّن تحدثوا عن نشوء الحضارة والأديان في هذه المنطقة. لذلك يجب ألا ننسى أنّ مالك ابن نبي رفض فكرة إستقلال باكستان عن الهند لأنه كان يرى أنّ الإسلام والهندوسية وكلّ هذه الديانات في هذه المنطقة تستطيع أن تؤسّس لها محورًا حضاريًا يناهض هذا الإفلاس الحضاري الموجود. لذلك، بالفعل حينما كان يريد أن يتوجّه إلى الهند لكي يقدّم كتابه عن فكرة الأفرو آسيوية وربما تعذّر فطبعه في مصر، وكان أيضًا قد تقاطع مشروعه مع مشروع جمال عبد الناصر وغيره.
الذي أريد أن أقوله الآن أنّ مالك ابن نبي أدرك أنه في الحقيقة عندما تحدّث بسلبية عن قضية إستقلال باكستان، إنما كان يخشى من هذا الفرق، هذا التمييز، هذا الصدع في مجال كان متعايشًا، وكان بإمكانه أن يتعايش أكثر، ولكن هذا الصدام ما الذي أحدثه؟ إنبثاق شكل من الإسلام الهندي في هذه المنطقة، الذي هو أساس كل ما نجده الآن، وأنا لا أريد والمجال لا يتسع لكي أبيّن المراحل التي قطعها هذا النمط من الإسلام الذي انتهى إلى هذا العصر، إلى هذا النوع من تدعّش الخطاب الإسلامي. من "common wealth" إسلامي بالمعايير الحضارية الذي يجتمع على فكرة حضارية لمالك ابن نبي إلى خريطة أبي بكر البغدادي التي تقوم على فلسفة الذبح وعلى فلسفة القتل، قتل الإنسان الذي اهتم به مالك ابن نبي وجعله محور الحضارة. لذلك نحن نعتقد أنّ مالك ابن نبي للأسف، للأسف، للأسف، أفكاره الراهنية جدًا جدًا والمتفوقة على الكثير من أشكال الخطاب الديني الآن للأسف لم يعطَ لها، صحيح أنه تولى بعض المناصب ومثلما كان طه حسين أيضًا هو أيضًا كان وزيرًا للتعليم العالي وأصدر رسالة تشبه إلى حد ما يتحدث فيها عن مستقبل الثقافة في الجزائر، لكن فكر مالك ابن نبي لا زال إذا أردت أن نعبر عنه، لا زال لم يُنجَز بعد.
يحيى أبو زكريا: دكتور هاني، صدقًا لم ينجز بعد. أتوقف عند هذه الفقرة فقط لأنتقل إلى الدكتور أسعد السحمراني في موضوع آخر مغاير تمامًا. أنت تعلم دكتور أن اللغة العربية رقراقة عذبة هي أيضًا ظلمت من قبل بنيها وأهمِلت وبات العرب يفضلون الإنجليزية والفرنسية علمًا أنها أكثر لغات العالم موسيقى. لويس ماسنيون المستشرق الفرنسي الذي كان يعرفه مالك ابن نبي يقول "كلّ لغات العالم جمالها ظاهري إلا اللغة العربية جمالها ظاهري وباطني روحي". اللغة. اللغة هي إطار الفكر، هي مدماك المنتوج المعرفي. في الجزائر هنالك أزمة لغة. الاستعمار الفرنسي عمل على إبادة اللغة العربية وعمل على تدميرها بالكامل. نحن أمام ثلاثة نماذج، مولود فرعون الشهيد الجزائري رضوان الله عليه الذي كان يكتب بالفرنسية ولم يكُ يعرف العربية، فلمّا سُئل لمَ تكتب باللغة الفرنسية؟ قال تعلمت الفرنسية لأكتب بالفرنسية لأقول للفرنسي وللاستعمار الفرنسي أنني جزائري، لستُ فرنسيًا. هذا استمر في الكتابة إلى أن استشهد رحمة الله عليه عام 61 قبل استقلال الجزائر بسنة.
الثاني مالك حداد رحمة الله عليه الأديب المبدع الذي زار بيروت ذات يوم وتخلّى عن الكتابة بالمطلق، وقيل له لمَ تخلّيت عن الكتابة؟ فقال لأنني كجزائري لا يمكن أن أخون لغتي العربية فتركتُ الإبداع، ومات بعدها لأن المبدع عندما يترك الإبداع يموت.
