دور جمعية العلماء في المقاومة والجهاد، والإصلاح والبناء
بقلم: محمد مكركب-
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، هي الجمعية الرائدة والـمرجعية الدينية الراشدة، في الجهاد والإصلاح والدعوة إلى الإسلام في الجزائر منذ أكثر من تسعين سنة في تاريخ جمعية أم الجمعيات، بدأت الجهاد بالقرآن الكريم، والتربية والتعليم، وجمع صفوف الجزائريين والجزائريات، بِنَشر الوعي، والسعي الجاد لإخراج المجتمع الجزائري والـمغرب الإسلامي عموما من الأمية، والتقاليد البالية، والخرافات، والشعوذة، والعجز، ومن الخضوع للأوروبيين الـمستعمرين حسيا ومعنويا. كان ذلك ابتداء من سنة 1924م بتعاون نخبة من العلماء الـمصلحين المجاهدين منهم العالمان الـمفكران الفقيهان المربيان (عبد الحميد بنُ باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي) وغيرهما من العلماء الدعاة أمثال العربي التبسي، والطيب العقبي، ومبارك الميلي، والفضيل الورتلاني، ومحمد الأمين العمودي، ومحمد خير الدين، وغيرهم كثير، الذين فقهوا مقاصد القرآن، واستجابوا لدعوة الرحمن، ومنها قوله تعالى لرسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين، عليه الصلاة والسلام. ﴿فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً﴾(الفرقان:52). فلما رأت جمعية العلماء أن الفرنسيين الكافرين جاءوا بالصليب ليحاربوا الإسلام، بدعوة التكفير والتنصير، قلنا لهم:(الإسلام ديننا). ولَمَّا كشروا عن أنيابهم ليفرنسوا التعليم، وَلِيُفَرْنَكْفِلُوا العقول، قلنا لهم:(العربية لغتنا) وعندما تبين من كيدهم تفريق الشعب إلى شاوي، وأمازيغي، وعربي، وإباضي، وترقي، وصحراوي، وشمالي، قلنا لهم:(الجزائر وطننا). فقام جهادنا في جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين على هذه الثلاثية الجامعة الـمانعة، التي هي شعار كل العلماء والـمثقفين والـمفكرين الجزائريين الوطنيين، الـمخلصين لوطنهم، إلا من شذ، فإننا نقول ونعمل:[ الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا] وعلى هذا قام جهادنا وفي مغربنا وإلى أي مدى بلغت دعوتنا الجهادية الحضارية، وعلى هذا تدوم دعوتنا ويدوم إصلاحنا وبناؤنا في جمعية العلماء، إلى اليوم وإلى أن يشاء الله رب العالمين.
قامت الجمعية في عهد الاستعمار بأعظم جهاد، وأقدس إعداد، وأجل إمداد، ولا ينكر دور جمعية العلماء في الجهاد الفكري والتربوي، والسياسي والاجتماعي، والحربي، إلا حاسد عاطل، أو حاقد جاهل، واسأل نفسك: فمن هو الذي كان يستطيع أن يقف في وجه الـمستعمر الفرنسي الكافر بعد احتلاله الاستيطاني للجزائر مدة قرن من الزمن، وهو يقول: الجزائر قطعة من فرنسا، وما كان يعتقد هو وأتباعه الـمتواطئون والـمخدوعون أن يخرج من الجزائر؟ ومن الذي كان يستطيع أن يقول يومها للمستعمر وهو يسجن وينفى ويقتل ويدمر بلا رحمة ولا أدنى حياء من جرائمه، من كان يقدر أن يصارحه بأرقى خطاب العزة والوطنية والهمة الجهادية العالية، وبأعظم عبارات الشجاعة والصراحة والبطولة غير جمعية العلماء الـمسلمين؟ لتقول للمستعمر:
شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
