المقاومة الثقافية للأمير عبد القادر من خلال التعليم
بقلم: أحمد بن داود -
اهتم كثير من الباحثين والدارسين بتاريخ الأمير عبد القادر ومقاومته للاستعمار الفرنسي، لكن في دراساتهم العديدة ركزوا بالخصوص على الجانبين العسكري والسياسي لهذه المقاومة، حيث أن الأمير “المحارب” أخفى الأمير “العارف”، و”العالم”، و”المدرس” …
إن هذا التوجه في الدراسات التاريخية حجب عنا مساحات كبيرة من تاريخ الأمير الذي بقدر ما كان عسكريا وسياسيا محنكا كان رجل فكر وعلم، عميق المعرفة في علوم الدين والدنيا، وله آراء في مختلف قضايا عصره الفكرية والمعرفية، لهذا فليس من الغريب أن يفتح جبهات متعددة في مقاومته للاستعمار الفرنسي، إذ إلى جانب مقاومته العسكرية والسياسية مارس مقاومة ثقافية وفكرية عكسها اهتمامه بالشأن الثقافي أثناء تنظيمه لدولته، وكل ما يرتبط بذلك من تعليم ومكتسبات…، وذلك بغرض تحقيق معالم مشروعه الحضاري التجديدي على أساس أن الأمير كان أحد رموز الحداثة العربية الإسلامية وأحد رجالات النهضة في العالم العربي الإسلامي. لهذا فكثير من التساؤلات تتبادر إلى ذهن الباحث: لماذا أعطى الأمير هذه الأهمية للتعليم في إطار هيكلة دولته؟ وما هي مظاهر هذا الاهتمام؟ وكيف سير منظومته التعليمية؟ وما هي طبيعة مجهوداته في مجال حفظ الكتاب وبناء المكتبات؟
أسباب وعوامل اهتمام الأمير عبد القادر بالتعليم
في إطار هيكلة دولته وبنائها، سواء في الميدان الاقتصادي أو العسكري أو الإداري أو القضائي أو الثقافي، نال التعليم حظا وافرا من اهتمام الأمير وذلك للاعتبارات الآتية:
– التكوين الجاد الذي تلقاه الأمير سواء في زاوية أبيه بالقيطنة، أو في أرزيو على يد أستاذه أحمد بن طاهر، قاضي المدينة، وولعه الشديد بالدراسة منذ فتوته الأولى. في مذكراته لا يخفي الأمير إعجابه بجو الدراسة داخل الزاوية إذ يقول في هذا الخصوص: “… وأما طلبة القرآن الذين قرأوا القرآن والعلم بقريته المذكورة فلا يحصون كثرة ولا يعدهم عاد… لا يخلو موضع قراءتهم من خمسمائة إلى ستمائة بحيث لا يسمع المار إلا دوي القرآن في كل وقت مع تدوين العلم بأكثر أنواعه بمسجدها … وكانت فيه نحو السبع مجالس للتدريس …”(1)
– تقاليد عائلة الأمير العريقة والتي تقوم على تقدير العلم والعلماء، فأبوه محي الدين كان شيخ زاوية ويلقي بها دروسا في الدين والتشريع، وألف كتابا بعنوان “إرشاد المريدين”(2) باعتباره كان مقدم الطريقة القادرية التي ورثها عن أبيه الحاج مصطفى بن المختار الراشدي، والذي أخذها بدوره عن الشيخ الزبيدي بمصر.(3)
إن هذه المعطيات تقدم لنا صورة جلية عن الجو الثقافي والديني الذي كان يطبع بيت الشيخ محي الدين والذي كان يعرف توافد العلماء والفقهاء والشيوخ لحضور الندوات الدينية التي كان يحضرها كذلك الطلبة من مختلف جهات البلاد.