الثالث مالك ابن نبي بدأ بالكتابة باللغة الفرنسية وتعلّم اللغة العربية وصار يكتب باللغة العربية. ما الذي كان يريد مالك ابن نبي أن يوصل إليه من خلال هذه الإزدواجية اللغوية؟
أسعد السحمراني: أولا دعنا نقول لم يكن مالك ابن نبي من أهل الإزدواجية في شيء، كان نقيًا صافيا.
يحيى أبو زكريا: في الأساس، صحيح.
أسعد السحمراني: لأن الإزدواجية تقال عمن عندهم مرض الشيزوفريميا انفصام الشخصية.
يحيى أبو زكريا: في اللغة، أنا معك أنه من أصفى العقول العربية.
أسعد السحمراني: وسأصل إلى اللغة لأقول، لكن اسمح لي قليلا بكلمة قصيرة قبل أن نغادر الحلقة، هي أنّ مالك ابن نبي الذي ركّز على الإنسان وحذّرنا من الموروث الميت الذي نشاهده اليوم مع التكفيريين والإرهابيين الذين يتعلّقون بأذيال بعض الأفكار الجامدة التي ليس لها حضور أو التي يطرحها بعض الجهلة وأنصاف المتعلمين ليهلكوا بها الحرث والنسل. فبناء الإنسان ذهب فيه مذهبًا مهمًا هو التركيز على المرأة حتى لا تغيب المرأة عن الحلقة، ونُتّهَم أنت وأنا بالذكورية.
يحيى أبو زكريا: صحيح وهي حاضرة بقوة في فكره.
أسعد السحمراني: نعم وهي حاضرة لأنه انطلق بالحديث عن المرأة من الحديث النبوي الشريف "النساء شقائق الرجال" وقال عندما نترك المشروع الحضاري والتنموي والثوري للرجل، كأننا رجلٌ يقف على رِجلٍ واحدة. من هذا المنطلق نقول بأن مالك ابن نبي الذي ركز على الإنسان لفت إلى ناحية مهمة هي أنّ المرأة هي صانعة الإنسان، المرأة الأم. لذلك نقول اليوم من خلال شاشتكم إذا أردنا أن نراجع الحسابات في هذه الأمة لنلغي حالات الإفراط والتفريط، الغلو في التكفير والإرهاب والقتل أو الغلو في الانزلاق وراء الغرائز والرذائل والمفاسد، فأمامنا أولا وأخيرًا أن نعود إلى المَعين العذب للإسلام ولحضارتنا العربية، ومع المرأة التي تصنع الرجال.
أما بالنسبة للغة، فإنّ اللغة لا يصحّ أن تكون عائقا او معوقا للإنسان في إنتاجه بل هو يعبر عن فكره باللغة التي يشعر أنه يستطيع أن يعبّر فيها بالشكل الأفضل، وهذا كان ديدن فقيدنا الكبير ومفكرنا مالك ابن نبي، حيث كتب بالفرنسية عندما كان لا يجيد ويتقن الكتابة بعربية راقية، هو كان يعرف العربية بالأساس، هو ابن الجزائر، لكن عندما نضجت خبرته اللغوية في مصر بحضانة جمال عبد الناصر وثورة يوليو في مصر، استطاع مالك ابن نبي أولا أن يعيد النظر في الكتب التي ترجمت فنقّحها وأعاد النظر فيها، وكتب كما تفضّلت وحاضر وكانت ندوته التي أشار إليها بعض الزملاء في الحلقة هي باللغة العربية، حاضر فيها لأنه في الحقيقة هذا الأمر عنده أهميته تنبع أولا من أنّكَ كلما اقتربت من لغة القرآن، كلّما سموت. لهذا السبب، نحن نرى الآن في مسميات بعض التكفيريين مسميات لغير العربية، وينسى هؤلاء بأنّ العرب هم أمّة الدعوة، وبأنّ العرب هم أمّة حمل الإسلام وبأن لغة العرب كما تفضلت بلسان ماسينيون او غيره وكما ذكر الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة في أصول الفقه" بأن اللغة العربية من أغنى اللغات ألفاظاً، وإلى يومنا هذا نجد نحن بأنّ اللغة العربية تتميّز بهذا، ويستطيع أن يتفاعل معها المسلمون في محور طنجة جاكرتا.
من هذا المنطلق نحن نقول ونكرر بأنّ احباءنا في جزائرنا العزيزة التي تفتّح وعينا في طفولتنا مع ثورتها الرائدة، نطالبهم من خلال شاشتكم، أنا كنت حضرت في العام 2005 ملتقى عن مالك ابن نبي عند المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر العاصمة.