إلى الإسلام انتماؤنا لا إلى الصليب، واعتزازنا بهويتنا لا إلى التغريب. ومن كان له السبق والجرْأة في أن يقول للشباب الجزائري يومها:
خذ للحياة سلاحها *** وخذ الخطوب ولا تهب
هكذا تحرك جهاد جمعية العلماء الـمسلمين، في جزائر الجهاد والشهداء والـمصلحين، ضد الـمستعمر الفرنسي، ومن هنا بدأ إعداد الثوار والمجاهدين الذين لا يجاهدون لشخصية ولا لزعامة ولا لجهة ولا لطائفة، وإنما جهاد في سبيل الله لإخراج الـمستعمر الكافر، وتطهير أرض الجزائر من رجس لافيجري وكلوزيل وكل محتل فاجر، دفاعا عن القرآن، ولغة القرآن، وعن الجزائر سيدة الأوطان. قالت جمعية العلماء وعملت:
من كان يبغي ودنا *** فعلى الكرامة والرحب
ومن كان يبغي ذلنا *** فله المهانة والحرب
هذا البيان الجهادي الذي أعلنته الجمعية في الثلاثينيات هو الذي كان القاعدة والأساس للأربعينيات والخمسينيات.
فكان الهدف الذي تحركت على أساسه الجمعية والذي رسمته لثورة التحرير، هو: أن يجتمع الشعب حول قيادة واحدة، وأن لا ينخدع بوعود الـمستعمر، فكانت الجمعية هي القيادة الفكرية والـمرجعية الدينية والجهادية، وأن يكون الجهاد تحت راية الإيمان وبشريعة القرآن، وأن نتوكل على الله تعالى وحده، وأن نُعِدَّ للحرب ما استطعنا متوكلين على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
حاولت فرنسا أن تداهن الجمعية، فما فلحت، وحاولت أن ترهبها فما زاد ذلك علماء الجمعية إلا إقداما وبطولة وثباتا، ثم لجأ الـمستعمر كعادته إلى الـمكر والدسائس والخيانة، فدبرت فرنسا اغتيال (بن دالي كحول) واتهام أحد أبرز القيادات في الجمعية وهو (الطيب العقبي) وإلقاء القبض عليه، وأرادت فرنسا أن تضع الجمعية في قفص الاتهام لتنال منها ولتساومها من أجل التنازل عن أهدافها الدعوية الجهادية، وهي أهداف الشعب الجزائري، فما زادت تلك المحن الجمعية إلا عزما وثباتا في طريق الجهاد.
وها هو خطاب ابن باديس 2 أوت 1936م [بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الشعب الجزائري التاريخي القديم الـمسلم الصميم، الذي كلمته من كلمة الله، وقوته من قوة الله، أعددت مؤتمرا كما ينبغي أن يكون جلالا وروعة، فذلك مجلى إرادتك، ومظهر قوتك.. لقد كدت تكون مجهولا عندهم، لكن بأعمالك العظيمة، وبما قام به الوفد صرت معلوما، لدى من يعرف الحق، ويحترم الكريم، وينصف المظلوم…أيها الشعب لقد عملت وأنت في أول عملك، فاعمل، ودم على العمل، وحافظ على النظام، واعلم أن عملك هذا على جلالته ما هو إلا خطوة ووثبة، ووراءه خطوات ووثبات، وبعدها إما الحياة وإما الممات] انظر: (مظاهر المقاومة الجزائرية م.ط.ع. ص:143 منشورات المتحف الوطني للمجاهد).
إنه الخطاب السياسي الجهادي الذي ألقاه رئيس الجمعية بحكمة وذكاء، يدعو فيه الشعب الجزائري، للوحدة والاتحاد، وتمتين الإرادة الشعبية التي قوامها التوكل على الله تعالى، ودعا إلى الحرية، ثم إما الحياة في عز الإسلام والحرية الوطنية، وإما الـممات استشهاد في سبيل الله عز وجل. فكانت هذه الكلمات في تشجيع وتبصير الشعب وتثبيته أقوى وأعظم من كل مدافع فرنسا وجيش فرنسا، كانت الجمعية تعد النفوس والعقول قبل البندقية، فلما شب شباب الجمعية حملوا البندقية عن يقين وتضحية، فكان النصر بالله وجاءت الحرية.