– إدراك الأمير عبد القادر أن نجاح مقاومته للاستعمار الفرنسي رهينة بمدى انتشار الوعي القومي بين مختلف فئات المجتمع الجزائري(4) وتكوين نخبة واعية بمخاطر السياسة الاستعمارية، وخاصة في الميدان الثقافي، وقادرة على استيعاب كنه وعمق مقاومته التي لم تكن مجرد مواجهة عسكرية وسياسية مع الاستعمار الفرنسي، بل مواجهة حضارية مع الغرب الرأسمالي، الذي تشكل فرنسا أحد قواعده الهامة، وذلك بأبعادها العلمية والتقنية والعسكرية.(5)
فالأمير عبد القادر الذي بفعل إدراكه لأهداف السياسة الاستعمارية في ميدان التعليم والقائمة على مراقبة التعليم الديني الحر وعرقلة نشاطه بغرض إفراغ المجتمع من نخبه الدينية والفكرية وتدمير منطق إنتاجها(6)، كان يريد أن يعطي لمقاومته كل الأدوات والوسائل الكفيلة بتحقيق النصر، بما في ذلك نخبة من الطلبة قادرة على استيعاب مشروعه الحضاري التجديدي الهادف إلى فك الخناق عن التجديد الفكري(7) باعتباره “كمنطلق النهضة الحضارية والخروج الواعي ما نسميه بالغفلة المعرفية”.(8)
تنظيم التعليم في دولة الأمير
كان نشر التربية والتعليم في الجزائر على النمط الحديث من الانشغالات الهامة للأمير، لهذا فقد عمل على تنظيم مختلف مستوياته وأطواره وفق ما يلي:
– الطور الابتدائي: يستغرق أربع سنوات تقريبا، ويتعلم الطفل خلالها مبادئ القراءة والكتابـــــة وبعض مبادئ الحساب، ويحفظ القرآن(9). وقد تم بناء المدارس في المدن والكتاتيب في القرى إذ في كل قبيلة من القبائل كانت هناك خيمة تدعى الشريعة يشرف عليها مؤدب يختاره سكانها.(10)استعان الأمير في هذا الطور بالزوايا خاصة وعمل على تطويرها وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من أسباب المعرفة ووسائلها، سواء تعلق الأمر بالمعلمين أو الفقهاء أو الكتب والمراجع، وذلك لأنها كانت الشبكة التربوية الوحيدة المتاحة آنذاك لمواجهة متطلبات المرحلة.(11)
– الطور الثانوي: ويطلق عليه بعض الدارسين الطور الإكمالي(12)، إذ عندما يتفوق التلامـيـــــذ وتظهر عليهم بوادر النبوغ، ينتقلون إلى هذا الطور، حيث يواصلون تعليمهم مجانا في الجامع أو الزاوية أو مدرسة ملحقة بالأوقاف. وكانت الدروس تشمل النحو والتفسير(13) والتاريخ والإلهيات.
– التعليم العالي: حسب أديب حرب، لا يوجد هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي، فالأستاذ الذي يدرس في هذه المرحلة يسمى عالما ويتقاضى أجره من الأوقاف، وكانت الدروس تشمل النحو والفقه والحديث والحساب والفلك والتاريخ …، ويتلقاها الطلبة إما في الزوايا أوفي الجوامع.(14)
مظاهر اهتمام الأمير بالتعليم
تظهر الأهمية الكبرى التي أعطاها الأمير عبد القادر للتعليم من خلال موقفه من العلماء والطلبة وطريقة تنظيمه لهذا القطاع في دولته ويتمثل ذلك فيما يلي:
– تعيينه في حكومته لناظر للأوقاف، وهو الحاج الطاهر أبو زيد، الذي كان يتولى العناية بكل ما
يتصل بالأوقاف والمساجد وربط التعليم بإدارته.(15)
– ترتيب المعلمين وتقديم مرتبات لهم حسب درجاتهم العلمية(16) وكفاءة كل واحد منهم، وكان الأمير يحيطهم باحترام وتقدير متزايدين، وقد حدث أنه عفا عن أشخاص ارتكبوا جرائم كبيرة بسبب أنهم معلمون مبررا موقفه هذا بأنه لن يقدم على إعدام شخص تطلب تكوينه سنوات طويلة(17)، وبذلك يعبر الأمير عن موقفه الإنساني السامي وعن سماحته إذ يعطى فرصة لمجرم للتكفير عن ذنوبه وإعادة تربيته وإدماجه من جديد في المجتمع.
– تخصيص مساعدات لطلاب العلم وشيوخ الزوايا ورعاية المؤسسات الدينية والثقافية.(18)
– جعل التعليم مجانيا وفي متناول الجميع، والتكفل التام بالطلبة، وحسب إدريس الجزائري فإن الأمير أول من ادخل نظام الوجبة الغذائية المدرسية(19) وهذا نظام جديد ومبتكر في ذلك الوقت. إضافة إلى ذلك فقد تم إعفاء الطلبة من الضرائب والمطالب الأميرية على مختلف أنواعها.(20)
– إقامة مكتبة عامرة ووضعها في خدمة الطلبة والعلماء، وجمع الكتب والمخطوطات لهذا الغرض من داخل وخارج البلاد، وتزويد الزوايا والمساجد بها، وقد بلغ عدد كتب ومخطوطات مكتبة الأمير المتنقلة عند مهاجمة عاصمته الزمالة من قبل الدوق دومال حوالي 5000 كتاب ومخطوط.
