الشيعة بين سلامة موسى وعبد الحميد بن باديس
بقلم: فوزي حساينية-
من المعروف أن الفترة التي نشط فيها الإمام عبد الحميد بن باديس وهي الفترة الممتدة من سنة 1913( بداية تدريسه في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة ) إلى سنة 1940( السنة التي توفي فيها ) كانت هي الفترة التي بلغ فيها الاستعمار الفرنسي أوج قوته وجبروته، وسخَّر فيها كل قواه المادية والثقافية للقضاء على أية إمكانية أو احتمال لخروج الجزائر عما هو مخطط لها على مدار أكثر من قرن من الزمان، وقد كان ابن باديس في في عمله التربوي النهضوي سواء الذي يضطلع به باسمه الخاص أو باعتباره رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين يحرص كل الحرص على التواصل مع ما يُنشر في صحف ومجلات المشرق العربي إن تعلق بشؤون الجزائر المُستَعمرة، أو ما تعلق بشؤون العروبة، وقضايا المسلمين بوجه عام، فكان يعيد نشر الكثير من الأمور في صحافة الجمعية،أو صحفه الخاصة، يؤيد بعضه، ويعترض على بعضه الآخر، محللا ومعللا، ومبرزا لوجهات نظره في وضوح وأناقة فكرية وجمالية تثير الدهشة وتفرض الاحترام.
وقد كان حرص الجزائريين بوجه عام على الاتصال بما يُنشر في الصحافة المشرقية، بل وقيامهم بالكتابة والنشر فيها جزء من مساعيهم للالتفاف على الحصار الحديدي الخانق المضروب على الجزائر من قبل الإدارة الكولونيالية التي كانت تشتبه بأدنى بادرة من هذا القبيل، ولا تتردد أبدا في اتخاذ أقصى الإجراءات لضرب وإحباط مثل هذه المبادرات ، ولو كانت محدودة،وقد حدث أن نشر الكاتب المصري المعروف سلامة موسى كتابا تناول فيه بعض المسائل التي رأى إبن باديس أنها جديرة بالرد عليها ، وقد أورد ابن باديس ما كتبه سلامة موسى كما يلي:
( ..كتب الأستاذ سلامة موسى في كتاب ” تاريخ الفنون وأشهر الصور ” في فصل ” الفنون الإسلامية ” يقول : ” وقد نزع الإسلام نزعة توحيدية وجعل للتوحيد المقام الأول في الإيمان فتأثرت الفنون من هذه الناحية بحذف كل ما يختص برسم الإنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما، وذلك لأن الصور والتماثيل تُومئ إلى الأوثان التي يُخشى على التوحيد منها ، ولكنا نجد أمتين اسلاميتين هما: الفرس ، ومصر (مدة الفاطميين ) تسامحتا بعض التسامح في الرسم والنحت حتى كانت تُرى في قصور الفاطميين مناظر الرقص والصيد والغزلان، وكانت كتب الفرس وقصورهم تزين أيضا بصور الحيوان والنبات، ولكن هذا لا يطعن فيما نثبته من معارضة الإسلام لهذين الفنين بل هو أجدر أن يؤيد ماقلناهُ، وذلك لأن فارس ليست سنية، وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية، والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين..). وبعد أن أورد ابن باديس كلام الأستاذ سلامة موسى، علق عليه بقوله: ( لاشك أن حضرة الكاتب يجهل أن جمعا كبيرا من علماء الإسلام لا يمنعون من الصور ماكان مثل رقم في ثوب، وإنما يمنعون ما كان تمثالاً تام التصوير، وليس جهله بهذا هو الذي يدعونا إلى الإنكار عليه، ولكن قوله : ” والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام ” هو الجدير بكل إنكار فقد حسب نفسه لما عرف شيئا من تاريخ الفنون أنه عارف بمذاهب ألإسلام فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه. وهذا الكاتب لم يكفه أن ينفي – في أكثرما يكتب- عن الإسلام كل ما يحسبه فضيلة حتى جاء يحاول أن ينفي عنه أمما كاملة من أبنائه ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح الغرور)(1).