لقد كان للجمعية العلمائية الدور العظيم في نهضة الشعب الجزائري ووحدته، ويقظته، كان ذلك بالجهاد العلمي القرآني الدعوي، والجهاد السياسي التربوي، فأنشأت الجمعية الـمدارس القرآنية ودعت إلى تعليم البنت الـمسلمة القرآن والسنة النبوية، حيث أوجبت الجمعية تعليم الـمرأة وإنقاذها مما كانت فيه من الجهل والغفلة، وتزويدها وأخاها الجزائري بالقيم الإيمانية، والـمعارف الثقافية، والعلوم الكونية والشرعية، وربطها بدينها وكتاب ربها، وتاريخها، وحضارتها.
وكانت الـمدارس من أهم أعمال جمعية العلماء، بالإضافة إلى العمل الإعلامي الأكاديمي الدعوي الواسع والْمُركَّز، على إنشاء الجرائد، منها: جريدة المنتقد، وجريدة الشهاب.كما أصدر الصحفي أبو اليقظان جريدة (وادي ميزاب) في سنة 1926م فعطلتها الحكومة الفرنسية بعد نحو عامين ونصف، ثم أصدر بعدها جريدة (المغرب) ثم (النور) ثم (النبراس) كما أسس الشيخ الطيب العقبي جريدة (الإصلاح) وكل هذا للتنوع والشمول والتغطية الإعلامية، وأبو اليقظان والعقبي وغيرهما كلهم من جمعية العلماء الـمسلمين، في خط جهادي واحد متكامل.
كما أنشأت الجمعية: جريدة السنة، والشريعة، والصراط السوي، والبصائر، بذلك كانت ولا زالت جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين إمام وحدة الفكر والأصول الحضارية في الـمرجعية الفكرية الجزائرية، واستعادت للجزائر هيبتها العلمية ومكانتها الحضارية، لتذكر في المحافل الدولية بعلمائها.
والذي يعد أكبر جهاد على الإطلاق هو الجهاد الفكري الـمتمثل في زرع روح الـمقاصد القرآنية الإيمانية في نفوس الجيل، وعلى هذا الصعيد عملت جمعية العلماء الـمسلمين على الوحدة الوطنية، إذ تُعَدُّ الجمعية أبرز الحركات الإصلاحية والثورية، بحيوية جهادية، وربط الجيل بالفكر الإسلامي الصحيح، وبمبادئ الإسلام على نهج الحق الصريح، فأقامت الجمعية نهضة إصلاحية مغربية إسلامية، بحفظ الوحدة الفكرية، والثقافية، واللغوية.
فالجهاد الأكبر هو جهاد الفكر، والـمنهجية الحضارية، لقد حاولت السياسة الاستعمارية الفرنسية إعداد جماعات منفصلة عن مقومات الشخصية الإسلامية، وعملت على تحويل الشعب الجزائري كله وإدماجه في الحضارة الأوروبية الرقيعة الخليعة، والثقافة الفرنسية الساقطة اللقيطة، قلت عملت فرنسا بقسيسيها ورهبانها وقوة جيشها، على مقاومة الشريعة الإسلامية، ومحاربة القرآن والسنة النبوية، ودعوتها القبيحة إلى الاندماج، والتنصير، والتجنيس.
وهنا وجدت الجمعيةُ نفسها أمام مسئولية عظيمة، هي مسئولية قيادة الشعب الجزائري في أصعب أيام تاريخ محنته، وكيف وبماذا تستطيع الجمعية نصرة الدين، وحفظ القرآن، والدفاع عن الشخصية الجزائرية، ووقايتها من الذوبان، بل والسيادة الـمغربية الإسلامية وحفظها من الاندماج في التيار الأوربي.