يحيى أبو زكريا: وأنت عضو في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
أسعد السحمراني: نعم بتزكية من المرحوم رئيس الجمعية معالي الوزير الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله تعالى. ولكن أقول بأنّ إخوتنا وأحباءنا في الجزائر كي نعالج المشكلة الآن، نحن بحاجة أن نستحضر فكر مالك ابن نبي سواء من خلال وزارة الشؤون الدينية ولنا إخوة وأحباء فيها لن أذكرهم الآن مع كل التقدير. وثانيا وزارة الثقافة والمجلس الأعلى أن نعيد الاعتبار ليس فقط لمالك ابن نبي، في الجزائر هناك أعلام معاصرون كعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي ومعهم مالك ابن نبي، كما أنه في مصر وفي سورية وفي لبنان وفي العراق وفي كل ساحاتنا العربية هناك مبدعون، يجب أن نستحضر. وهنا أقترح بدل أن تبقى ملتقيات العلماء والفقهاء محصورة في مناقشة المُناقَش أن ننطلق إلى مناقشة الفكر، فالمشكلة عندنا كما قال في ذكرى المولد النبوي الشريف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي نحيّي دوره الرائد في مقاومة التكفير والتكفيريين، ونعزّي أيضًا بشهداء الجيش المصري وشهداء الجيش السوري والجيش اللبناني كما والعراقي وكما في اليمن، قال لهم المشكلة عند المسلمين ليست مشكلة عقيدة، هذا خاطب به شيخ الأزهر إنما هي مشكلة فكر وفهم، ولذلك موضوعات مالك ابن نبي، مؤلفات مالك ابن نبي التي ذكرت حضرتك منذ قليل هي التي تعيننا في مشروعنا في الفكر والفهم، لذلك أدعو.
يحيى أبو زكريا: دكتور والله والله، كم قرأت كل كتب مالك ابن نبي وغصتُ فيها وتعمّقت فيها وإلى يومنا هذا ما زلت أقرأ، وكأنّها تحمل سر الصيرورة بالفعل والاستمرارية.
أسعد السحمراني: كأنك تقرأها لأول مرة. من هذا المنطلق أنا أدعو مع إخواننا في الجزائر الأزهر الشريف والنجف وسائر المرجعيات الإسلامية أن نستحضر فكر المفكّرين من أمثال مالك ابن نبي ونعقد حوله الندوات للفكر والفهم.
يحيى أبو زكريا: جميل، فلنتوجه إلى الجزائر، جزائر الشهداء، جزائر العلماء، جزائر الجمال، جزائر النخوة، جزائر الكرامة، المروءة، الرجولة. دكتور عمار طالبي الجزائر حباها الله تعالى بثروات مذهلة من نفط وغاز وما إلى ذلك.
لماذا نحن كجزائريين أو كعرب أو كمسلمين لا نخصّص جائزة مالك ابن نبي تعطى للمفكرين الأفذاذ الذين يعملون على إنقاذ العالم الإسلامي؟ ودعني من خلالك ومن خلال قناتنا أوجّه رسالة إلى الدولة الوطنية الجزائرية العميقة التي نحبّ ونحترم، وإلى وزارة الثقافة، مالك ابن نبي ملأ الدنيا وشغل الناس، لا توجد جائزة باسمه، وألفريد نوبل الذي دمّر العالم بالديناميت الذي اخترعه ما زالت إلى يومنا هذا السويد تحتفل به. ما الذي تقوله في هذا السياق دكتور عمار؟ وهل تضم صوتك إلى صوتي وصوت الدكتور أسعد السحمراني وبالتأكيد مفكرنا المغربي إدريس هاني يشاطرنا الرأي والقول؟
عمار طالبي: بارك الله فيك. الآن آن الآوان لأن نعنى بفكر مالك ابن نبي وبآرائه لعلّنا نستفيد منها في حياتنا الاجتماعية والثقافية، وخاصة أصحاب القرار الذين يمسكون بزمام المجتمع واستراتيجيته المستقبلية، وأنا أبشّرك بأن في هذه السنة 2015 ميلادي ستكون قسطنطينة عاصمة للثقافة، وبهذه المناسبة فإنّ مالك ابن نبي سيعنى به عناية كافية، لأنّ هذه المدينة هي المنشأ له تربّى فيها ودرس فيها. وأشير هنا إلى أنه يعرف العربية، وهذا يخفى على الناس كثيرًا، فهو درس في مدرسة تسمى franco musulman كانت تدرّس بالعربية والفرنسية، وإننا في ذلك الوقت كانت الفرنسية هي المفروضة والشائعة، ولذلك كتب بها لكي يبلغ صوته إلى جميع الناس، وكذلك لمّا ذهب إلى مصر تحوّل وأصبح يكتب باللغة العربية. أظنّ تسمعونني؟
يحيى أبو زكريا: نعم، نعم دكتور عمار، نحن معك.