وإذا فالإمام عبد الحميد بن باديس لم يكن موافقا على رأي الكاتب سلامة موسى في موقف الإسلام من الفن بوجه عام، ولكنه أوضح أن مادفعه للرد ليس هذا الجانب الذي هو جانب عادي يخضع للنقاش والأخذ والرد، ولكن ما أنكره تماما من رأي سلامة موسى هو اعتباره ” التشيع نوعا من الانشقاق عن الإسلام ” الأمر الذي رفضه ابن باديس بشكل حاسمٍ، وأعتبره محاولة من الكاتب لإخراج أمما بأسرها من ملة الإسلام، ولكي نقف على أهمية هذا الموقف الرافض للتفربق بين المسلمين انطلاقا من انتماءاتهم المذهبية، يكفي أن نرصد المعطيات التالية:
أولا: أن ابن باديس قد كتب رده هذا على سلامة موسى سنة 1930، وإذا نحن قارنا هذا الموقف الفكري الباديسي المُبكر، بما يقوله البعض في مختلف القنوات الفضائية، أويكتبونه في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية ندرك إلى أي مدى انحدرنا في وهاد التعصب والتطرف، فإبن باديس لم يكن يؤمن إطلاقا بمقولات من طراز ” الروافض” و ” النواصب ” التي باتت تشكل اليوم رأس مال الكثيرين من هنا أو هناك، وأداتهم في شن حروب مذهبية تسييء إلى الإسلام والمسلمين قبل كل شئ.
ثانيا: إن موقف إبن باديس في رفضه إخراج الشيعة من دائرة الإسلام كما أراد الكاتب سلامة موسى، وكما أراد أخرون قبله، ومن بعده، هو موقف ينبثق من إدراكه العميق لعالمية الإسلام وإيمانه وتمسكه بوحدة الأمة الإسلامية، فالإسلام جاء للناس كافة ، ويستحيل أن يُصبَّ أو يُقولب في إطار رؤية مذهبية واحدة.
ثالثا: أن إبن باديس كعالم مسلم، واسع الإطلاع وصاحب رؤية تحليلية للأمور، كان على معرفة بكثير مما كُتب في تاريخ الثقافة الإسلامية من كتب ومؤلفات عن العداء بين السنة والشيعة، ومن تهجمهم على بعضهم بعضاً، ولكنه ومن خلال موقفه هذا، أثبت أنه يملك القدرة على التحرر من المقولات الضيقة، والاستعلاء على المواقف والدوافع المذهبية والطائفية التي تصطدم بعظمة الإسلام ومبادئه الكبرى،كدين قادر على استيعاب الشعوب والأمم في إطار من الإنسانية التي تنصهر فيها الثقافات، وتتفاعل بفضلها الخصوصيات كأعمق وأجمل ما يكون الانصهار والتفاعل الإنساني.
رابعا:قد يكون المجال مناسبا هنا للتذكير بموقف الإمام عبد الحميد بن باديس من مسألة الجهود التي انخرط فيها البعض من علماء وسياسيين وإنتهازيين لإعادة بعث وإحياء الخلافة الإسلامية بعد أن قام كمال أتاتورك بإلغائها، فقد اعتبر ابن باديس تلك المحاولات والجهود، محض تضييع للوقت، وهدر للجهود، وتضليل للشعوب العربية الإسلامية، إذ تساءل : كيف يمكن لشعوب ترزحُ تحت وطأة السيطرة الاستعمارية، ولا تملك من أمرها شيئا أن تكون قادرة على النهوض بأعباء التأسيس من جديد للخلافة الإسلامية التي يُفترض أنها ستمثل شعوبا وأمما كثيرة !؟ وأكد على أن الأولوية يجب أن تكون للعمل من أجل الارتقاء التربوي والثقافي بحال الشعوب المستعبدة، كخطوة لابد منها قبل التفكير في أي مشاريع سياسية أو ذات أهداف سياسية كبيرة.
وأخيرا، لاشك وأن المشكلة ليست في تعدد المذاهب فتلك حقيقة تاريخية حضارية إذ لايمكن كما سبق القول أن نفرض على المؤمنين بدين معين أن يتقولبوا جميعا في قالب مذهبي واحد، فظروف الجماعات تختلف من بلاد إلى بلاد، ومن عصر إلى آخر، ولكن التحدي يكمن أساسا في قدرتنا على الاستفادة من هذا التنوع، لبناء ثقافة للعيش المشترك، والاحترام المتبادل، والتعاون المثمر، ولكننا كمسلمين اليوم نوشك بخلافاتنا وخصوماتنا أن نجعل من الإسلام دينا غير قابل للتبشير به، وغير جاهز لتقديم مبادئه ورؤاه الإنسانية العظيمة لمختلف الشعوب والأمم، ومن هنا أهمية التذكير بأفكار ومواقف رائد النهضة الجزائرية الإمام والمفكر عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
كاتب جزائري
(1)- أنظر آثار إبن باديس، للدكتور عمار طالبي، الجزء الأول من المجلد الثاني، قسم الإصلاح والثورة ضد البدع، الصفحتين 12و13، والكتاب متوفر على الشبكة لمن يريد تحميله.