مواجهة الإصلاح للطرقية في وضعية استعمارية
بقلم: د. نورالدين ثنيو-
الإصلاح الديني مفهوم منافي للنظم الطرقية. وتاريخيا، جاءت الحركة الإصلاحية الجزائرية من أجل تجاوز الوضع الطرقي وحالة التكلس الديني التي سادت الجزائر طوال قرون من الزمن، بل إن الإصلاح في ذاته يشير بالتعريف إلى أنه دعوة إلى العودة إلى الدين على ما كان عليه العهد الأول من الإسلام، أي قبل ظهور الطرق، والفرق والمذاهب.
فالإسلام، كما جاء في «دعوة جمعية العلماء المسلمين وأصولها: «هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله، وكمّله على يد نبيه محمد الذي لا نبي بعده». كما «أن الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به».
وواضح أن هذا التعريف يقع على طرف مناقض تماما لما هي عليه ممارسات النظم الطرقية وشيوخها، التي اجتاحت ربوع البلاد وصارت تعبر عن تجليات وثنية، أو عن مظاهر الشرك على رأي الشيخ مبارك الميلي.
وتوكيدا على ذلك، أن الإصلاح حركة لتجاوز الأوضاع الطرقية والحد من غلوائها. وهذا ما تلمح إليه وثيقة «دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأصولها» إلى أن «القرآن هو كتاب الإسلام» وأن «السنّة، القولية والفعلية، الصحيحة تفسير وبيان القرآن» و»سلوك السّلف الصحيح، الصحابة والتابعيين وأتباع التابعين، تطبيق لهدى الإسلام» و»فهوم أئمة السّلف الصالح أصدق لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسّنة. الحقيقة، إن صياغة الشيخ ابن باديس لهذا البيان حول دعوة جمعية العلماء وأصولها، جاء في سياق تاريخي حاد وعصيب في حياة الحركة الوطنية الجزائرية، خاصة بعد المؤتمر الإسلامي الذي عقد يوم 7 يونيو 1936. فقد انخرطت النخبة السياسية والمثقفة في جدل عام حول مسألة الأمة الجزائرية ومطلب الجنسية وإشكالية الحق في المواطنة، مع إمكانية الاحتفاظ أو التخلي عن النظام الإسلامي للأحوال الشخصية.
وكان لجمعية العلماء المسلمين النصيب الأوفر في هذا الجدل العام، بداية من التحضيرات إلى المؤتمر وصياغة مع بقية المؤتمرين «كراس مطالب الشعب الجزائري» وليس انتهاءً بتقديم هذه المطالب إلى السلطات العليا في المتروبول. وعليه، وخلال التجربة التاريخية، نلحظ جيدا، البعد التجديدي في مسار الحركة الإصلاحية، التي سعت دائما الى أن تساير الوضع العام، في كافة مظاهره السياسية والثقافية والاجتماعية، على أساس أن الإسلام نظام شامل وعام ولكافة الناس، وليس للخاصة من شيوخ وأولادهم والأولياء وأتباعهم، كما هي عليه بنية نظم الطرق، من زوايا وقبب وأضرحة ومراقد.
وعلى خلاف النزعة الطرقية القائمة على المذهبية والأتباع وجماعة الشيخ، فإن الحركة الإصلاحية، كما يؤكد نشاطها، حركة برسم التطلع المتواصل إلى تعميم فائدة، وخدمة الإسلام الصحيح على المسلمين كلهم، دونما اعتبار للمذهب أو المنطقة أو القبيلة. الإسلام الصحيح، كما حددته الحركة الإصلاحية، هو الأنسب إلى الدولة ذات المؤسسات العمومية، التي تتعامل مع السكان بصفتهم المجردة كشعب بلا اعتبار للأصول أو الأعراق. فالدولة المدنية الحديثة تأبى أي سياسة جهوية، أو عشائرية، أو طبقية أو فئوية. ومن هنا، كانت تجربة الإصلاح ليست فقط مناقضة ومناهضة للطرقية، بل أيضا مخالفة ومعادية أصلا للإدارة الاستعمارية، التي اعتمدت إسلام شيوخ الطرق والزوايا «إسلاما رسميا» للجزائريين، وهذا ما يتنافى مع طبيعة ومفهوم دولة المؤسسات العمومية.
نشأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتطوّرت في سياق وجود مؤسسات الدولة ذات الشخصية الاعتبارية التي تقتضي دينا إسلاميا واحدا لكل المسلمين، خال من أي نزعة فئوية أو عنصرية أو جهوية، ومن هنا مفهوم الإصلاح ذاته عندما يتماهى مع الإسلام الصحيح، ويتناقض تماما مع النظم الطرقية في الأصل والفصل والغاية، لأن هذه الأخيرة، كما جاء في بيان «دعوة الجمعية وأصولها» قائمة على البدعة: «وهي كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة، ولم يثبت على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فعله، وكل بدعة ضلالة» و»الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السّلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ والتحيّز لأتباع الشيخ وخدمة الشيخ وأولاد الشيخ، إلى ما هنالك من استغلال وإذلال وإعانة لأهل الإذلال والاستغلال.. ومن تجميد للعقول وإماتة للهمم وقتل للشعور وغير ذلك من الشّرور».
إن مقاربة ابن باديس والحركة الإصلاحية بشكل عام لمفهوم الإصلاح، جعلته يعي تماما أن مقوِّمات الأمة صادرتها السلطة الاستعمارية عندما استولت طوال القرن التاسع عشر على الأوقاف الإسلامية وألحقتها بالدومين العام، كما أنها قيدت شؤون العبادات الإسلامية وألحقتها بالنظام الحكومي، وهو ما يتنافي تماما مع مبدأ فصل الدين عن الدولة، كما يقر بذلك قانون الفصل لعام 1905. فهو نوع من الاستيلاء الذي يجب أن يرتب، عبر الحركة التاريخية، حالة من المطالبة للجهة المحرومة منه، لأنه يتعلّق بحياتها ووجودها. فقد كان مطلب فصل الدين الإسلامي عن سلطة الدولة مطلبا اجتماعيا وجماعيا أيضا من قبل الجزائريين، الذين ألحوا دائما عليه، بداية من الشبان الجزائريين إلى أنصار حزب انتصار الحريات الديمقراطية. هذا الجانب كان متواريا عن المجال العام في الجزائر، ولم يكن النظام الفرنسي يسمح بظهوره، لأنه عن تجربة تاريخية، يدرك مآلات الحركة الإصلاحية وحيويتها على صعيد التطور العام في فرنسا وأوروبا بشكل عام، كما أنه يدرك القيمة الإجرائية لمبدأ الفصل الذي رسّخ النظام العلماني في إدارة الدولة والمجتمع، ومنح دينامكية جديدة للسلطات التي تشّكل منظومة الدولة الحديثة. فقد تقاطع تاريخ فرنسا مع تاريخ الجزائر، ومن ثم تقاطع التطوّر مع الحرمان، وحَثَّ الطرف المحروم على استعادة ما اغتصب منه، حتى لو تم ذلك عبر السياسة. وبالمختصر، نقول: إن الحركة الإصلاحية التي قادها ابن باديس في الجزائر هي في جزء كبير منها محاولة لاستعادة مقوِّمات الذات الجزائرية من إسلام وعربية، وهي حالة تاريخية قلمّا سادت منطقة من مناطق العالم العربي والإسلامي. فإذا كانت الحركة الإصلاحية قد اجتاحت كل العالم العربي، إلا أنه وجد تفاوت أيضا في التعبير عن هذا الإصلاح، من حيث الإثراء والتنويع ومن حيث الطرق والمسالك.
أخيرا، فالتجربة التاريخية، أكّدت مع التحليل التاريخي، أن الإسلام الطرقي، الذي اعتمدته السلطة الحاكمة كدين رسمي للجزائريين، أظهر وجها استعماريا للدولة الفرنسية، بينما تجربة الحركة الإصلاحية أكدت بصورة قاطعة توجهها التحرري في مجالات الدين والعلم والاجتماع وحتى السياسة. فقد كانت حركة من أجل تصفية الدين الإسلامي مما علق به من أدران البدع والخرافات المكبلة للوعي والتطور، كما كانت حركة من أجل تصفية الاستعمار من الدولة الحديثة، ذات المؤسسات العمومية.
كاتب وباحث جزائري