– تشجيع المتفوقين من الطلبة وتقديم منح خاصة لهم.(21)
إن هذا التنظيم المحكم للمنظومة التعليمية للأمير عبد القادر والتقدير والعناية التي كان يخص بهما العلماء والطلبة لتعطينا صورة صادقة لتجربة الحداثة العربية الإسلامية في القرن 19 في الجزائـر والتي لم يعادلها في العالم العربي الإسلامي إلا تجربة محمد علي في مصر(22). ولو أتيحت لتجربة هذا الأخير أن تنضج في مصر ولتجربة الأمير عبد القادر أن تتواصل في الجزائر لتغير مجرى الأحداث في الوطن العربي(23)، لكن القوى الاستعمارية آنذاك لم تكن لتسمح بذلك نظرا للخطر الذي كانت تشكله التجربتان على مصالحها في المنطقة العربية.
النشاط التعليمي للأمير عبد القادر
مقاومة الأمير عبد القادر لم تنته باستسلامه المشروط في 23 ديسمبر 1847 بضواحي مدينة الغزوات بولاية تلمسان بحضور الحاكم العام للجزائر الدوق “دومال” إبن الملك لويس فيليب، والجنرال لاموريسيار، بل تواصلت وذلك حيثما حل، سواء عندما كان في الأسر بقصر “أمبواز” أو في بروسه(24) بتركيا أو في دمشق بسوريا، حيث فتح الأمير “العارف” و”المعلم” جبهة جديدة للكفاح ضد الاستعمار الفرنسي وذلك بنقله المقاومة من المجال العسكري إلى المجال الثقافي والتعليمي وحقق انتصارات على مستوى الفكر والمعرفة أنست العالم هزيمته العسكرية، وأصبح نموذجا للعالم والمثقف المسلم القادر على استيعاب حقائق عصره، والتعايش مع مختلف الديانات والثقافات في إطار التسامح الديني، والذي يستعمل أدوات كفاح جديد وفي هذا الصدد ورد في مذكرات الأمير ما يلي: “يجد (المقصود هنا الأمير) في الوزن والسجع والجناس ما يبحث عنه في السيف والرمح والبندقية من وسائل لردع المظالم واسترجاع الحقيقة المغتصبة في الميدان وبث روح العدل وإقرار السلم في العالم”.(25)
نشاط الأمير التعليمي في فرنسا
داوم الأمير عبد القادر على تدريس العلم ومواصلة مجهوده التعليمي وإفادة الطلبة من عائلته وأصحابه حثى وهو في الأسر بقصر أمبواز، إذ قرأ عليهم، حسب ابنه محمد في كتاب تحفة الزائر، ” الصغرى” للسنوسي في علم الكلام ورسالة محمد بن أبي زيد القيرواني في الفقه، على مذهب الإمام مالك وغيرها من المصنفات المفيدة. وقد تأثر بذلك أخواه محمد سعـــيد ومصطفى وشرعا بدورهما في تقديم بعض الدروس،أفادا بها كثيرا طلابهم، إذ قاما في حلقاتهم الدراسية بقراءة “صحيح البـخـاري” وكتاب “الشفاء” للإمام عياض.(26)
إن هذا النشاط التعليمي الواسع للأمير وهو في الأسر، كان يعكس معنوياته العالية وقوة إرادته رغم الظروف الصعبة التي كان يجتازها وهو محروم من حريته، كما أن ذلك يؤكد تصور وإيمان الأمير بأن المقاومة ليست بالضرورة بالسلاح والبارود بل هناك أشكال أخرى للصمود والمقاومة، ومجالات وساحات أخرى لمواجهة الاستعمار من بينها المجال الثقافي والتعليمي، ولهذا أثر عنه أنه بعد الانتهاء من تعليم أحد أبنائه قال : “هذه آخر بندقية بقيت لي”.(27)
لكن رغم اشتغال الأمير بتقديم الدروس وتنشيط حلقات لهذا الغرض، فإنه كان يشعر بالضجر والعزلة قام باختيار الشيخ محمد الشاذلي القسنطيني لمؤانسته ومجالسته، فانتقل هذا الأخير إلى أمبواز حيث استأنس الأمير بالشيخ وبعلمه. (28)