ولم تكتف فرنسا بفتح هذه الجبهة العدائية ضد الشعب الجزائري، وإنما عملت بالـمراهنة على لعبة أخرى لا تقل خطورة، وشناعة، وقبحا، هي شيطنةُ بَثّ الخلاف بين عناصر المجتمع الجزائري، فحاولت فرنسا أن تقنعنا نحن معشر الشعب الجزائري بأننا من سلالة أوروبية وأن لنا لغة خاصة ولا ينبغي لنا أن نتعلم ونعمل بلغة القرآن لغة الدين والعلم والبيان، وعملوا على لعبة العرقية بأن الفاتحين الـمسلمين غزاة، وأننا أهل البلد ننتمي إلى أوروبا ولا ننتمي لجنس الفاتحين، وغير ذلك من التحريش الخسيس، من ألاعيب إبليس.
كل هذه المحاولات باءت بالفشل أمام حكمة وتضحية وجهاد جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين بفضل الله تعالى وهو ولي الـمؤمنين. وقفت فرنسا بتلك المحاولات الاستعمارية لتمزيق وحدة الشعب الجزائري، وقامت الجمعية بتلك الوقفات الجهادية لوحدة الشعب والفكر والمرجعية.
جمعية العلماء المسلمين ومنْ *** للمسلمين سِوَاك اليومَ مَنْشُودُ
خاب الرجا في سِوَاك اليومَ فاضْطَلعي *** بالعبء، مُذْ فَرَّ دجَّالٌ ورِعْدِيدُ
سيروا ولا تهنوا فالشعبُ يَرْقُبكم *** وجاهِدُوا فَلِوَاءُ النصرِ مَعْقُودُ
أمانةُ الشعبِ قدْ شُدَّت بعاتِقِكم *** فما لِغيركُمْ تُلْقَى الـمقالِيدُ
وطهروا النفس بالأخلاق واتحدوا *** ففي اتحادكم للخصم تبديد
(مفدي زكريا)
والفضل الكبير كذلك لجمعية العلماء ليس فقط في جهادها ورد كيد الاستعمار، وحفظ الوحدة الوطنية من التمزق والاندثار، إنما كان الفضل ولا يزال لعلمائها في:(تجديد الدين والفكر، والعمل على إخراج العمل الدعوي الفكري الإصلاحي من دوائره الفردية الضيقة إلى رحاب ومتانة وقداسة العمل الجماعي الـمؤسسي الـمنظم على مستوى إجماع علماء كل الوطن، وفضل الجمعية في تأسيس العمل الدعوي الـمؤسسي الجماعي فضل عظيم) والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
قال الدكتور روجي جارودي:( إن رجال جمعية العلماء حاربوا التعليم الاستعماري الهادف إلى تحطيم مقومات الشخصية وقطع الطفل الجزائري عن الثقافة العربية الإسلامية) [ز.بنرحال. دار الهدى 1997م] وبتأثير التربية العلمائية تربى الشباب الـمقاوم الصامد، فكان الجيل الذي صنع الثورة الجهادية النوفمبرية التاريخية الفاتحة للمغرب العربي الإسلامي.
قلت: (تعد جمعية العلماء الأساس الذي لا غنى عنه في حفظ الكيان الفكري والـمرجعية الدينية والثقافية للجزائر الـمعاصرة، بمنهجها التربوي الإصلاحي والـمنهجية السياسية الرائدة في تثبيت وحفظ وحدة الأمة، وسيرها الآمن نحو الـمستقبل، وكلما قويت الجمعية واجتمع العلماء في موكبها كلما كان ذلك عامل قوة وثبات لـمستقبل الدولة الجزائرية في كامل عزها وسيادتها).