الشيخ محمد البشير الإبراهيمي “بين حقد الموترين وشهادات المفكرين”
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
مرت الذكرى الثالثة والخمسين لرحيل العلامة الشيخ المصلح محمد البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد وفاة مؤسسها العلامة عبد الحميد بن باديس. ورغم أن الشيخ الإبراهيمي -رحمه الله- كان رمزا وطنيا، ومنارة فكرية، وأحد قادة الحركة الإصلاحية الوطنية العلمية، ومن أبرز علماء العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين، سخّر علمه وقلمه لخدمة وطنه والدفاع عن الإسلام واللغة العربية إلا وككل العظماء الذين خلد التاريخ سيرتهم لم يسلم من تثليب الـمفترين، وتجريح الـموترين، وانتقاد الحاقدين.
قبل فترة نشر بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة الأسبق اتهامات مسيئة للماضي الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولرئيسها المرحوم الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي في كتاب بعنوان:( كتابات وتحليلات غير منشورة حول قضايا ماضي غير بعيد)، ورد عليه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية الأسبق، ونجل الشيخ البشير في مقال شامل نشر في جريدة: “le soir d Algérie” (لوسوار دالجيري) الصادرة يوم: 8 /11 /2017م، ويحمل المقال شهادات تاريخية مهمة عن الماضي الوطني للشيخ البشير الإبراهيمي بعضها غير معروف للجمهور الواسع من القراء وخاصة باللغة العربية، ولذلك تمنيت لو تمت ترجمت ذلك المقال القيم إلى اللغة العربية، ومما جاء في المقال المذكور:” كانت السلطات الفرنسية تولي اهتمامها لنشاطات البشير الإبراهيمي في القاهرة يتبين ذلك من وثيقة لمصالح المخابرات الفرنسية مؤرخة في 18 ديسمبر 1954 م تظهر أن فرقة كومنودوس مشكلة من شباب جزائريين ينتمي معظمهم لجامعة الأزهر كانوا يتدربون تحت إشراف ضباط مصريين على أساليب حرب العصابات وبالخصوص على كيفية تحضير المتفجرات، وتنص الوثيقة على أنه في 29 ديسمبر1954م تم استقبال أعضاء هذه الفرقة من طرف محمد خيضر عضو بعثة الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني الذي قام باصطحابهم إلى مقر الشيخ البشير من أجل استكمال تكوينهم العقائدي. وتعرفت مصالح الاستخبارات الفرنسية على خمسة أشخاص من هذه الفرقة وكان من بينهم محمد بوخروبة الذي أصبح فيما بعد الرئيس هواري بومدين”.
والمعروف أن الشيخ البشير الإبراهيمي كان موجودا في القاهرة عند اندلاع الثورة المباركة في 1 نوفمبر 1954م من أجل توفير العون المادي والسياسي للجهاد الجزائري، وقد وجه نداء للشعب الجزائري في 15 نوفمبر 1954م لدعم الثورة المسلحة. كما تميز خلال مرحلة الثورة بنشاطه الفعال والمثمر لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية وللتعريف بالقضية الجزائرية ودعم الكفاح الجزائري، وزار كلا من مصر والسعودية والعراق وسوريا والأردن والكويت وباكستان.
ولم تبدأ عداوة فرنسا للشيخ الإبراهيمي في 1954م، فقبل أسبوع من وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس، قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية عام 1940م بنفي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى منطقة “آفلو” بولاية الأغواط.
وبعد مجازر لثامن ماي عام 1945م زُجّ بالشيخ الإبراهيمي مع عدد من القادة الوطنيين كفرحات عباس في السجن العسكري الفرنسي ولاقى ألوانا من التعذيب، وبعد إطلاق سراحه في 1946م أنشأ جريدة البصائر وتولى رئاسة تحريرها، كما أسس معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة الذي يعد من مفاخر الجزائر في تاريخ التعليم العربي بالجزائر ومع اندلاع ثورة التحرير الجزائرية في 1954م.
وأما عن القيمة العلمية والتاريخية للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فنورد شهادات بعض القمم العلمية والدينية في القرن العشرين.
شهادة الإمام الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي
يقول الشيخ الغزالي -رحمه الله- إنه التقى بالشيخ البشير الإبراهيمي رئيس الجمعية في القاهرة في عام 1952م، للمرة الأولى في المركز العام للإخوان المسلمين، حيث ألقى الإبراهيمي محاضرة عن التواصل بين المغرب والمشرق.
ويضيف:” كانت لكلمات الشيخ الإبراهيمي دويا بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزاً في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رزق بياناً ساحراً، وتأنقاً في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها”.
واكتشف فيه أيضاً عالماً بالفقه والأصول والأحكام، ويقول في هذا الصدد: “ومن الخطأ تصور أن الشيخ الكبير كان خطيباً ثائراً وحسب…لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة”.
شهادة العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان
يقول الشيخ البوطي -رحمه الله-:” أذكر عهدا كان اسم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي فيه مرتبطا في ذهني بالبيان الجزل والأدب الرصين والسبك العربي السامي، ثم لم تكن لي التفاتة إلى ما وراء ذلك من المعاني والأفكار السارية في داخله. كان ذلك في صدر حياتي، يوم كانت النزعة الأدبية ملء كياني، وكان هوى البيان العربي شغلي الشاغل..فلما لطف الله بي ونقلني من هوى التمتع بوعاء الأدب والبيان، إلى الاهتمام بما ينبغي أن يحويه هذا الوعاء من القيم وحقائق الدين وموازين العلم، أصبحت أتجاوز الصور البيانية المشرقة في بحوث الشيخ البشير الإبراهيمي وكتاباته إلى الأفكار التي ينادي بها والقيم التي يدعو إليها، وأتتبع مواقفه الثائرة فيها على الاحتلال وذيوله”.
شهادة الفيلسوف الفرنسي المسلم روجي (رجاء) غارودي
يقول الفيلسوف العالمي رجاء غارودي ـ رحمه الله ـ:” عندما أطلق سراحي، بقيت في الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم، كان له أكبر الأثر في نفسي – هو الزعيم الإسلامي الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس رابطة العلماء المسلمين الجزائريين – وقد قمت بزيارته، بصحبة عمّار أوزقان (صاحب كتاب: الجهاد الأفضل)، وفي مقر الشيخ الإبراهيمي لاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب. ولأول مرة أتعرف على صاحبها، عندما شرح لي الشيخ البشير جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري – عدو فرنسا – كبطل محارب وعابد ناسك؛ بل كواحد من أعظم أبطال القرن التاسع عشر”.
كانت هذه بعض الشهادات المسجلة عن رجل يبقى مفخرة للجزائر وللأمة الإسلامية.
بعد الاستقلال في 1962م ألقى أول خطبة في جامع كتشاوة وسط العاصمة الذي حولته السلطات الفرنسية إلى كنيسة أثناء احتلال الجزائر. وفي 16 أفريل 1964م عبر كعادته بكل جرأة وتبصر وروح المسؤولية عن معارضته لتحريف مسار تطور الجزائر، مما دفع نظام الرئيس الراحل أحمد بن بلة -رحمه الله- رئيس الجزائر آنذاك إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية، وتوفي البشير الإبراهيمي في منزله، وهو رهن الإقامة الجبرية يوم الخميس 20 ماي 1965م ـ عليه رحمة الله ورضوانه ـ عن عمر ناهز 76 سنة.