و بعد إطلاق سراحه من قبل نابوليون الثالث (29) سنة 1852، واصل الأمير نشاطه الثقافي والفكري حيث أنه أثناء زيارته لمدينة باريس اجتمع بالعلماء الفرنسيين وناظرهم وتناقش معهم في مختلف المسائل العلمية والفكرية وعبر عن روح تسامح عالية وإيمان قوي بإمكانية تعايش الديانات والعقائد المختلفة، ثم زار دار الطباعة الأميرية الفرنسية واطلع على مختلف مراحل عملها (30).وعبر عن إعجابه الكبير لهذا الإنجاز الحضاري لهذا عندما سأله بعض الأعيان عما رآه في باريس، رد عليهم بقوله:”بالأمس رأيت صناعة المدافع التي تهدم بها الحصون والقلاع، وفي هذا اليوم، رأيت الحروف التي تغلب بها أسر الملوك وتخرب دولهم …” ولما اقترب موعد رحيل الأمير إلى بروسه قام بزيارة وداع واستئذان للإمبراطور نابليون الثالث استقبله بحفاوة وأخبره بتفاصيل المرتب الشهري الذي خصصته فرنسا له من خزينة الدولة ثم أهداه سيفا ثمينا وقال له “أنا على يقين بأنك لن تجرده على فرنسا …” فأجابه الأمير إجابة بليغة تعبر عن استجابته لمتطلبات المرحلة وضرورة تغيير وسائل الكفاح: ” إنني الآن ممن يستعمل العلم لا ممن يستعمل السيف”.(31)
نشاط الأمير التعليمي في بروسه
بعد إطلاق سراحه على يد نابليون الثالث سنة 1852 م،و انتقال الأمير عبد القادر إلى الآستانة التي دخلها سنة 1269ه/ 1853م(32) والتقى فيها بالسلطان عبد المجيد و”الصدر الأعظم ” مصطفى رشيد باشا، شيخ الإسلام عارف حكمة بك، ثم أدى زيارة مجاملة للسفير الفرنسي الماركيز “دولا فاييت” (33) حيثما ذهب الأمير كان الناس يزدحمون لمشاهدته، وتقديم التحية له سواء في الطرقات أو في رحاب منازل الوزراء والأعيان، كما تنقل كثير من المهاجريين الجزائريين من تونس ومصر والحجاز والشام … إلى بروسه لرؤيته ومن بينهم الشيخ يوسف بدر الدين المغربي المقيم في دمشق .
عند استقراره ببروسه واصل الأمير نشاطه التعليمي والتربوي، إذ كان يقضي أيامه هناك، حسب تشرشل في تربية وتعليم أبنائه وفي الدروس التي كان يقدمها في المسجد، وفي دراسته ومطالعاته الشخصية والعبادة (34)، وهذا ما يؤكده ابنه محمد حيث يقول “وكان رضي الله عنه يصلي الصلوات الخمس، في الجامع القريب من الدار المعروف بجامع العرب، ويقرأ فيه الدروس، فقرأنا عليه ألفية ابن مالك بشرح المكودي و”السنوسية ” شرح المصنف والإسياغوجي “للفتاوى “.(35) إضافة إلى ذلك كان الأمير يواصل التربوي مع أبنائه حتى في المنزل العائلي وذلك بانتقاء مجموعة من الكتب التي يقرأها عليهم وذلك مثل كتاب “الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز الدباغ” (36) .
نشاط الأمير التعليمي في دمشق
بعد استئذانه السلطان العثماني، غادر الأمير عبد القادر بروسه سنة 1855 متوجها إلى سوريا حيث استقر بمدينة دمشق، حيث شرع في تقديم الدروس بالمسجد الأموي(37) وبالمدرسة الأشرفية (38)المعروفة بدار الحديث النووية، وذلك بعد تسوية النزاع الذي كان بين الشيخ يوسف بدر الدين المغربي، مسير المدرسة، وبين أحد الرعايا الأوروبيين والذي استولى على الدار التابعة للمدرسة وجزءا من مسجدها، بغرض تحويلهما إلى خمارة. لكن بعد تدخل الأمير عبد القادر، بطلب من الشيخ يوسف بدر الدين، وبفعل الغيرة على الدين والحمية الإسلامية واستدعى الرعية الأوروبية إلى منزله واشترى منه الدار وأوقفها على الشيخ يوسف وورثته من بعده سنة 1872هـ، ثم تكفل بترميم المسجد والمدرسة على نفقته.(39)
بعد الانتهاء من أعمال الترميم والإصلاح، التحق الأمير بالمدرسة وشرع في تقديم دروسه بها سنة 1274 هـ “بصحيح البخاري” وذلك بحضور الشيخ يوسف بدر الدين، وتم تحديد موعدها ما بين صلاتي الظهر والعصر، لقد نالت هذه الدروس شهرة كبيرة في سوريا مما جعل كثيرا من العلــمـاء والطلبة يحضرونها (40).
