أبو القاسم محمّد الحفناوي صحفيا ومترجما ومؤلفا
بقلم : محمد بسكر-
شهدت الجزائر في الربع الأوّل من القرن العشرين تقدّما ملحوظا في المجال الثقافي، تجلى ذلك في بروز نخبة نادرة من رجال الفكر والثقافة، وكان أساس هذه النهضة الحديثة، هو الوعي القومي الذي انتشر بينهم، وشعورهم بالانتماء الحضاري للأمة العربية. غذّى هذا الإحساس عوامل كثيرة ساعدت في التوطئة لهذا التغيّر الجذري الذي مسّ المجتمع الجزائري بأكمله، من بينها: سرعة التأثر والتفاعل مع الحركة الفكرية الوافدة من المشرق العربي، وعودة الكثير من العلماء وطلبة العلم من مصر وتونس، ونشاط الصحافة المحلية التي وجدت مُتسعا في بعض مراحل نشأتها وتطورها، رغم العوائق التي وضعتها الإدارة الاستعمارية.
وقد ساهم في هذه النشاط الثقافي الكثير من العلماء والمفكرين، الذين اختلفت مشاربهم وأفكارهم، لكن اتّفقت إرادتهم على النهوض بالأمة الجزائرية فكريا وعلميا. ومن بين الأقلام الجادّة، والشّخصيات العلمية الفذّة التي قامت بدور في مجال التدريس والتأليف والمقالة الصحفية، الشّيخ أبو القاسم محمّد الحفناوي، أحد أعلام الجنوب الجزائري. خصّه الأستاذ سعد الدّين بن شنب بترجمة مقتضبة أثناء تعرضه للنهضة العربية بالجزائر، ابتداء من الربع الأوّل من القرن الثالث عشر، بيّن فيها جهده في إحياء التراث الجزائري، ونشاطه في مجال المقالة الصحفية، وممّا قاله في حقّه : «وكان رحمه الله، مكلفا بالعلوم على مختلف أنواعها، من دينية ودنيوية، وكان كاتبا بليغا، وشاعرا مجدا، كثير التدقيق والتنسيق، ذاكرا للتاريخ باحثا محققا»(1).
لم يأخذ الشّيخ الحفناوي تعليمه بالمدارس الرّسمية الفرنسية ، ولم يتخرّج من المدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة، أو المدرسة الكتانية بقسنطينة كأقرانه، أمثال محمد بن أبي شنب، و محمّد بن مصطفى بن الخوجة، ومحمّد السّعيد بن زكري وغيرهم، وإنّما جلس على حَصِير الأرض بين يدي شيوخه، وتنقّل بين زوايا العلم المعروفة داخل القطر، فتعلّم الفقه بزاوية الشّيخ ابن أبي داود بجبل زواوة، والعربية في زاوية طولقة، وسمع الحديث والتفسير في زاوية الهامل. وما يميّزه (رحمه الله) عن غيره، هو ثقافته الواسعة، فلم يكتف بنمط التعليم التقليدي الذي تحصّل عليه وأتقنه، بل وسّع مداركه الفكرية بالدّراسات الحديثة، ليخرج من ربقة الجمود التي يتسم بها عادة خريجو المعاهد القديمة، فتعلم اللّغة الفرنسية وأجادها، ودرس مختلف العلوم الطبيعية والكونية والطّبية، ومارس الصحافة حتى صار من مَهرتها.
انتقل من بلدته الديس إلى العاصمة سنة 1884م، حيث انضم إلى هيئة تحرير جريدة المبشر الناطقة بالعربية، وهي المتنفس الوحيد للنخبة آنذاك، فساهم في تحرير القسم العربي، والإشراف على التصحيح، رفقة أجلّة من الأساتذة، أمثال السّيد أحمد البدوي، ومصطفى بن السّادات، وحسن بن بريهمات وغيرهم، ودام في منصبه هذا ثلاثة وأربعين عاما، أي إلى غاية توقف هذه الجريدة عن الصدور سنة 1927م.
