عن القابلية للاستعمار …!
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
بعد 45 سنة على رحيل فيلسوف الحضارة المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله (4 شوال1393هـ ـ 31 أكتوبر 1973م) وبعد سبعين سنة على إبداعه لمصطلح “القابلية للاستعمار” الذي ضمنه في كتابه (شروط النهضة) الصادر سنة 1948، مازال هذا المفهوم يحتفظ بكل أهميته وراهنيته في تفسير الوضع العربي.
كان مصطلح “القابلية للاستعمار” من أكثر المفاهيم التي صدمت العديد من المثقفين والمفكرين والمناضلين الجزائريين والعرب، وتسبب في العديد من العداوات، والتهم، وسوء الفهم، التي طالت مالك بن نبي، في الجزائر بعد الاستقلال، ولكن المفكر مالك بن نبي تمسك بهذا المفهوم وكرره في مؤلفاته.
ففي كتابه (وجهة العالم الإسلامي) الصادر في سبتمبر 1954 (شهران قبل اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر المجيدة) يقول:” هناك مسار تاريخي ينبغي ألا نهمله لكي لا يغيب جوهر الأشياء عن نظرنا، ونكتفي برؤية مظاهرها، إن هذا المسار لا يبدأ بالاستعمار، بل يبدأ بالقابلية للاستعمار التي تؤدي إليه” ويقول كذلك:” التحرر من الاستعمار يجب أن يبدأ بالتحرر من سببه، أي من القابلية للاستعمار”
وفي كتابه (الصراع الفكري) الذي كتبه سنة 1957 وصدر سنة 1960 يقول:” إن الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار..وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة..تفتح الطريق أمام حركة التاريخ”.
إن هذا المفهوم رغم ما أثاره من جدل ورفض من بعض الأطراف، نعتقد أنه يساعدنا إلى اليوم في فهم حالة الأمة العربية في زمن انحطاطها الذي مازال مستمرا بشكل مستفز، فعندما يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ـ على سبيل المثال ـ بتوجيه إهانات معلنة ومتكررة للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، حاكم أغنى دولة عربية تأسست قبل حوالي نصف قرن من ظهور دولة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الوجود، يقتصر الرد السعودي الرسمي على لسان ولي العهد السعودي سلمان بن عبد العزيز، ونجل الملك على تقبل غطرسة ترامب وإذلاله المقصود لأنه صديق للسعودية يمكنه أن يقول:” أموراً جيدة وسيئة”، وأكثر من ذلك يؤكد أنه يحب العمل مع الرئيس ترامب !
في شهر أفريل الماضي (2018) أعلن الرئيس الأمريكي نيته سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وعوضا أن يحدث هذا الخبر ارتياحا في الدول العربية باعتبار ذلك الانسحاب يخلص دولة عربية هي سوريا من وجود قوات أجنبية فوق أرضها وهو ما يمكن اعتباره احتلالا ووجودا غير شرعي وغير مرغوب فيه من طرف النظام الحاكم في سوريا، إلا أن تصريح ترامب أصاب بعض تلك الدول العربية بالذعر، وترجت ترامب الإبقاء على قواته في سوريا خوفا من تمدد النفوذ الإيراني، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يستغل الفرصة ويطالب تلك الدول بدفع ملايير الدولارات مقابل عدم سحب قواته من سوريا.
وإذا كانت الدول العربية في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ترفض إقامة القواعد العسكرية الأجنبية فوق أراضيها وتعتبرها انتقاصا لسيادتها، فقد أصبحت بعض الدول العربية تتنافس اليوم في استقطاب القواعد العسكرية الأجنبية وتقديم كل التسهيلات والتنازلات لإقامتها فوق أراضيها، وكمثال على ذلك سعت الإمارات العربية بعد اندلاع أزمة قطر مع دول الحصار، لإقناع الإدارة الأمريكية بسحب قاعدة “العديد” الجوية من قطر وتحويلها إلى أراضي الإمارات العربية المتحدة !
وكانت الدول العربية أشد حرصا على كرامتها وسيادتها مما يبدو عليه وضعها في هذه العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين الميلادي، فقد وقعت في منتصف القرن العشرين (في سنة 1950)، كل من المملكة الأردنية الهاشمية، والجمهورية السورية والمملكة العراقية والمملكة العربية السعودية والجمهورية الفلسطينية، والجمهورية اللبنانية، والمملكة المصرية، والمملكة المتوكلية اليمنية، على اتفاقية الدفاع العربي المشترك، واستمر انضمام بقية الدول العربية التي نالت استقلالها بعد ذلك التاريخ، على مدار السنوات التالية وكان آخرهم دولة الإمارات العربية المتحدة والتي انضمت للمعاهدة في 27 فبراير سنة 1978. وكان الغرض من تلك الاتفاقية هو التصدي للعدوان الصهيوني ضد العرب، حتى وإن كانت هذه الاتفاقية قد سقطت بشكل مؤسف بعد غزو العراق للكويت في سنة 1990، وهي لم تفعل بشكل جدي إلا في حرب أكتوبر 1973.
أما اليوم، فإننا أمام واقع يعتبر أكثر ترديا وقرفا وإثارة للأسى مما سبق، حيث تغيرت قائمة الحلفاء والأعداء في منظور العمل العربي، وأصبحت إسرائيل حليفا لبعض الدول الخليجية لمواجهة “العدو الإيراني”.
فقبل شهر واحد (12سبتمبر2018) وجهت الولايات المتحدة الأمريكية دعوة للوحدة العربية، جاء ذلك بمناسبة عقد قمة عسكرية في الكويت جمعت القادة العسكريين لجيوش دول الخليج والأردن ومصر وترأسها قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل الذي أكد فيها أنه من “الملح القيام بـتعزيز ودمج قدراتنا لمصالح أمننا القومي المشتركة”، وهكذا أصبح أمن الولايات المتحدة جزءا من أمن دول الخليج ومصر والأردن، ورغم حالة الحصار والمقاطعة التي تفرضها السعودية والإمارات والبحرين ومصر على دولة قطر، إلا أن هذه الدول وضعت خلافاتها جانباً ـ ولو مؤقتا ـ لتلبية الدعوة الأمريكية لتأسيس ما يسمى بـ” النيتو العربي”، وحدد الجنرال فوتيل أعداء هذا الحلف الجديد بقوله:” اثنان من التهديدات الأمنية المتواصلة هما في هذه المنطقة، أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والمنظمات المتطرفة العنيفة”. ودعا إلى “الترفع عن كافة الجوانب الأخرى”.
وهكذا يظهر أنه بعد 68 سنة من تأسيس حلف عربي لمواجهة العدوان الصهيوني، أصبحت جمهورية إيران الإسلامية هي العدو الذي يجب تأسيس” نيتو عربي” تحت إشراف أمريكي لمواجهته، رغم ما يجره ذلك من زيادة حالة الضعف والتقسيم لجسم الأمة، وتحقيق المزيد من التبعية والخضوع للنفوذ الاستعماري العالمي.
ولذلك يقول المفكر مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (بين الرشاد والتيه)، الذي كان عبارة عن مجموعة مقالات كتبها في ستينيات القرن العشرين باللغة الفرنسية في مجلة (الثورة الإفريقية) وصدرت في دمشق بعد وفاته باللغة العربية سنة 1978:”يجب تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شيء، فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة والحضارة، فهي لا تتحقق بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور”.