لم يبق نشاط الأمير التعليمي منحصرا في المدرسة الأشرفية بل وسع مجاله ليشمل” المدرسة الجقمقية” والتي درس بها كتاب “الإتقان في علوم القرآن” للإمام السيوطي، وكتاب “الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز” للسيد أحمد المبارك، ثم كتاب “الشفاء” للقاضي عياض(41)، و”صحيح مسلم”.
لقد كان الإقبال على دروس الأمير المسجدية كبيرا لدرجة أنه بعد رجوعه من رحلة إلى الحجاز قام بفتح منزله لطلبة العلم وخصص لهم وقتا محددا يقدم فيه الدروس .(42)
مكتبة الأمير ودورها التربوي
لقد كان الأمير عبد القادر مولعا بالمطالعة وجمع الكتب واقتنائها مهما كان ثمنها أو مكان وجودها، ولهذا كانت مطالعتها من أهم الأنشطة التي يتفرغ لها بعد أداء الصلاة والذكر، وكان يطالع بالدرجة الأولى الكتب ذات الطابع الديني وعلى رأسها القرآن(43)، وكانت خيمته لا تخلو من الكتب أو المخطوطات النفيسة، ويشير إلى ذلك أدريان بيربروجير عند زيارته للأمير في برج حمزة، حيث أن أدريان عندما دخل خيمة الأمير المسماة “بالوطاق” وجده حسب قوله “متكئا على بعض الوسائد وعلى يساره حوالي ثلاثين مجلدا من الكتب، وأما على يمينه فقد وضعت أسلحة فاخرة ومرصعة…وكان كبير الكتّاب أو “الخوجات “عن يمين الأمير وأحد الشواش عن يساره”(44).
وقد كانت فرحة الأمير كبيرة عندما أهداه بير بروجير أحد الكتب النفيسة حيث يضيف تلك الفرحة “فيما يخصنيقدمت إليه ( أي الأمير هدية منذ أول لقاء معه، وهي نسخة عربية خطية وجميلة جدا من كتاب “دلائل الخيرات”كانت موجودة في قسنطينة، وهي تتضمن صلوات وأدعية وغيرها من مواضيع العبادة، وقد ظهر أن الأمير عبد القادر قبلها بغبطة شديدة نظرا للموضوعات التي عالجتها ونظرا أيضا إلى كونها آتية من مكتبة بن عيسى، مساعد الباي أحمد.(45)
ولتوفير الكتاب وتسهيل عمل المعلمين والطلبة حرص الأمير على جمع الكتب واقتنائــها حيثما وجدت، والحث على المحافظة عليها ومكافئة كل من يأتيه بكتاب أو مخطوط، كما أنه كان يدعو جنوده أثناء المعارك إلى تسليمه ما يقع بين أيديهم منها(46)، ويعاقب كل من يمسكه متلبسا بإتلافها أو تمزيقها(47)أو لم يحترم تعليماتالأمير في طرق التعامل مع الكتب والمخطوطات يعثر عليها أثناء الحروب. ومن شدة تعلق الأمير بالكتب واهتمامه بها أرسل بعض تلامذته حتى الأناضول وقونية(48) لنسخ مخطوطات ابن عربي أستاذه الروحي الذي تأثر به.(49)
كان الأمير يضع الكتب والمخطوطات التي يجمعها في المساجد والزوايا تحت تصرف العلماء والطلبة في انتظار إنهاء بناء مكتبته بتاكدمت، عاصمته الجديدة(50)، والتي شرع في بنائها سنة 1836 بمكان له رمزيته التاريخية. إذ كان الأمير يهدف من وراء اختيار الموقع إحياء العاصمة السياسيـة والفكرية والدينية القديمة للجزائر(51)، لكن تجدد القتال مع الفرنسيين، بعد إقدامهم على خرق معاهدة تافنة سنة 1839، جعل أشغال البناء تتوقف ويتوقف معها مشروع المكتبة.
