الثمر الداني من محاضرات الشيخ أحمد حماني
بقلم: محمد الهادي الحسني-
من بين أنبل الصفات التي يتحلى بها البشر في كل زمان ومكان صفة الوفاء، والوفاء منه ما يكون للإنسان كشخص لما قد يكون لهذا الشخص من مِنَنٍ نحو هذا الإنسان أو ذاك، ومنه ما يكون للإنسان كقيم ومبادئ…
لا بد أن أعترف أن هذه الصفة النبيلة صارت أندر من الكبريت الأحمر عند أكثر الجزائريين، إذ غالبا ما يتنكر كثير منا لأصحاب الفضل علينا وعلى الوطن..
وأشهد بما علمت أن من الأساتذة الشبان الذين لمستُ فيهم صفة الوفاء الأستاذ الفاضل أبو أسامة عمر خلفة.
لقد جسد هذا الأستاذ خلق الوفاء نحو عالم من علمائنا، ومجاهد من مجاهدينا، حيث وقف نفسه كغيره ممن هم على ملته واعتقاده على هذا الوطن الغالي الذي صار ملعبا “للأوباش”.. وكانوا فيه من الزاهدين، ولو ساومهم مساوم عليه لباعوه بثمن نجس.. ولآثروا أعدى الأعداء لوطنهم على أخلص المخلصين له.
هذا العالم الجليل، وهذا المجاهد المجيد هو فضيلة الشيخ أحمد حماني، الذي رأت عيناه النور في السادس من شهر سبتمبر من عام 1915 في قرية أزيار من دائرة الميلية بولاية جيجل المجاهدة..
وكان من فضل الله – عز وجل – على الشاب أحمد أن هداه للالتحاق بحلقة ذلك العالم الرباني الإمام عبد الحميد ابن باديس في عام 1931، وهذا العام هو عام مبارك لأن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أسست فيه… فأسست أسس الوطنية الجزائرية القائمة على “الإسلام” والعربية، ووحدة الشعب والتراب”.
لما رأى الإمام ابن باديس الذكاء والفطنة والنشاط في تلميذه، واختبره بأن عهد إليه ببعض المهمات، فكان كما يقول المثل العربي “جذيلها المحلك، وعذيقها المرجب”. أذن له أن يلتحق بميدان أرحب، وأفق أوسع، وهو جامع الزيتونة المعمور، فلم يخيب التلميذ أمل شيخه، ولم يرجع من تونس بعدما قضى بها عشر حجج إلا وفي جعبته ثلاث شهادات في الأهلية والتحصيل والعالمية… وما نغص عليه فرحته إلا خلو الساحة من أسدها، حيث كان اليقين قد أتى شيخه، الإمام ابن باديس – وما أذهب عنه الحزن إلا تسلم الراية من أسد آخر هو فخر علماء الجزائر”، الإمام الإبراهيمي، كما وصفه أخوه الإمام ابن باديس.
إذا كانت الأقدار قد خطت في صحيفتي أن لا أتشرف بمعرفة الإمامين الجليليين، والتتلمذ على الشيخين العظيمين، لأن أولهما أفضى إلى ربه ولما أولد، ولأن الثاني قد أتاه اليقين ولما أبلغ الحلم ولكن الله – عز وجل – “أكرمني” فقبضت قبضة من أثر الشيخين عندما قدر الله لي أن أتتلمذ على الشيخ أحمد حماني، في السنة الأولى من التعليم الجامعي.
كان الشيخ أحمد يدرسنا الأدب العربي ممثلا في أحد رجالاته الذي يضيق به من وصفهم الإمام الإبراهيمي بأصحاب “جمع المخنث السالم”، أعني الشاعر الفحل أبا الطيب المتنبي القائل عن حق:
الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم
والقائل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم
وكيف لا وهو الذي قال عن نفسه:
أنام ملء جفوني عن شواردها * ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولكن المتنبي لم يكن يدري أنه سيخلفه خلف (بسكون اللام) لهم عيون وآذان، ولكنهم عموا وصموا عن “آيات المتنبي” فقالوا فيه ما ينطبق عليهم من انعدام المروءة، وتسفل الهمة، وقذارة الذمة.. لأنهم لم يستطيعوا أن يحلقوا في سمائه… فـ “رمتني بدائها وانسلت”.
