البنك الإسلامي فكرة إصلاحية سنة 1928
بقلم: نور الدين رزيق-
يرجع كثير من الباحثين أن فكرة المصرفية الإسلامية قد برزت في أربعينيات القرن الماضي، كما ذكر ذلك صاحب كتاب: "الإسلام ونظرية الفائدة" أنور إقبال قريشي، وأيضا إلى ما ذكره محمد حميد الله في مقالة تحت عنوان: "مؤسسات القرض الخالية من الفوائد"، والحقيقة أن هذه الفكرة ظهرت قبل ذلك بعشرات السنين أي إلى نهاية عشرينيات القرن العشرين.
فقد كتب الشيخ إبراهيم أبو اليقظان من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعضو مكتبها الإداري مقالة تحت عنوان: "حاجة الجزائر إلى مصرف أهلي" ونشرت في صحيفة "وادي ميزاب" بتاريخ 11 محرم 1347هـ الموافق 29 يونيو 1928م.
ويرجع في إخراج هذه المقالة وإحيائها بعد ممات الدكتور محمد ناصر في كتابه: "المقالة الصحفية الجزائرية" حيث قال (ج2/90): أشكر محمد أبو اليقظان نجل الشيخ إبراهيم أبو اليقظان على موافاتي بصورة للمقالة الأصلية بعد أن طلبها من الأستاذ محمد ناصر المهتم بجمع التراث العلمي للشيخ إبراهيم أبي اليقظان حيث اطلعت على هذه المعلومة في بداية جانفي من عام 2007م ولم أحصل على المقالة إلا في 12 نوفمبر 2011م بعد إنشاء موقع الشيخ إبراهيم أبو اليقظان الالكتروني والاتصال بالمشرف عليه وهو نجله محمد أبو اليقظان.
وكان الشيخ أبو اليقظان قد دعا أعيان ورجال الأعمال في المدن الجزائرية الكبرى إلى بلورة فكرة المصرف وفق قواعد الفقه الإسلامي، وقد لقيت دعوته ترحابا من قبل كبار رجال الأعمال القاطنين بمدينة الجزائر فقدموا ملفا كاملا لإنشاء مصرف باسم "البنك الإسلامي الجزائري" لكن سلطات الاحتلال الفرنسي قابلته بالرفض، لكونه في رأيها يشكل خطرا على مصالحها الحيوية وبالخصوص مصالح المعمرين والمصارف التقليدية التي أساس معاملاتها الفوائد الربوية.
إن هذه المبادرة تفند الأطروحة القائلة أن أول فكرة لتجسيد المصرفية الإسلامية على أرض الواقع ترجع إلى أواخر الخمسينيات في باكستان، وذكر بعض الباحثين أن هذه الفكرة كانت في الستينيات عبر مشروع صناديق الادخار المحلية بمصر ومشروع صندوق الادخار للحج بماليزيا.
إن القصد من كتابتي لهذا الموضوع ليس إبراز من كان له فضل السبق في إخراج هذه الفكرة: المصرف الإسلامي، ولكن يبين لنا مدى إدراك واهتمام رجال الإصلاح بالواقع الاقتصادي ومعلوماتهم عن الاقتصاد والمعاملات المالية.
مع العلم أن الشيخ إبراهيم أبو اليقظان بفكرته ومشروعه هذا واجه تهمة من قبل قاضي محكمة مدينة الجزائر وهي التفريق بين الأهالي والفرنسيين بتاريخ (03 ماي1929م).
والشيخ أبو اليقظان ارتكز طرحه لهذا المشروع على تحليل للواقع الاقتصادي الذي كان يشهده العالم في الربع الأول من القرن العشرين وهذا التحليل قريب من طرح الشيخ عبد القادر المجاوري (1848-1914م) والشيخ عمر بريهمات (1859-1909م) في كتابهما: "المرصاد في مسائل الاقتصاد".
ويتلخص هذا الطرح في النقاط التالية:
إن المشاريع الكبرى ترتبط بأرباب رؤوس الأموال الكبيرة.
استحالة بناء اقتصاد قوي دون رؤوس أموال كبيرة حيث قال: إن الرجوع إلى الحياة الأولى من ضروب المستحيل وحيث لا محيص لنا من مجاراة ظروف الزمان والمكان محافظة على وجودنا وكياننا ولا سبيل لذلك إلا بتوسيع نطاق أعمالنا ومشاريعنا في هذه الحياة وحيث لا يمكن ذلك إلا برؤوس أموال كبيرة.