اضطر الأمير عبد القادر أمام تحرشات الفرنسيين وعدم شعوره بالأمن والطمأنينة في إقاماته الرسمية إلى بناء عاصمة متنقلة وهي الزمالة، يمكن تفكيكها ونقلها إلى أي مكان وإعادة تركـــــيبها(52)، وبذلك أصبحت المكتبة متنقلة مع الزمالة إلى غاية 15 ماي 1843، عندما هاجمها الجيش الفرنسي بقيادة الدوق دومال(53)، واستولى على ما بها، بما في ذلك المكتبة التي تم نهب وبعثرت كتبها ومخطوطاتها وإتلاف قسم منها، وقد قدر عددها آنذاك بحوالي خمسة آلاف كتاب ومخطوط.(54)
لقد تألم الأمير عبد القادر كثيرا لذلك وهو يقتفي أثر الجيش الفرنسي، ويجمع البقايا المتناثرة للكتب الممزقة(55). إن قراءة متمعنة في اهتمامه بعالم الكتاب والمكتبات ليدرك مدى وعيه العميق بأهمية تأسيس مكتبة عمومية بالنسبة لدولة من الدول، باعتبارها تشكل الأداة الكفيلة بالمحافظة على الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري وتراثه، لهذا اعتبر عبد الحميد بن أشنهو بأن الجزائر لم تفقد استقلالها يوم 05 جويلية 1830 عند احتلال مدينة الجزائر، ولا يوم 23 ديسمبر 1847 عند استسلام الأمير المشروط، ولكن في يوم 15 ماي 1843 عند سقوط آخر عاصمة للبلاد، واستيلاء الفرنسيين للمرة الثانية على الخزينة العامة والأرشيف الوطني(56). وأمام خسارة بهذا الحجم لم يتردد يحي بوعزيز في تشبيه ما فعله جنود الدوق دومال بمكتبة الأمير بما فعله المغول بمكتبة بغداد سنة 1258، وما فعله الإسبان بالمكتبات الإسلامية بالأندلس بعد سقوط آخر إمارة إسلامية بها وهي غرناطة، وما فعلته منظمة الجيش السري (O.A.S) بمكتبة جامعة الجزائر في جوان 1962 بعدما أقدمت على إضرام النيران فيها.(57)
الخاتمة
خلاصة القول أن تجربة الأمير وانجازاته في ميدان الثقافة والتعليم لا تقل أهمية عن انجازاته في الميدانين العسكري والسياسي، إذ أن فتح جبهة مقاومة جديدة على الاستعمار لم تتوقف إلا بمماته، وأسس لتجربة رائدة في ميدان التعليم لمواجهة السياسة الاستعمارية في هذا المجال، وقد أبدع الأمير وأجاد في تسييره لهذا القطاع الحساس واندرج تنظيمه هذا في إطار حداثي وتصور إصلاحي شامل وذلك من خلال:
– العناية التي أحاط بها المعلمين والطلبة والتكفل باحتياجات الطلبة ومتطلبات تمدرسهم بغرض تشجيعهم على التحصيل العلمي.
– تطويره للإرث العثماني في ميدان التعليم وذلك بتدخل الدولة في تنظيمه وتسييره بعد أن كان يترك للمبادرة الشخصية للسكان.
– امتلاك الأمير لمفهوم حديث للمكتبة كمؤسسة لها وظيفتها في المجتمع والدولة باعتبارها مؤسسة حيوية حافظة للذاكرة الجماعية للشعب الجزائري ولتراثه الأدبي والفكري …، كما أنه عن طريق اقتناء وشراء الكتب والحث على المحافظة عليها ووضعها في الزوايا والمساجد تحت تصرف العلماء والطلبة كان يشجع على المطالعة باعتبارها سلوكا حضاريا، وكان يعطي المثل في هذا المجال باعتباره كان يكثر من المطالعة.
إضافة إلى ذلك فإن تجربة الأمير في ميدان التعليم رغم قصر مدتها وانشغاله بالحروب والمعارك ضد الاستعمار الفرنسي، فقد أعطت نتائج ايجابية تمثلت في إقبال السكان على إرسال أبنائهم إلى المدارس، هذا فضلا عن أنها عبرت عن وعي حقيقي بمخاطر السياسة الاستعمارية في الميدان الثقافي وضرورة مقاومتها على مختلف الجبهات بما في ذلك الجبهة الثقافية والفكرية.
و أخيرا يمكننا القول بأن الجانب الثقافي والفكري من تاريخ الأمير عبد القادر لازال في حاجة إلى دراسة وبحث، “فالورشة الأميرية” لا تزال في هذا المجال قادرة على الهام الباحثين والدارسين بمواضيعها العديدة والمتنوعة وذلك لعشرات السنين.
الهوامش
1مذكرات الأمير عبد القادر، تحقيق محمد الصغير بناني، محفوظ سماتي، ومحمد الصالح الحبون، ط7، شركة دار الأمة، الجزائر،2010، ص 49.
