الشيخ عمر غريسي المدعو الملياني تلميذ الشيخ ابن باديس

بقلم: محمد الهاشمي-

لقد قيل: إن لكل رجل حياتين حياته الشخصية وهي الفانية، وحياته الفكرية وهي الباقية وقد قال الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:"لا يموت من الإنسان إلا العنصر الترابي. أما أفكار العلماء فتبقيهم أحياء". واليوم إن شاء الله تعالى نتعرف على رجل عالم ترك بصماته في مدارس جمعية العلماء المسلين الجزائريين حيثما حل وارتحل ألا وهو الشيخ عمر غريسي المدعو الملياني.

ولد عمر غريسي بن محمد يوم 18 أكتوبر 1909 بوادي الفضة (20 كلم شرق مدينة الشلف) حفظ القرآن الكريم وعمره لم يتعد العاشرة، ثم التحق بالمدرسة الفرنسية. كان مولعا بطلب العلم ومن أجله هانت في عينيه مشقات السفر وعناء الرحلات من بلد إلى بلد، فركب المخاطر ولم يأبه بالمكابدات لبلوغ الغايات إلى أن وصل إلى جامع الزيتونة بتونس دون أن يعرف له أهله مصيرا.

وفي الثلاثينات عاد إلى مدينة قسنطينة وتتلمذ على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس وكان قد انتمى في بداية أمره إلى حزب الشعب الجزائري إلى أن تألق نجم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التحق بها كعضو نشيط؛ ونظرا لتفانيه في طلب العلم قررت الجمعية إرساله في بعثة إلى الأزهر الشريف لمواصلة دراسته ولكن الحظ لم يسعفه، وأثناء الحرب العالمية الثانية وجد بفرنسا وهناك التقى بالشيخ الفضيل الورثلاني فكلفه بمهمة التدريس لأبناء المغتربين الجزائريين؛ ونظرا للدور الذي قام به في توعية المغتربين بالقضية الوطنية ألقي عليه القبض في عهد الحكومة الفرنسية الموالية للنازية وأودع الحبس بأحد المراكز الألمانية ولحسن حظه تمكن من الفرار صحبة أحد رفاقه عشية قصف المركز من قبل الطيران البريطاني الذي دمره عن آخره.

وفي سنة 1948 إلى سنة 1952 درس بالمدرسة الخلدونية بمدينة الشلف رفقة الشيخ البوعبدلي والشيخ البودالي الفارسي والشيخ بنوران رئيس الجمعية بمدينة الشلف؛ وفي سبتمبر 1952 عينته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمدرسة أولاد سيد الحاج بولاية تلمسان وهي قرية اشتهرت بحب العلم والإصلاح وكذلك بأشجار الكرز المختلفة الأنواع. تقع جنوب شرق تلمسان على بعد 32 كلم بعرش الشولي أو وادي يبدر سابقا وقد نسبت إلى العلامة الفقيه الشاعر أحمد بن الحاج صاحب كتاب "أنيس الجليس في جلو الحناديس عن سينية بن باديس" المناوي أصلا الورنيدي مولدا ودارا (القلعا العليا) حيث ضريح أحد أجداده المعروف حاليا (سيدي علي بن الحاج) والمتوفى في حدود الثلاثين من المائة العاشرة (930 هـ الموافق 1525 م) بعد أن ترك أحفادا حملوا راية العلم والإصلاح الديني والاجتماعي وكانت هذه هي همزة الوصل بين الأحفاد والأجداد، وبخاصة بعد أن سلط الاستدمار الفرنسي الغاشم جهوده ووسائله الجهنمية لمحو الشخصية الوطنية من لغة ودين وتاريخ وتعويضها بالبدع والخرافات والتضليل والتدجيل؛ وبعد ظهور الفجر الجديد على يد كوكبة من رجال الإصلاح بقيادة العلامة الإمام عبد الحميد بن باديس وصحبه الشيخ البشير الإبراهيمي تنفس سكان القرية الصعداء، وتيقنوا بأن البداية من هنا فتعلقوا بأول الخيط وانتموا إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأرواحهم ومشاعرهم واستجابوا لدعوتها لأن فيها خلاص الأمة، فكانت فكرة بناء المدرسة لأنها هي المكان الحقيقي لبناء الشخصية المتشبعة بالقيم العربية الإسلامية وهي التي تربط بين الأمة وأمجادها العظماء وهي المصنع الذي يصنع الرجال الذين يبنون العزة والكرامة للأمة، وبعد أن تم بناء المدرسة بجهود وأموال السكان باشر الشيخ عمر غريسي عمله كمدرس ومدير للمدرسة في نفس الوقت إلى جانب معلمين مساعدين له سنة 1952 حيث وجد ترحابا كبيرا هو وعائلته من أهل القرية الذين اكرموا وفادته ولم يقصروا في خدمته ليمكنوه على اداء مهمته على احسن وجه فقام بتنشيط العملية التربوية وأبدع في تطوير الأساليب والطرق فكان جل وقته يقضيه في التعليم والإرشاد والتوجيه ففي النهار مع التلاميذ الرسميين وبعد صلاة العصر مع الكبار حفظة القرآن الكريم وبعد صلاة المغرب في المصلى الملحق بالمدرسة يلقي دروس الوعظ والإرشاد ومعظم هذه الدروس تعالج واقع الأمة البائس وتدعو إلى توعية الحاضرين بالمخاطر التي تحيط بوطنهم ودينهم ولغتهم زيادة على استغلاله لأيام العطل للزيارات أو استقبال الضيوف أثناء عرض بعض المسرحيات التي كان يشرف على إعدادها كمسرحة "الاتحاد" التي كانت المشاركة في تمثيلها مناصفة بين تلاميذ المدرسة وتلاميذ مدرسة بني هذيل بحضور الشيخ مصباح حويدق فكان الشيخ عمر محل إعجاب الكبار والصغار، بدأت هذه الدروس والنشاطات تجلب الكثير من أبناء القرى المجاورة وبخاصة أن القرية كانت معروفة بالفكر الإصلاحي أبا عن جد ومن المغضوب عليها عند الدوائر الاستدمارية فأصبح الشيخ عمر إلى جانب الفقيه الحاج بن الصديق الهاشمي إمام المسجد العتيق تحت الرقابة الاستدمارية وتلقى الشيخ عمر عدة تحذيرات ولكنه لم يأبه بذلك.

