“مشكلة الأفكار”.. ماذا تعرف عن آخر إنتاجات مالك بن نبي؟
بقلم: د. محمد عبد النور-
كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي من أهم ما ألف مالك بن نبي في سلسلة "مشكلات الحضارة" الذي وضعه عنوانا لجميع مؤلفاته، فقد أصدر الكتاب قبل ثلاث سنوات من وفاته، وهذا ما يجعل منه خلاصة وثمرة مكتملة لأعماله، كما أنه أقرب كتبه إلى المنهج، أو هو كتاب شبه منهجي تفكيرا لبن نبي في الأفكار لذاتها بأسلوب انعكاسي، فهي ليست جملة تأملات فردية أو ذاتية بقدر ما جاءت فقها للسنن الاجتماعية، ما يجعل من بن نبي فيلسوفا اجتماعيا في المقام الأول، وأن السمة الأولى في فلسفته تلك هي الواقعية الصرفة، ذلك ما جعل من مفهوم الفاعلية المفهوم المحوري في كتاباته، الفاعلية بما هي تحقيق أفضل النتائج بأقل الوسائل.
فالتفكير الاجتماعي يتميز بتصور سببي وسنني واضح، أي أنه يستحضر بالضرورة الظروف العامة بوصفها شرطا ضروريا وحتميا في سبيل التغيير والإصلاح، فالمجتمع حسب أدبيات علم الاجتماع هو جملة من الاكراهات والضرورات التي لا يمكن الخروج عنها، وذلك ما يقتضي فقها رصينا ووعيا تاما بأن شرط التحرر في القيود يكمن في وعي الحتميات بوصفه الخطوة الأولى لتجاوز الوقائع السلبية التي نعيشها.
والخلاصة هي أن الفاعلية الحقّة تتمثل في أن التأثير لا يأتي فقط بالحماس والإرادة وإنما لابد أن يقوم كل منهما على قدرة الإدراك، وقدرة الإدراك تلك هي كسبية يحصلها الإنسان من خلال الأفكار، فالإدراك هو مبدأ تميز الإنسان بالتفكير، وهو مبدأ صلة الإنسان بالمثل والقيم وعالم الأفكار، وعن ذلك تنشأ الثقافة كنوع من التراكم والتطور في الحياة الإنسانية، والثقافة هي الجهاز الخلفي الذي يشكل السلوك والواقع الإنساني، فإذا كان مبدأ الثقافة هي الأفكار فما القصد بالأفكار تحديدا؟ ثم ما معنى الثقافة وكيف تتجسد؟
لا تصدر الأفكار من فراغ ولا تحصل في فراغ، فهي صادرة عن المحيط الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان الفرد داخل الجماعة والجماعة داخل محيطها البشري المكوّن من الجماعات الأخرى المجاورة أو البعيدة، كما أن الأفكار لا تحصل دون تفاعل داخل البناء العصبي الذهني والشعوري للفرد، ومن ثم فهي العنصر الضروري والحيوي الذي يحيا البشر داخله، أو هو بمثابة بلازما تشكل الإطار الحيوي للحياة العقلية والروحية لإنسانها.
بهذا تشكل الأفكار قوة كامنة داخل الوجود البشري تقوم بدور الرابط بين العقل والشعور، وبين الفرد والجماعة، وبين الجماعة وبقية البشرية، ومن ثم فهي العنصر الحيوي الضروري الذي لا غنى عنه، بما هي حقيقة موضوعية تتواجد في كل الحيوات البشرية، إلا أن الاختلاف حاصل في مدى صحة الأفكار أو مرضها داخل المجتمعات، لذلك تمثلت مهمة بن نبي تشخيص حالة الأفكار في المجتمع الإسلامي لعلاج الوضع غير الصحي لأمراضه الفكرية.
ومن هنا كان من المهم مماثلة الجهد البنّبوي بحالة الطبيب المعالج للأمراض الجسدية، كما أنه من المثير أيضا ملاحظة الإشارات التي قدمها بن نبي التي تتجاوز مجرد الممثالة بين العالم الفكري والبنية الجسدية إلى الربط الفعلي بين التكوين البيولوجي للإنسان وحالته الفكرية بما هي علاقة عضوية مباشرة، وهذا ما تؤكده أبحاث جارية تسعى لإيجاد صلة سببية بين الطبيعة والروح، وفي هذا كلام سيطول، لكن تكفي الإشارة إلى أهمية الانتباه إلى هذا الأمر سواء من أجل تحيين أفكار بن نبي أو متابعة المبدع المعرفي الغربي على سواء.