عمار طالبي: ولهذا فإنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هذا العام إن شاء الله ستقيم ذكرى للشيخ بن باديس والشيخ بشير الإبراهيمي، وذلك للتعرّف على منهجهما في الإصلاح، وليكون الشباب في الجزائر على معرفة بها. وأريد أن أقولها هنا، إنّ مالك ابن نبي كما تفضلتم هو أيضًا ناقدٌ لمناهج الإصلاح التي وقعت في العالم الإسلامي سواء من جمال الدين الأفغاني أو محمد عبدو أو التيارات الاخرى في باكستان، في الهند التي تنحو نحوًا آخر في الحداثة، انتقد هذا المنهج وبيّن النقص فيه لأننا نرى مثلا الماركسية استطاعت أن تنجح في وقتٍ ما وأن تغيّر وأن تنتهي إلى نتائج، لكن المنهج في الإصلاح في الإسلام لم يبلغ بعد مداه، ولهذا هو يقول إنّ أية ثورةٍ تعتمد على أمرين أساسيين، الأمر الأول هو الطاقة الروحية، الطاقة الشعبية، طاقة الأمّة، والأمر الثاني هو القيادة الفنية التي تقود هذه الطاقة في الوجهة الصحيحة للتغيير، لأنّ القيادة إذا كانت ضعيفة فإنها لا تستطيع أن تقود هذه الطاقة الكبيرة الروحية الاجتماعية، وضرب لذلك مثلاً، وهذا قاله في ندوة في مصر كنتُ أحضرُها، قال "أنت إذا لم تستطع أن تعرف إذا كنت تقاوم عدوًا ولديك قنبلة فإذا لم تكن فنيًا فيها فإنها تنفجر عليك وأنت الذي تهلك"، ولهذا فالذي وقع في العالم الإسلامي هو هذا. الناحية الفنية، الناحية القيادية ذات المنهج الصحيح الموجّه الذي يقود المجتمع، هذا لم نبلغه بعد.
ولذلك رغم الجهود العظيمة والكبيرة التي بُذِلت في سبيل إصلاح هذه الأمة وبنت شيئًا كبيرًا من التأثير، ولكنها لم تنجح كما يقول هو لنقصٍ في المنهج، وهذا تجده في كتابه الذي يتحدث فيه عن بنية العالم الإسلامي، وأظنّ أنتم تعلمون أنه نُشِر أخيرًا الجزء الثاني، وهو ما يتعلق بمسألة اليهود، بالمسألة اليهودية التي كتبها سنة 51 ولكنها لم تنشر إلا في العام الماضي، وهذه الفكرة مهمة جدًا لمن يريد أن يفهم اليهود وكيف استطاعوا أن يسيطروا على الاقتصاد وعلى الإعلام في الغرب، ولذلك فإننا إن شاء الله نقول بأن الشباب اليوم يهتم بمالك ابن نبي ويقرأه ويعقد ندوات لفهمه وإدراكه في الجامعات الجزائرية، في سطيف مثلا هناك ندوة يعقدها الطلاب أسبوعيًا لدراسة فكر مالك ابن نبي وقراءة كتبه.
يحيى أبو زكريا: دكتور عمار طالبي، وسيبقى بالتأكيد مالك ابن نبي منارة جزائرية، سيصبح وربما أصبح مَعلمًا كجبال الأوراس، كجبال جرجرة، كجبال الونشريس، سيبقى علمًا من الأعلام، سيظل ينبوع إنقاذٍ لخط طنجة جاكرتا.
دكتور عمار طالبي من الجزائر الحبيبة شكرا لك، المفكر المغربي إدريس هاني من المغرب الحبيب شكرًا جزيلاً لك، الدكتور الأستاذ أسعد السحمراني شكرا جزيلا لك.
أسعد السحمراني: شكرا لكم.
يحيى أبو زكريا: إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكنها إلا أمانك، وذلتي لا يعزّها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك، وخلتي لا يسدها إلا طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغلّتي لا يبردها إلا وصلك، ولوعتي لا يضفيها إلا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يرده إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزله إلا قربك، وجرحي لا يبرّئه إلا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا أمرك، فيا منتهى أمل الآملين وغاية سؤل السائلين ويا أقصى طلبة الطالبين ويا أعلى رغبة الراغبين.
مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها. إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبدًا ودائعه. حيّاك ربّي، شكرًا جزيلا دكتورنا العزيز.