وفي أواخر سنة 1955 وأثناء تواجد التلاميذ في أقسامهم هجم الدرك الفرنسي بقيادة السفاح "موس" قائد كتيبة الدرك بأولاد ميمون وألقي القبض على الشيخ عمر وحمل داخل مصفحة عسكرية مقيد اليدين أمام أعين التلاميذ وأغلقت المدرسة وشرد التلاميذ وفر من بقي من المعلمين وانتقل الشيخ الحاج بن الصديق الهاشمي إمام المسجد العتيق إلى قرية الشولي للتدريس بها ثم ألقي عليه القبض ووضع في زنزانة مع كلب بوليسي لمدة ثلاثة أيام وبعد مدة علم سكان القرية بأن الشيخ عمر نفي إلى خميس مليانة ثم إلى قرية عمروسة (بوينان – الجزائر) كمدرس لكن مطاردة الاستدمار له لم تتوقف؛ يقول نجله الدكتور محي الدين غريسي:"لقد تم اعتقاله سنة 1956 وأحرق منزله إبان الثورة التحريرية بقرية عمروسة (بوينان) بكل محتوياته من أثاث وكتب وشردت العائلة"
كما يقول الأستاذ قدور قرناش رئيس شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالشلف:"بعد إلقاء القبض على الشيخ عمر تفننت المخابرات الفرنسية في تعذيبه طيلة شهر وخمسة أيام وهو لا يردد إلا هذه الكلمات أقتلوني. ارموني بالرصاص. أو قطعوني أشلاء لست عدوا للشعب الفرنسي لكن سأظل مناهضا للاستعمار الفرنسي فكسرت أضلاعه مما تسبب في إدخاله المستشفى تحت ضغط الصليب الأحمر وبعدها نقل من سجن إلى سجن من سركاجي إلى البرواقية إلى سان لو بضواحي غيليزان وهناك كان دائما يواصل نشاطه التعليمي للمساجين" ومباشرة بعد الاستقلال عاد إلى المحفظة ليواصل رسالته التربوية بالمدرسة الخلدونية بالشلف، لكنه عاش متأثرا مما لاقاه من تعذيب جسدي ونفسي رافضا كل المناصب التي عرضت عليه إلى أن وافته المنية يوم 06 جانفي 2000 بمدينة الشلف عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاما.

ولازال سكان القرية يذكرونه بخير والكثير منهم تجده يردد "قال الشيخ عمر" "كان الشيخ عمر" وها هو ذا تلميذه قدور مرصلي يقول :"كان أستاذا ماهرا حركيا فعالا صاحب بشاشة وفراسة لا تخطئ، لا يعرف الكلل ولا الملل، علمنا تعليما صالحا نافعا، كان يركز على تقوية العقيدة الإيمانية بالله وكذلك الأناشيد الحماسية مثل لغتي ديني وطني، شعب الجزائر مسلم، عليك مني السلام يا أرض أجدادي وكأنه يحضرنا ليوم صعب وفعلا اعتقلت مرتين وعذبت عذابا أليما وبفضل هذا التكوين كنت لا أردد إلا "ما نعرفش" ما شفتش" ما اسمعتش" رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء"

كان الشيخ عمر غريسي عالما عاملا بعلمه يعلم الأخلاق الحسنة قبل العلم ولهدا أثمر تعليمه سلوكا طيبا وأخلاقا حسنة في نفوس متعلميه الدين كانوا في طليعة المجاهدين في سبيل الله لتحرير البلاد والعباد من أرجاس وأنجاس الاستدمار الفرنسي الغاشم.

رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.