وإذا عرّجنا إلى الثقافة بوصفها نتاجا لقابلية الإدراك عند البشر نجدها تتميز بكونها تطورات متلاحقة لكل من التقنيات والأنظمة الرمزية والاجتماعية كنتاج تراكمي يتميز به البشر ويتعذر على بقية الكائنات، كما نجدها تقوم على أهم خلفيتين تشكلان العالم الثقافي وهما الدين والمعرفة، فلا تنفصل ثقافة ما عن أن تكون تركيبا لهما بصيغة أو أخرى، لذلك فهما الشاهد التجريبي الظّاهر من الثقافة، ومن خلالها يصبح الحكم على الأفكار بالصحة والخطأ ممكنا، لذلك كان على المشتغل بتشخيص عالم الأفكار وعلاجه أن يحوز على صورة واضحة عن الحالة الصحية للأفكار في المجتمع ويعرف مأتى الأمراض وأنواعها، أو بعبارة أخرى أن يكون خبيرا بعالم الأفكار الخبرة الكافية التي تمكنه من أن يتبوأ أهم أنواع الطبابة البشرية والتي تتمثل في تشخيص وعلاج الأوضاع الفكرية بمختلف مستوياتها الاجتماعية من أدنى دوائر الجماعة (المجتمعات المحلية) إلى أوسع جماعة (البشرية)، فكيف يمكن للمثقف أن يكون أوضح صورة عن الحالة المثالية (الأصلية أو الفطرية) للبشر؟
في العالم الإسلامي يجد الباحث نفسه أمام تحديين اثنين هما: أ. تخلّف عن التقدّم الذي حصّلته الحضارة الحديثة، ب. انفصال عن قيم الدين التي سادت خلال المرحلة الأولى للإسلام. وهذا يعني أنه على الطبيب ولكي يحقق الخبرة المطلوبة بالحالة المثلى لابد أن ينجز جهدين مضاعفين يتمثلان في إدراك أسباب التقدّم من جهة، واستعادة القيم الأساسية للدين من جهة أخرى، ولا شك أن الأمر سيتعلق هنا بمتابعة المنتج الفكري للحضارة الحديثة بوصفه العنصر الجوهري في تحقيق التقدّم، وكذا فقه ومعرفة عميقة لروح الدين من خلال أصليه التاريخي والنصي.
فالجهد إذن مضاعف ينطلق أساسا من إدراك عميق وحقيقي لحتمية الاستناد إلى المعرفة المتقدّمة والدين الأصلي، حيث المشترك بين المعرفة والدين أنهما جملة من الرؤى والتصورات، والوقوف الحقيقي عليهما تجاوزٌ للأشكال الظاهرية والتجليات السطحية للعالم الاجتماعي، ذلك ما نجد أن أغلب الناس يعزفون عنه وهذا أمر لا مشاححة فيه نظرا للطبيعة العجولة للبشر، بينما على المثقف إن أراد تقديم تشخيص وعلاج حقيقي للداء أن يتحلى بالرباط والمصابرة على أبوب المعرفة والدين.
والجهد الثاني هو السعي أولا للوصول إلى ذروة المعرفة البشرية الحاصلة في كل لحظة تاريخية، وهذا ما ليس معروضا على الواجهات الإعلامية والتجارية مالم يكرس المرء جهده لتحصيله والإتيان به، فضلا عن الاستيعاب الدقيق له، دون إهمال ضرورة تجاوز العائق اللغوي حيث المعارف الحاصلة اليوم كلها أجنبي عن اللغات الإسلامية وأولها اللسان العربي الذي تشح المعرفة فيها، وثانيا محاولة تحقيق الوصل الروحي بالفعل المؤسس ضمن المرحلة التاريخية الأولى لنزول الرسالة الخاتمة بما هي ذروة للتاريخ الديني على المستوى البشري، ومن ثم تجاوز العوائق الثقافية والتربوية التي تشكل حاجبا وحاجزا صادا عن الفعل الحضاري المسدّد والمؤيد.
وأخيرا وبعد تحقيق الشرطين المتقدّمين جاز التصدّي لإبداع التصورات الممكنة من أجل إصلاح عالم الأفكار والثقافة على ضوء قراءة صحيحة للأوضاع والتي تكون قد حازت الإدراك الدقيق بالحالة الأصلية لوضع الأمة وللوضع البشري بعامة بعد تحقيق الشرطين، انطلاقا من مبدأين هامين هما:
أ. إنسانية الإسلام وشموله، ليس بعقيدة الشعب المختار لكن بكفاءة القيم التي تختزنها الفكرة الإسلامية وقدرتها على تقديم الحلول للانسدادات الحاصلة عالميا.
ب. تبني المنظور المنفعي للدين، فالدين سواء في مبدئه الانتروبولوجي أو نهايته الإسلامية لم يكن يهدف في غايته الكبرى إلا لتحقيق الحاجة الروحية للبشر من جهة ومساعدتهم في تحقيق حريتهم التصورية والسلوكية، وأن القيود التي يضعها ليست إلا لتحديد مسار التحرر، فالشريعة هي إذن تشييد لمسار الحرية الإنسانية، والدين لا يمكن أبدا أن يقوم على فلسفة الحدود من أجل تقييد الإنسان، إنما جاء ليختصر على الإنسان طريق وصوله إلى الحرية وتحقيقها.