لا يمكن الحصول على رؤوس الأموال الكبيرة من دون إقراض من المصارف التي تتولى حفظ ودائع المدخرين، يقول المؤلف: وحيث إننا لا نملك منابعها ولا تجدها إلا في مصارف أجنبية.
الطريقة الوحيدة المتاحة للحصول على رؤوس الأموال تقوم على الاقتراض بالفائدة المحرمة شرعا.
الواقع المفروض يجد رجال الأعمال المسلمين أنفسهم بين خيارين: الاقتراض بالربا أو حصر نشاطهم الاقتصادي في المشاريع الصغيرة وبالتالي تكريس التبعية الاقتصادية.
يقول المؤلف: فإنه يجب على قادة الأمة ومفكريها وعلمائها أن يتبادلوا الرأي في وجه الحل لهذا المشكل، والأمة كما نراها مرتطمة في حريق الربا، مرتمية في أحضان المصارف الأجنبية ثم يقول: "وأنا أدلي برأي هنا علّه يكون فاتحة البحث ونواة التفكير أمام الباحثين والمفكرين".
يقول المؤلف: "لحل هذه المشكلة هو أن يقوم بعض متنوري الأمة بفتح مصرف أهلي يؤسس على القواعد الإسلامية المقررة في الفقه الإسلامي ويسير بأساليب البنوك العصرية برؤوس أموال الأثرياء من المسلمين في عاصمة الجزائر أو قسنطينة وبربط صلاته على المصارف الأخرى الأجنبية على قاعدة تعيين الوكلاء منها يعرفون كيفية التعامل الإسلامي لتسهيل التبادل معها بما لا يخرج عن قواعد الإسلام"، ويقول في نهاية المقالة: "يا قوم أن هبوا لتأسيس الشركات وإنشاء المعامل وإقامة المشاريع الكبرى".
مثل هذا التحليل العميق، يُفنّد الفكرة القائلة بأن علماء الإصلاح الجزائريين لا يفقهون الواقع الاقتصادي وتحولات العصر، ويُظهر طرح الشيخ أبي اليقظان بأن فكرة المصرفية القائمة على قواعد الفقه الإسلامي لم تنشأ من فراغ، بل انبثقت من جراء الاحتكاك بالمصارف والانجازات الصناعية الأوربية.
وقد أشار فقهاؤنا إلى أن الإنسان إذا لم يكن في تقدم فهو في تأخر، ومن لم تكن همته التقدم فهو في تأخر ولا يشعر، فإنه لا وقوف في الطبيعة ولا في السير، بل إما إلى قدام وإما إلى وراء. مدارج السالكين (ج1/474).
لقد روج المستشرقون الشبهة القائلة بأن الإسلام هو المسؤول عن التخلف الاقتصادي للأقطار الإسلامية والهدف منها هو وضع المسلمين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تتخلوا عن دينكم، وإما ستظلون في بؤسكم.
وقال آخرون أن التعاطي مع الفوائد الربوية أمر لا يمكن الاستغناء عنه في الاقتصاد الحديث.
لقد اختار الشيخ أبو اليقظان الظرف الزماني والمناسبة في الردّ على هذه الادعاءات، ودعوة للتمرد على سياسة الحكومة الفرنسية التي كانت تستعد للاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر.
مما جعل لهذا المشروع القبول من قبل أعيان وأغنياء مدينة الجزائر الذين كانوا من وراء تأسيس نادي الترقي، يذكر المؤرخ أحمد توفيق المدني (1829-1983م) في مذكراته: "ذكريات كفاح" أن نادي الترقي قد دفع مشروع إنشاء مصرف إسلامي بمساندة بعض كبار رجال الأعمال مدينة الجزائر من المسلمين واختاروا له تسمية: "البنك الإسلامي الجزائري" وصاغوا قانونه الأساسي وجمع رأسمال الاسمي والعيني، وعُيّن رئيسا له السيد عمر بوضربة ومجلس إدارة من المساهمين.
والخلاصة أن علماء الإصلاح في الجزائر ساهموا بشكل فعال في إثراء الفكر الإسلامي وإرساء الحضارة الإسلامية.