دفاع عن ابن باديس ضد إخوان إبليس
بقلم: محمد بوالروايح-
هناك متحاملون يجاهرون بعداوتهم لابن باديس، وهناك مستخفون يدَّعون وَصْلا بابن باديس، ولكن أعمالهم وأفكارهم من وحي إبليس، يصفقون لكل ناعق ويسبحون في فلك كل منافق، ويحاولون تطويع الفكر الباديسي ليوافق هواهم وهوى سادتهم وكبرائهم، وقد بلغوا في هذا التطويع مبلغا عجيبا فادّعوا أن ابن باديس قد مسَّه طائفٌ من اللوثة العلمانية التي جاء بها مصطفى كمال أتاتورك الذي لا يرى الإسلامَ إلا هيكلا روحيا وطقسا دينيا لا صلة له بالمدنية وبشؤون الحياة، وادّعوا أيضا أن القيم الإنسانية التي دافع عنها ابن باديس تقرِّبه من الفكرة الماسونية التي تجعل من الأنْسَنة وسيلة لخداع الشعوب وجرِّها إلى فلكها، وادّعوا أيضا أن ابن باديس كان بوقا خفيا من أبواق فرنسا، يهاجمها في الظاهر ويهادنها في الخفاء، بل ذهبوا بعيدا في هذا الافتراء فزعموا أن الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله كان “حرْكيا” أي من “الحركى” مع أنهم يعلمون أن الرجل قد أسلم الروح قبل اندلاع ثورة التحرير بأربعة عشر عاما، وقد جاراهم في هذا الافتراء بعضُ السفلة والجهلة وأنصاف المتعلمين الذين اتخذوا من الإساءة إلى ابن باديس والفكر الباديسي ديدنا لهم، يرمون من وراء ذلك التشكيك في فكر ابن باديس الذي يكاد ينعقد حوله إجماع الجزائريين أكثر من أي فكر.
نحسب الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله واحدا من العلماء المصلحين الذين يبعثهم الله سبحانه وتعالى على رأس كل مائة عام ليجددوا للأمة دينها، كما في جاء في كتاب “الملاحم” لأبي داود: “يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”، ومن ثمّ، فلا غرابة في أن يكون ابن باديس رحمه الله هدفا لهذه السهام المسمومة التي لا يملك أصحابها قوة في الحجة بل قوة في اللجاجة، فمبلغهم من العلم أفكارٌ معادة وآراء مكررة، عافها أسلافهم فتلقفوها ونقلوها وحاولوا بعثها بعد موات، فكان حالهم في التلبيس كحال إبليس “كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين”.
إن افتراءات إخوان إبليس على ابن باديس في هذا العصر هي جزءٌ من الحملات المسعورة والمأجورة التي يقودها أبناء باريس ويعينهم عليها بعض المغرر بهم من مثقفينا الذين انسلخوا من دينهم وتنكروا لتراثهم. يتكئ خصوم ابن باديس وإخوانُ إبليس في إقناع بعض الرعاع بما يسمُّونه “الانحراف الخطير في فكر ابن باديس” على مرثيته لمصطفى كمال أتاتورك عقب وفاته عام 1938، وهو الذي يصفه رجال المشيخة والحركة الإسلامية بأنه “الشيطان الأكبر”، وشاهدهم في ذلك قول ابن باديس: “الآن، ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب؛ فيحوِّلون مجرى التاريخ، ويخلقونه خلقا جديدا؛ ذلك هو مصطفى كمال أتاتورك، باعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعزّ والسمو”.