2صلاح أحمد، الأمير عبد القادر المتصوف والمصلح، منشورات دار الأديب، وهران، 2007، ص 25.
3نفسه، ص 26.
4بوعزيز يحي، الأمير عبد القادر الجزائري رائد الكفاح الجزائري، الدار العربية للكتاب والشركة الوطنية للنشر والتوزيع، تونس، 1983، ص 140.
5جورج الراعي، الدين والدولة في الجزائر، من الأمير عبد القادر … إلى عبد القادر، دار القصبة للنشر، الجزائر، 2008، ص75.
6محمد الطيبي، الجزائر عشية الغزو الإحتلالي، دراسة في الذهنيات والبنيات والمآلات، ط1، ابن النديم للنشر والتوزيع، بيروت، 2009، ص 234.
7طيبي محمد، الرواية المعرفية والتدبير السياسي، قراءة في الإرهاصات الجيوسياسية للفكر الأميري، ضمن كتاب تبر الخواطر في فكر الأمير عبد القادر، تأليف جماعي، ط1، دار القدس العربي، الجزائر، 2000، ص 61.
8نفسه، ص 62.
9أديب حرب، التاريخ العسكري والإداري للأمير عبد القادر الجزائري 1808-1847، ج2، ط3، دار الرائد للكتاب، الجزائر، 2005، ص 70.
10أديب حرب، المرجع السابق، ص 70.
11جورج الراعي، المرجع السابق، ص 75.
12صلاح أحمد، المرجع السابق، ص 88.
13أديب حرب، المرجع السابق، ص 71.
14نفسه، ص 71.
15رابح بونار، نظام الحكم في إمارة الأمير عبد القادر، مجلة الأصالة، العدد 23، جانفي، فيفري، 1975، ص 45.
16نفسه، ص 49.
17Charles Henry Churchill, la vie d’Abd El-Kader, Editions ANEP, Alger, 2009, P 117.
18جورج الراعي، المرجع السابق، ص 43.
19استجواب مع إدريس الجزائري، جريدة الحياة، عدد 8-12-1991، ذكره جورج الراعي، مرجع سابق، ص 43.
20محمد العربي الزبيري، الكفاح المسلح في عهد الأمير عبد القادر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع والمؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر، 1982، ص 128.
21يحي بوعزيز، مرجع سابق، ص 141.
22أحمد عبد الحليم عطية، الأمير عبد القادر الجزائري في مصر، ضمن كتاب تبر الخواطر في فكر الأمير عبد القادر، مرجع سابق، ص 215.
23جورج الراعي، المرجع السابق، ص 75.
24تعتبر بروسه رابع اكبر مدن تركيا تقع شمال غرب البلاد بين مدينتين استنبول وانقرة فتحها السلطان اوران غازي في 1326م وأصبحت اول عاصمة للامبراطورية العثمانية، تعرضت لتدمير بعد غزو المغول لها بقيادة تيمور لنك عام 1402م، وبعد استرجاعها من قبل العثمانيين نقلوا عاصمتهم منها الى “أدرنة” ثم الى “استنبول ” سنة 1453م، وبذلك تراجعت اهميتها نسبيا.المدينة غنية بالعديد من المعالم الحضارية والمعمارية والمباني الأثرية مثل : الجامع الكبير، جامع مراد الأول، والجامع الأخضر الى جانب بعض الاضرحة ومدافن سلاطين آل عثمان وأسرهم، ينظر: wikipedia.org/wiki/Ar.
25مذكرات الأمير عبد القادر، مصدر سابق، ص 29.
26محمد بن عبد القادر الجزائري، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر، شرح وتعليق ممدوح حقي، ج2، الجزائر، 2007، ص 26.
27جورج الراعي، مرجع سابق، ص 76.
28محمد بن عبد القادر الجزائري، مصدر سابق، ص28.
29 نابوليون الثالث(1808-1878)شغل منصب إمبراطور فرنسا في ديسمبر 1852 تحت إسم نابوليون الثالث، تميزت سياسته في الجزائر لمحاولة التقرب من السكان وتبنى القانون المشيخي (سيناتوسكونسيلت)، كما تبنى سياسة توسعية في أوروبا، فخاض عدة حروب ضد النمسا وألمانيا، ولكنه انهزم في معركة سودان في سبتمبر 1870، وسقط أسيرا بين أيدي الألمان، فانهارت إمبراطوريته، وبعد إطلاق سراحه، استقر بإنجلترا حيث بقي فيها إلى غاية وفاته سنة 1873.يُنظر
-Petit larousse ,librairie larousse,Paris,1980,P1432 .
