محمد الهادي الحسني: صيغة منتهى المواهب
بقلم: أ.د. عبد الرزاق قسوم-
الأستاذ محمد الهادي الحسني رجل رزقه الله من الملكات والمواهب ما يمكن وصفه بلغة فقهاء النحو في عصرنا بصيغة منتهى المواهب. وهذه المواهب والملكات تصب كلها في ما يمكن التعبير عنه في فلسفة العلاقات الاجتماعية بالقبول.
ذلك –إذن– هو صديقنا المحتفى به، محمد الهادي الحسني الذي تعددت ملكاته، وتنوعت حسناته، وتكاثرت في الخير ميزاته وآياته، وإن تعدوا مواهب وملكات الحسني، فلن تتمكنوا من حصرها، إذ له في كل مجال مكرمة، وفي كل سجال عظمة.
وسنحاول في هذه الشهادة، التي لا نبتغي بها إلا وجه الله، أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، بعض هذه المواهب والملكات لتتخذ قدوة من أبناء الجيل الصاعد، وها هي ذي بعض النماذج:
الوجه الصبوح، والمحيّا الطلق:
يزينه ثغر مبتسم على الدوام، فكأنه هو المعني بقصيدة الفرزدق في مدح الإمام زين العابدين بن حسين بن علي، حين خاطبه بقوله: ” فما يكلم إلا حين يبتسم “.
أو من عناه الشاعر بقوله:
تراه إذا ما جئته متهللا * كأنك تعطيه الذي أنت سائله
الدعابة الممزوجة بالحكمة:
فقد أوتي محمد الهادي هذه الموهبة الغريبة –نسبيا– عن معظم الجزائريين، في أنه لا يكلمك إلا بدعابة، ولكنها الدعابة التي لا تخلو من نقد لاذع، أو مثل بارع، أو قول رائع.
الغوص في التراث الشعبي الجزائري:
الذي من خصائصه النشاز اللغوي، في مزج العربية بالفرنسية، غير أن الحسني يضفي على هذا النشاز اللغوي روحا خفيفة، فيصوغه في حكمة بالغة، من ذلك قوله على لسان التراث الشعبي الجيجلي: ” الأمان في ربي وفي (الكوافور) ” (أي الحلاق)، أو قوله في مسؤول لم يتعود على الصلاة: يسلم «A GAUCHE» أي يسلم بدءاً باليسار، أو عبارة ” غير هاك ” استخفافا بأي شيء، اقتباسا من أحد الممثلين الفكاهيين الوهرانيين، وغير ذلك.
التوظيف القرآني بتنزيله على الواقع:
إذ من البراعة التي وهبها الله صديقنا محمد الهادي الحسني، حسن التوظيف للقرآن، في تعامله مع المجتمع وفي أسلوبه ودعوته المسجدية.
فهو بالإضافة إلى موهبة تبسيط الأسلوب الدعوي، والنزول به إلى المستوى الشعبي، يدعم ذلك بموهبة التوظيف للقرآن في تأديته للرسالة.
فعندما ينتقد عزيزا عليه يقول عنه بأنه ” من المغضوب عليهم وليس من الضالين “، وعندما ينتقد قوما ما لموقف مشين من مواقفهم، يقول عنهم ” لا يذكرون الله إلا قليلا “.
وعندما يمازح –بالقرآن– أحد معارفه، كما حكى عنه صديق الجميع الدكتور عبد الحفيظ بورديم في شأن صديق آخر اسمه سليمان الذي سعى ذات يوم في تحقيق مكسب ما، فلما سأله عبد الحفيظ: وما نصيب أخينا سليمان من كل هذا؟ قال له الحسني: ” ولسليمان الريح “. وذات مرة عندما كنت بالمغرب، جاءه عالم عين صالح، المرحوم بإذن الله، الشيخ محمد الزاوي، وقدم له دعوتين لحضور ملتقاه العلمي السنوي، إحداهما له والثانية لي، فأجابه محمد الهادي لقد قبلت الدعوة، وحتى عبد الرزاق فقد قبلها.
فسأله الشيخ الزاوي: ولكن عبد الرزاق غائب، فقال له محمد الهادي: ” إني عليه لقوي أمين “، وعندما يلومه شخص على قلة زيارته، يقول له: ” ادعوني أستجب لكم “.
الصلابة في المواقف الوطنية:
فهو إسلامي إلى حد النخاع، وعروبي إلى حد الثمالة، وجزائري إلى حد النشوة.