لا ننفي صحّة نِسبة هذا المقولة إلى عبد الحميد بن باديس، فهي مقولة ثابتة في آثاره، ونفيُها هو نوعٌ من التدليس الذي ينافي الموضوعية ويجافي الحقيقة، ولكننا نؤمن بأن أي تفسير لهذه المقولة بفصلها عن سياق العمل الإصلاحي الذي قاده الشيخ بن باديس رحمه الله والظروف العصيبة التي نشأ فيها هو شكلٌ من أشكال الدجل الفكري، فالعمل الإصلاحي الباديسي يقوم على مباركة أي جهد إسلامي يروم خدمة الإسلام الذي كان يعاني في ذلك الزمان غربة لافتة للنظر، تجعل كل جهد لإعادته إلى مسرح الحياة جهدا مشكورا، وفي هذا السياق جاءت مرثية الشيخ بن باديس رحمه الله لمصطفى كمال أتاتورك، فهذا الأخير لم يتبيَّن كثيرون حقيقة أفكاره الهدامة، فخُدعوا بها وانساقوا إليها، ولا عجب أن يكون الشيخ بن باديس رحمه الله وهو من هو في فقهه وفكره واحدا ممن خُدعوا بهذه الأفكار؛ فمصطفى كمال أتاتورك قدَّم نفسه في البداية على أنه المخلّص للأمة من الإسلام الوراثي الذي اختلط فيه وحيُ النبي بسلطان الولي حتى أصبح عنوانا للشعوذة الدينية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكان من الطبيعي أن تلقى دعوته هذه ترحيبا من المسلمين في زمن ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، ويمكن تفسير سرّ مرثية ابن باديس لمصطفى كمال أتاتورك بأن الشيخ لم يتبيّن حقيقة أتاتورك ونظر إليه من خلال الصورة الوردية التي سوَّقها عن نفسه، فمن المرجح أن يكون قد حدث لابن باديس مع أتاتورك ما حدث لخليل الرحمان إبراهيم عليه السلام مع أبيه “آزر”، كما يحكي ذلك القرآن الكريم: “وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرَّأ منه إن إبراهيم لأوَّاهٌ حليم”.
إن أصالة فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله تمنعه من مباركة الفكر الكمالي الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، الذي منع الآذانَ وشدد الخناق على الدعاة وأعلن تمسكه بالثقافة الغربية وبفكرة فصل الدين عن الدولة. لقد جاء أتاتورك في زمن أوشكت فيه أركان الدولة العثمانية على الانهيار فكان في نظر المسلمين بمنزلة المنقذ والمخلّص الذي أنقذ تركيا من الانهيار المحتوم الذي يتحمل جزأه الأكبر بعضُ السلاطين العثمانيين الذين حولوا الإسلام إلى إسلام صوفي قُبوري طقوسي لا صلة له بالحياة ولا علاقة له بالحضارة. لقد جعل خصوم ابن باديس وإخوانُ إبليس من مرثية بن باديس لأتاتورك مطيَّة للطعن في شخصية وفكر ابن باديس واتهامه بمعاداة الخلافة الإسلامية، وجاراهم في ذلك بعض الجاهلين، فالخلافة الإسلامية التي يصر ابن باديس رحمه الله على رفضها هي الخلافة التي سعت بريطانيا إلى إقامتها على مقاسها وتنصيب قادتها وحكّامها ممن يخدمون رسالتها ويدافعون عن مجد إمبراطوريتها واستبعاد من تُشتمُّ منه رائحة خدمة رسالة الإسلام وإحياء مجد الحضارة الإسلامية.
وأما قول خصوم ابن باديس وإخوان إبليس بأنه كان يعادي فرنسا في الظاهر ويهادنها في الخفاء، فحسبنا للرد على هذا الهراء مقولة ابن باديس رحمه الله: “والله لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها”، ومقولته: “إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري”.
وأما طعن خصوم ابن باديس وإخوان إبليس في أصالة فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله فحسبنا للرد عليه ما كتبه Marthe et Edmond Gouvion في كتابهما “أعيان المغرب الأقصى” من أنه ينحدر من أسرة عريقة في النسب، عريقة في العلم، ومن رجالاتها المعز بن باديس الصنهاجي الذي عرف بمقاومة البدعة ونصرة السُّنة، فهل بعد هذه الشهادة “والحق ما شهدت به الأعداء” اعتدادٌ بالهُراء الذي يردده إخوان إبليس حيال فكر ابن باديس؟.