شخصية الإمام محمد بشير الإبراهيمي الإصلاحية
بقلم: د. علي الصلابي-
إمام الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، الخطيب والمحاضر، رجل المواقف الإصلاحية، إنه محمد البشير الإبراهيمي (1889 - 1965 م) أحد أعلام الفكر والأدب والنهضة العلمية في العالم العربي، فمن عايشه أو استمع إليه، أو قرأ مقالاته، أدرك تمام الإدراك أنه أمام رجل مصلح يعرف ماذا يريد من إصلاح لوطنه وشعبه وأمته، فهو يُعَد من الأفذاذ المعدودين والعلماء العاملين في الجزائر، ويعز أن تجد له نظيرًا في العلم والعمل.
ولد محمد البشير الإبراهيمي يوم الخميس عند طلوع الشمس في الرابع عشر من شهر شوال سنة 1306هـ الموافق الثالث عشر من يونيو سنة 1889م. وينتمي إلى قبيلة تعرف بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل، ويرفع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجد الأول للأشراف الأدارسة، موطنه هو موطن أجداده الضارب في القدم وهو السلاسل الغربية المتفرعة من جبل أوراس، وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية في الجزائر. وتوفي وهو رهن الإقامة الجبرية في منزله يوم الخميس 20 ماي 1965م. وهو رفيق النضال لعبد الحميد بن باديس في قيادة الحركة الإصلاحية في الجزائر، ونائبه ثم خليفته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين، حيث تبنى أفكار تحرير الشعوب العربية من الاستعمار، وتحرير العقول من الجهل والخرافات.
أهم صفات الشخصية الإصلاحية العظيمة للإمام محمد بشير الإبراهيمي في كتاب (كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي):
أولاً: الروح التجديدية:
يعدّ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من أنصار المدرسة التجديدية التي تؤمن بشجاعة الرأي، وتتقدم الصفوف في بيان مقاصد الشريعة وقيمها النبيلة ومبادئها الراسخة، ويعتبر الشيخ محمد عبده من أكبر العقول التجديدية التي تأثر بها تأثراً بالغاً في حركته ودعوته وطلبه للعلم وحربه على البدع والخرافات والضلالات. ولقد قال في محمد عبده: "ولقد ادخر الله لهذا العصر الذي تأذن فجر الإسلام فيه بالانبلاج، الواحد الذي بذ الجميع في شجاعة الرأي والفكر وقوة العلم والعقل وجرأة اللسان والقلب، وهو محمد عبده، فهز النفوس الجامدة، وحرك العقول الراكدة، وترك دوياً ملأ سمع الزمان، وسيكون له شأن".
وكتب الإمام البشير في 1957م إلى الذين يحتفلون بذكرى جمال الدين الأفغاني ـ بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، ويبرز دوره في المدرسة الحديثة للإصلاح بالإسلام، فيقول: "إن من البر بأنفسنا أن نذكر العبر منها، ونجعلها دليلنا إذا أظلمت علينا السبل، وقدوتنا إذا أعوزنا الإمام القائد". ميَّز الإمام البشير بين هذا الصنف من «العلماء» وبين العلماء الحكماء الذين يجددون الدنيا بتجديد الدين.. وتحدث عن مكانة الأفغاني بين هؤلاء العلماء الحكماء، وعن غرسه الطيب، المتمثل في الإمام محمد عبده، وعن دَيْن هذه المدرسة الإصلاحية، كانت من الصفات البارزة في الإبراهيمي روحه التجديدية التي انعكست في خطبه الدعوية، ونثره المتميز، وشعره التحرري.
ثانياً: الحكمة والإصلاح:
كان واضحاً كل الوضوح في فكر الإمام البشير، ومنذ فجر جهاد العلماء المسلمين الجزائريين، أن الأستاذ الإمام محمد عبده هو «المصلح العظيم»، و«إمام المصلحين» و«أعجوبة الأعاجيب» و«صاحب التأثير الأكبر في حركة الإصلاح الجزائرية». ولقد كتب في تقرير هذه الحقيقة (1935م): "إنه لا نزاع في أن أول صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي بلزوم الإصلاح الديني والعلمي في الجيل السابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه، وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتاً، وأبعدهم صيتاً في عالم الإصلاح، فلقد جاهر بالحقيقة المرة، وجهر بدعوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الرجوع إلى الدين الصحيح، والتماس هديه من كتاب الله وسنة نبيه..."