بعد جهاد جهيد في العهدين “عهد فرنسا المظلم والظالم، وعهد الذين لم يرعوا الأمانة حق رعايتها قضى الموت على الشيخ أحمد حماني، فذهب إلى ربه راضيا بما عمل، مرضيا عنه من شهود الدنيا، متقبلا – إن شاء الله – عند الله، وذلك في سنة 1998.
لقد انبرى الأستاذ الوفي أبو أسامة عمر خلفة إلى جمع بعض آثار الشيخ أحمد حماني، تحت عنوان “الثمر الداني من محاضرات الشيخ أحمد حماني”.
يضم هذا السفر أربعا وعشرين محاضرة، يمتد مداها الزمني من 1938 إلى 1991، وأما مجالها المكاني فهو الجزائر إلا بضع محاضرات ألقيت خارج الجزائر..
وقد قدر لي أن أحضر بعض هذه المحاضرات، كما قدر لي أن أقرأ أكثرها عندما نشرت أول مرة في مجلتي الأصالة والثقافة اللتين أقبرهما من يضيقون بـ “الأصالة” و”الثقافة” لأن “بضاعة العلماء ما يزال الناس يجهلون أهميتها وقيمتها، ويؤثرون عليها الغناء والرقص”، كما قال الشيخ حماني للأستاذ محمد الصالح الصديق ذات يوم. (ص9)
وقد صدر هذا العمل بـ “تقديم” للأستاذ محمد الصالح الصديق، الذي عمل سنين عددا مع الشيخ أحمد حماني في مجال الدعوة والتوجيه والإرشاد، وقص الأستاذ بعض الذكريات التي جمعته بالشيخ حماني.
كما تفضل الأستاذ أبو أسامة فكتب مقدمة لهذا العمل وترجمة تفي بالغرض عن حياة الشيخ أحمد حماني.
هذا الكتاب أشبه ما يكون بمائدة عامرة بأشهر المأكولات وألذها، لأن موضوعات هذه المحاضرات متنوعة، منها ما يتناول العقيدة، ومنها ما يتناول الفقه، ومنها ما يتناول التاريخ، مما يدل على انفساح ذرع الشيخ أحمد، واستبحار معارفه، مع قوة الحجة وسطوع البرهان، في نصاعة بيان، وجمال بنيان.
وقد بشرنا الأستاذ أبو أسامة في كلمته التي ختم بها هذا العمل بأنه قد جمع “شيئا من آثار الشيخ من بحوث ومقالات وحوارات” (ص 529) فنسأل الله – عز وجل – أن يمده بعونه لإتمام ما بدأه، ولإخراجه للناس.
جاء في الحديث النبوي الشريف أنه “لا يشكر الله من لا يشكر الناس” ولذا أبادر بشكر الأستاذ الفاضل أبي أسامة على جهده، في تتبع آثار شيوخنا وأساتذتنا، ومنهم العالم المجاهد أحمد حماني الذي لم يلهه التكاثر، وعاش متواضعا في شقة عادية، بينما كان الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم يأكلون من فوق أيديهم ومن تحت أرجلهم، ويسكنون من المنازل العالي، ويلبسون من الثياب الغالي.. وقد يكونون من “الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”. رحم الله أستاذنا أحمد حماني، ورضي عنه، وقد سألناه يوما (الأستاذ محمد فارح، والدكتور قسوم، وكاتب هذه الرقوم) عن موقف لم نكن راضين عنه، فأجابنا الشيخ، وكنا في منزله: “يا أبنائي إننا نعرف الفتنة في وطننا بسبب الأنانية، وضيق الأفق، وعدم تقدير الأمور لا من هؤلاء ولا من أولئك، الذين لم يغضبوا لله، ولا للوطن، ولكن غضبوا لأنفسهم فكانت الكارثة، ولا يعلم إلا الله متى تنطفئ هذه الفتنة التي جعلت الحليم حيرانا.