30محمد بن عبد القادر الجزائري، مصدر سابق، ص 66.
31نفسه، ص 67.
32نفسه،ص 77.
33نفسه، ص78.
34 Charles Henry Churchill, Op. Cit., P 314.
35محمد بن عبد القادر الجزائري، المصدر السابق، ص 83.
36محمد بن عبد القادر، المصدر السابق، ص 83.
37–المسجد الذي امر بشييده الوليد بن عبد الملك بدمشق انطلاقا من سنة 705م ويعد رابع أشهر المساجد الاسلامية بعد حرمي مكة والمدينة والمسجد الأقصى كما يعد واحدا من أخم المساجد الاسلامية حيث حشد له الوليد صناعا من الفرس والهنود مائة فنان يوناني يوناني بعثهم امبراطور بزنطة للمشاركة في تزيينه.دخلهالصلبيون سنة 1260م بعد احتلالهم لدمشق بتحالف مع المغول، ولكن تمكن المماليك بقيادة قطز وبيبرس من استرجاع المدينة واعادة ترميم المسجد مما سمح باستعادته لمكانته العلمية والدينية حيث كان ابن تيمية يقوم فيه بتدريس تفسير القرآن، وعند سيطرة العثمانيين على مدينة دمشق بعد انتصارهم على المماليك في معركة مرج دابق 1516م أدى به السلطان سليم الأول صلاة الجمعة، ينظر:القاضي حمد بن أحمد كنعان، تاريخ الدولة الأموية خلاصة تاريخ ابن كثير، مؤسسة المعارف، بيروت، 1997.
38Bruno Etienne, Abdelkader isthme des isthmes, Editions SEDIA, Alger 2010, P 8.
39محمد بن عبد القادر الجزائري، مصدر سابق، ص 118.
40محمد بن عبد القادر الجزائري، مصدر،نفسه، ص 119.
41نفسه، ص 123.
42نفسه، ص 124.
43صلاح أحمد، مرجع سابق، ص 27.
44أدريان بيربروجير، مع الأمير عبد القادر، رحلة وفد فرنسي لمقابلة الأمير في البويرة (1837-1838)، ترجمة أبو القاسم سعد الله، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، الجزائر، 2010، ص 69-70.
45أدريان بيربروجير، مصدر سابق، ص 113.
46 Bruno Etienne, Op. Cit., P 118.
47عبد القادر بوطالب، الأمير عبد القادر وبناء الأمة الجزائرية من الأمير عبد القادر إلى حرب التحرير، دار دحلب، الجزائر، 2009، ص 104.
48من مدن تركيا الهامة، تقع في وسط جنوب الأناضول، بلغت ذروة مجدها عندما كانت عاصمة لسلاجقة وذلك قبل الغزو المغولي لها، شكلت مركزا سياسيا واقتصاديا هاما في الدولة البيزنطية، ثم أصبحت عاصمة السلاجقة الأتراك في أواخر الدولة العباسية وفي العهد المملوكي، تشتهر بموقعاالأستراتيجي وآثارها التاريخية ومساجدها العريقة مثل :مسجد علاء الدين الذي شيد سنة 635ه/ 1237م، وبها ضريح الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي المتوفى سنة 1273م، ينظر:
wikipedia,org/wiki/ ar-
49Bruno Etienne, Op. Cit., P 117.
50Ibid., P 118.
51Bruno Etienne, Op. Cit., P 122.
52A. Benachenhou, l’état algérien en 1830, ses institutions sous Abdelkader, ENAG editions, Alger, 2009, P 79.
53الدوق دومال، هو الإبن التاسع للملك لويس فيليب، من مواليد 16. 01. 1822، لعب دورا هاما في الحياة السياسية والعسكرية بفرنسا، إذا كان يحتل رتبة جنرال في الجيش الفرنسي، وشغل منصب حاكم عام للجزائر في شهر سبتمبر 1847، وحضر بهه الصفة مراسيم استسلام الأمير المشروط في 23 ديسمبر 1847، لكن بعد ثورة 1848 بفرنسا إضطر إلى العيش في المنفى بإنجلترا وذلك لمدة 23سنة، يُنظر. Petit larousse, Op. Cit., P1044
54اديب حرب، المرجع السابق، ص 71.
55 Charles André Julien, histoire de l’Algérie contemporaine, la conquête et les débuts de la colonisation (1827-1871), Presses universitaires de France, Paris, 1964, P 181.
56A. Benachenhou, Op. Cit., P 138.
57يحي بوعزيز، المرجع السابق، ص 142.