كان الإمام أعجوبة الأعاجيب في الألمعية، وبُعد النظر، وعمق التفكير، وجدّة الخاطر، واستنارة البصيرة، وسرعة الاستنتاج، واستشفاف المخبات، حكيم بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معنى. حجة من حجج الله في فهم أسرار الشريعة ودقائقها وتطبيقها، وفي البصر بسنن الله في الأنفس والآفاق، وفي العلم بطبائع الاجتماع البشري وعوارضه ونقائصه. كان فذاً من الأفذاذ، الذين لا تكونهم الدراسات وإن دقت، ولا تخرجهم المدارس وإن ترقت، وإنما تقذف بهم قدرة الله إلى هذا الوجود، وتبرزهم حكمته، في فترات متطاولة من الزمن على حين انتكاس الفطرة، واندراس الفضيلة، وانطماس الحقيقة، فيكون وجودهم مظهراً من مظاهر رحمة الله بعباده، وحجة للكمال على النقص، وإصلاحاً شاملاً وخيراً عميقاً.
وحاول البشير أن يسد الفجوة بين جماعة الإخوان ورجال الثورة المصرية، فإن الفريقين يقدرونه ويصغون إلى نصحه، ولكن الشر كان قد تفاقم بين الفريقين، وعزَّ على العلاج، فتوقف محزوناً. وظل ومعه بعض الجزائريين، يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين، وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، وكان يتعاون مع الشيخ الفضيل الورتلاني على نصرة القضية الجزائرية.
ثالثاً: الفكر العظيم:
من صفات الإبراهيمي أنه كان مفكراً متميزاً من الطراز الأول، وكان مفكراً يحترم نفسه وعقله وفكرته ودعوته.. فيتجنب التناقض والزلل، ويمضي في آثاره الكتابية ضمن قواعد جعلته كاتباً له قضاياه الفكرية الأصلية التي توقف عندها يدعو إليها ويبشر بها، وله منهجه الفكري الذي يتميز به حين يطرح هذه القضايا ويدلل عليها، فقد ساد عمل الإبراهيمي الفكري في القضايا التي عالجها، وخاصة منها ما كان في توضيح رؤية الجزائريين للجزائر، وأسلوبه في ترسيخ المقومات وتثبيت الذات ساده مجموعة من القواعد الفكرية يقوم عمله عليها وينطلق منها، ومن هذه القواعد:
أ ـ قاعدة المقارنة مع الأوضاع المماثلة عند الشعوب والديانات الأخرى. والمقارنة أقرب الأساليب إلى نفوس الناس، وأقصر طرق الكاتب إلى توضيح ما يريد إيضاحه، ومن أهم المقارنات التي أجراها؛ المقارنة بين سلوك الأديان الثلاثة في الجزائر وعملها وما خلفته من آثار، المقارنة بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي وبين الاستعمار الفرنسي والعالم الاستعماري كله، المقارنات التي كان يعقدها بين عمل جمعية العلماء وعمل الأحزاب والمؤسسات الأخرى.
ب ـ النزعة إلى العقل وعلمي المنطق والأصول؛ اللذين يضبطان التفكير عند الإنسان، ويعملان على إيجاد القواسم المشتركة بين المنظرين والمفكرين، والمتناقشين والمتحاورين، ويكونان اللغة المتبادلة بينهم، جعلت معالجته حافلة بالقواعد المنطقية التي ينزل عندها كل ذي عقل سليم، فهو كثيراً ما يتحدث عن العلاقة ما بين الأصول والفروع.
رابعاً: الاجتهاد والفقه:
يعدّ الإبراهيمي من علماء الإصلاح، وضد الجمود والخمود، فقد كان ثائراً بمعنى الكلمة، ودعا إلى إعمال العقل والاجتهاد، والبحث عن وسائل نهضة الأمة، وشنَّ حرباً لا هوادة فيها على دعاة الجمود. وكان مطلعاً على الفقه وأصوله اطلاعاً واسعاً، ثائراً على العصبيات المذهبية، مستوعباً لمقاصد الشريعة وحكمها، ويرى أن في الفقه فقهاً لا تصل إليه المدارك القاصرة وهو لب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد (ص)، وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه، وهو الذي ورثه عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، ومن المعاني السامية التي يدعو إليها في باب الفقه:
1- المجتهد هو الشخص الذي يستطيع أن ينفذ إلى لب الفقه والدين، ولا يركن إلى الجمود والخمود، فيجهل حقيقة الدين، ويجهل تبعاً لذلك الحكم المنطوية تحت أحكامه.