إن هذه الثلاثية المقدسة هي التي جعلت منه أبرع جندي في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يذود عن حياضها بالعلم، ويتصدى لأعدائها بالحجة والمنطق، وينشر رسالتها بالبيان والبرهان.
فلا أعرف، من بين المثقفين في بلادنا من وهبه الله ملكة حفظ النصوص الباديسية، ولاسيما الإبراهيمية، فهو يحفظ نصوصهما كما يحفظ القرآن، وإنها لبراعة، انفرد بها صديقنا فأضافت إلى باقي المواهب والملكات التي يتحلى بها، قيمة الوفاء للعلماء الأصفياء، ولا يزال في هذه المواقف، لم يبدل تبديلا.
الاقتباس الفني:
وإن تعجب فاعجب لداعية يرتاد المساجد، ويصنف في خانة العلماء الأئمة، ولكنه يزيد عليهم بموسوعيته الثقافية، التي تجعله ملما حتى بالأغاني قديمها وحديثها، فهو يقتبس من أم كلثوم، ومن بلاوي الهواري، ومن نجاة الصغيرة وغيرهم، فعن أم كلثوم يستلهم من أغانيها قولها: ” وصلتيني للحال دا، بإيدك “، ومن بلاوي الهواري يأخذ عبارة أغنيته ” إكسبليك موا ذا لهدرة “، أي اشرح لي المقصود من كلامك هذا، ومن نجاة الصغيرة يحتفظ بتعليق شيخنا عبد الرحمن شيبان رحمه الله، حين علق على صديقنا المرحوم عبد الوهاب حمودة، حين كان يصف لنا –بعد غياب طويل– الحفاوة التي استقبله بها عمال وموظفو وزارة الشؤون الدينية، فقال له الشيخ ” حتى فساتيني التي أهملتها فرحت به ” إلى غير ذلك من الأمثلة والقصص التي يطول شرحها…
اللغوي المدقق والمؤرخ المحقق:
طوع محمد الهادي الحسني اللغة لبنانه ولسانه، فهو يغرف من معينها العربي الصافي ليصوغها في لآلىء وجواهر، تسكن قلب المخاطب بها وعقله.
فإذا عدت إلى التاريخ، وجدته المحقق للأحداث والوقائع، بروح ثقافية ونقدية، جاعلا عقله مصفاة لما يرد عليه من الوقائع والأحداث، وحسبك بمؤرخ، يعمل بحكمة محمد الشريف ساحلي ” ضرورة تصفية التاريخ من الأثر الاستعماري ” «Décoloniser l’histoire».
إن التحليل النفسي والاجتماعي والثقافي لشخصية الأستاذ محمد الهادي الحسني، في ضوء هذه المواهب والملكات التي رزقه الله إياها لينم عن شخصية قوية، متوازنة الجوانب، فأنت إذا حللت فيها الجانب الإسلامي كشف لك عن تبحر إسلامي، بحسن فهم للنصوص، وبراعة في التوظيف للأحكام، واعتدال في المواقف، وانفتاح على المخالف.
وإذا تناولت في شخصيته الجانب العروبي، إبّان لك عن تضلع بالأدب العربي، وفي التراث العربي، قديمه وحديثه ومعاصره، فهو قارىء نهم للتراث، لا يكاد يغفل أي جانب من الجوانب، فهو الموسوعي المنفتح دوما على صفحة العلم.
أما انتماؤه الجزائري، فقد بلغ فيه شأوا عظيما، ومن أبرز خصائص وطنيته، عداوته التي لا تضاهى للاستعمار الفرنسي، بدءا بثقافته و انتهاء بأخلاقه وسلوكه.
إن المقربين من محمد الهادي يذكرون له الورد الديني السياسي الذي أخذه عن الشيخ عبد الحليم بن سماية في فتواه لأحد العامة، وهو تكراره ورد اللعن للاستعمار، كي يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، رائده في ذلك قول الشاعر تقي الدين الهلالي:
أعادي فرنسا ما حييت وإن أمت * فأوصي أحبائي يعادونها بعدي
شكر الله القائمين على هذا المشروع التذكاري الذي أقاموه لمحمد الهادي الحسني، محبوب الجماهير الذي لا أعرف له عدوا، إلا من كان مبتدعا.
أطال الله في الخير عمره، وضاعف في الصالحات عمله وأجره.
المصدر: مجلة الربيئة.