لم تكن جريدة المبشر هي المجال الفسيح الذي نشر فيه مقالاته وبحوثه، بل كتب دراسات نشر بعضها في (التقويم الجزائري) للشّيخ محمود كحول ، غلب عليها الطابع الاقتصادي والعلمي والتاريخي، أراد من خلالها تنبيه قومه إلى أهمية الاطلاع على الاكتشافات الغربية الحديثة ، واقتبس معظم ما نشره من مؤلفات فرنسية قام بتعريبها وترجمتها، بأسلوب أدبي رائع، محبوك الكلمات، ومُنتقى العبارات، فمقالاته رغم طابعها العلمي،إلّا أنّه غلّفها بمسحة أدبية، فأنت لا تقرأ لباحث في الطبيعة والكون فقط، بل لأديب وكاتب مُتميّز.فنجده في مجال الاقتصاد يقوم بإعادة صياغة تقرير بعث به القنصل الفرنسي في الدرنه لحكومته، تضمّن واردات التجارة الغربية مع الدولة العثمانية، وانتهى التقرير بأنّ فرنسا تحتل المرتبة الثالثة بعد الانجليز والألمان، ونشره بجريدة المبشر في حلقات متسلسلة سنة 1888م(2)، ونجده في مقال آخر يتحدث عن اكتشاف السّيد باستور، في كيفية معالجة داء الكلب، وممّا قاله في هذا الشأن « ممّا تقرّ العيون، ويشرح الصدور، اكتشاف السّيد باستور على كيفية معالجة داء الكلب، حتى غدا بين الأنام أشهر من شهاب، حيث أبدى لذوي الدنيا ما كان وراء حجب... وبقيت منسدلة دونه إلى أن قدر المتعالي للأنعام بإظهاره على يدي هذا العالم المحظى، الملاحظ الآن من جهات الدنيا بأسرها السيد باستور..»(3). وكتب دراسة شاملة في عدة صفحات، عن (علم النجوم) ونشرها في التقويم الجزائري، وصل فيها إلى « أنّ الفلك الجديد، مبني على قواعد طبيعية مبرهنة بطبيعيات وقواعد رياضية، بعضها تحقيقي، وبعضها تقريبي، غير أنّ العقل إذا تمكن منها استأنس بها، وجعلها سلما يطل بها على الممكنات؛ لأنّه لا يقطع بالحصر ولا يمكنه الخلو من الاحتمالات»(4).
ألّف الحفناوي عدّة رسائل، وترجم بعض الكتب من الفرنسية إلى العربية، من بينها : كتاب الحكيم " ريسر" فيما يتعلق بتربية النحل واستثمار العسل،وسماه "رفع المحل في تربية النّحل"، وله ترجمة مشتركة مع الأستاذ الفرنسي"ميرانت" لكتابٍ في تدبير الصّحة، واسمه" الخير المنتشر في حفظ صحة البشر". أمّا أهم مؤلفاته فهو كتابه "تعريف الخلف برجال السّلف"، وهو عمل ضخم، فريد من نوعه، جمع فيه تراجم طائفة من علماء الجزائر وأدبائها، واتّسم بغزارة المادّة، وبالنّقل الجمّ من بطون كتب التاريخ والسّير والتراجم، كتاريخ ابن خلدون، ونشر المثاني، ووفيات ابن قنفذ، ونيل الابتهاج، وحشد صفحاته بتتبع أخبار علماء الجزائر في العهد العثماني، والفترات الأولى من العهد الاستعماري، واستعان بالكثير من المخطوطات والوثائق والمراسلات، واتّصل بالعلماء وشيوخ الزوايا، فأخذ عنهم سماعا وكتابة، فاستعان بالشّيخ محمد عبد الرحمن الديسي الذي أفاده بتراجم بعض علماء الجنوب الجزائري. ونجده في ترجمة (محمد بن رجب) يعتمد على رسالة بخط يده في " تدبير أمر الوباء والطاعون"، أطلعه عليها السّيد علي بن الحداد، فلخص فصولها وتحدث عن مضمونها، كما تطرق لسير بعض شيوخ وأولياء بلدته، فتحدث عن الشّيخ إبراهيم الغول، ووالده الشّيخ ابن عروس، وعبد الرحمن الديسي ومحمّد المازري ومحمّد الصديق الدّيسي وغيرهم.
لقد حفظ الشّيخ الحفناوي (رحمه الله) في كتابه ( تعريف الخلف) للأجيال، من أسماء الهيئات العلمية وأخبارها وآثارها رصيدا لا بأس به، سدّ به النقص المُلاحظ فيما يتعلق بالعهد العثماني على وجه الخصوص، وذاق (رحمه الله) العنت في جمع مادّة تأليفه، بسبب صعوبة وصوله إلى المصادر، وعجزه - كما قال - عن فتح مساجن المؤلّفات بكلّ حيلة ووسيلة ، بسبب تمنّع البعض مِن عرض مدّخراتهم على أهل البحث، وإيثارهم بقاؤها ( ذخيرة للأرضة). قسم كتابه إلى قسمين. الأوّل: تناول فيه تراجم العلماء الموجودة أسماؤهم في قائمة المدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة، وهم خمسون شخصية. والثاني: ضمّ عددا من أعيان الجزائر وعلمائها إضافة إلى علماء بعض الأقطار العربية، وعدد الذين خصّهم بالدراسة بلغ 367 شخصية، ونشر الجزء الأول منه سنة 1906م، ثمّ نشره كاملا بجزأيه سنة 1909م، أراد به خدمة التراث الجزائري، وتعريف الأجيال القادمة بأمجادها، وقد أحيا بتأليفه – كما قال الشّيخ عبد الرحمن الديسي-« مجد علماء القطر، وأبان مآثرهم، وما لهم من جميل الذكر»(5).
الهوامش:
1- مجلة كلية الأدب، العدد 5، 1984 م، ص79.
2- الزبير سيف الإسلام، تاريخ الصحافة في الجزائر، 152/5.
3- نفسه 153/5.
4- التقزيم الجزائري، 1911، ص 40
5- الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف، 416/2.