2- المجتهد هو الشخص القوي المدارك، الملمّ بأصول الفقه، وبطرق الاستنباط، وبقواعد اللغة العربية، وبمقاصد الشريعة.
3- الفقه الحقيقي الذي يبلغه المجتهد هو جوهر الدين، روح القرآن وعصارة السنة، وهما المصدران الرئيسيان اللذان تستنبط منهما الأحكام ويؤخذ منهما الفقه الأكمل.
خامساً: الزهد والإخلاص:
كان الإبراهيمي زاهداً في الدنيا من كبار الزهاد، لم يرث مالاً ولم يتموَّل أموالاً، وعاش مع أسرته على مرتب شهري من صندوق «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، والذي كان يسدد ديونه القديمة بديون جديدة، محتفظاً بالحرية والاستقلال عن أصحاب النفوذ والسلطات.. سالكاً في ذلك طريق العلماء الأعلام ـ الذين لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ـ مكتفين بالعلم والجهاد، أسوة بالنبيين والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً.
لقد تميزت شخصية الإبراهيمي بزهده في الحطام الزائل، وإخلاصه لدعوته ودينه، وكان يذكر نفسه وإخوانه وتلاميذه بأهمية الإخلاص في الأعمال، ويعتبر ذلك هو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به حيث يقول: لقد صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع، فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول جزاء من الله على الإخلاص، يعجله لعباده المخلصين، وهو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يدُعُّ النفوس المدْبِرة عن الحق إلى الإقبال عليه، ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي، هو الفارق الأكبر بين صولة العالم وصولة الملك، وهو الذي أخضع صولة الخلافة في عنفوانها لأحمد بن حنبل (164 ـ 241هـ/ 780 ـ 855م).
سادساً: الإنسانية الرفيعة:
من صفات شخصية الإمام الإبراهيمي صفة الإنسانية الرفيعة، وكان رحمه الله أمة في رجل، وكان طاقة جبارة من العزيمة والنشاط والشجاعة والجرأة في الحق، وفي ذلك عُذِّب وسُجن ونُفي وشُرِّد فما لانت له قناة، ولا وهنت له عزيمة، بل ما زاده ذلك إلا قوَّة وصلابة، واسترسالاً في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي، وكان يحمل بين جوانحه روحاً شفافة تتمثل فيها العاطفة الإنسانية بأجلى معانيها، حيث كان يحب الخير، ويفعل الخير، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان صاحب لهفة لا يرد طالب حاجة، فهو يخدم المجتمع ككل ويخدم الأفراد لأنه يعتبر الشيئين مكملين لبعضهما، حيث كان رأيه أن خدمة الأفراد تشكل في مجموعها خدمة للجماعة، لأن الفرد جزء من الجماعة، وكان رأيه بأن الزعيم الحقيقي هو الذي يفني ذاته في خدمة الفرد والجماعة، وهكذا كان الإمام البشير.
وكان رحمه الله وفياً لأصدقائه ومعارفه، ويسأل عنهم ويعودهم، ويتتبع أخبارهم على البعد، فإذا عرف أن لدى أحدهم مشكلة أو به خصاصة أو ضائقة؛ سعى بكل ما أوتي من قوة لحل مشكلته وتفريج كربته. وإلى جانب مواقفه البطولية الصلبة المعروفة، التي كانت لا تلين له فيها قناة، أمام الحكام الجائرين وأصحاب السلطة المتعالين، ممن يرى أنهم انحازوا عن جادة الصواب، حيث كان لا يتزعزع ولا يتضعضع، ولا يبالي ولا يأبه بوزير أو أمير أو رئيس، كانت له نفس شفافة متواضعة أمام الضعفاء وفي المواقف الإنسانية.
المراجع:
1- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي: أحمد طالب الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1997م.
2- الشيخ البشير الإبراهيمي، د. محمد عمارة، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2001م.
3- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بأقلام معاصريه، شركة دار الأمة، الطبعة الأولى-وزارة الثقافة والسّياحة- الجزائر 1985م. والطبعة الثانية-دار الأمة، الجزائر 2007م.
4- كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي ج(3): د. علي محمد الصَّلاَّبي ، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1438هـ 2017م.
5- الملتقى الدولي للإمام محمّد البشير الإبراهيمي بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاته، الجزائر قصر الثقافة في 13 و14 ربيع الثاني 1426 ه، الموافق 22 و23 مايو 2005م.