رباعية الإبراهيمي ومشروع الاجتماع الحضاري
إنها بداية القرن العشرين أين برزت تيارات كثيرة ومنهاج متعددة هادفة إلى دفع نهضة شعوبها، وكانت صورة من صور رد الفعل اتجاه ما كانت تعانيه هذه الشعوب، من طمس وتشريد لمعالم الهوية وملكية الأوطان، وكنتيجة محتومة شهدت الكثير من الشعوب تأثرا في شتى مجالات الحياة، اجتماعية واقتصادية وسياسية وإلى غيرها من الجوانب المتأثرة بنسبة أو بأخرى، والجزائر بخاماتها الفكرية نبغت منها أفكار بنت معالم فكر إصلاحي بنائي قوي وعتيد، وكان المهد والتمهيد لانتزاع حرية الفرد والوطن من بين أنياب ومخالب مستعمر غاشم ، حاول تدمير الكيان الجزائري الأصيل، والحديث في هذا الصدد يسوقنا مباشرة إلى الحديث عن قطب إصلاحي فكري وتنموي عظيم، غرس الأصالة عميقا وجعلها في مأمن من محاولات المستدمر، إنها الحركة الإصلاحية الجزائرية نبراس التحرر والوطنية، كان لها عظيم الدور وكبير التحدي والصمود، بفضل رجال دافعوا عن مقومات الوطن والوطنية، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م) كان من أوائل الأفذاذ الذين تمكنوا من تأسيس فكر وطني خالص رفقة الشيخ ابن باديس رحمة الله عليهما، كان لهذا الفكر فعالية كبيرة في دعم همم رواد الحركة الإصلاحية للمجتمع آنذاك وتحريره من الأفكار الزائفة والدخيلة وتعبئته بشحنة حب الوطن والتمسك، ونكران مغتصب الأرض وعدم تعليق الآمال عليه ولا استئمانه، فقال مقولته المشهورة: إن فرنسا نبية في الاستعمار، وإنها ترى أنه شرع لا ينسخ وعقد لا يفسخ. (1)
نسجت أفكار الرجل الإمام ، الملم بأحوال شعبه ووطنه نموذجا متكاملا، كان منهجا علاجيا وفق منظور إصلاحي منطلق من احتياجات الأمة ومما عانته، فكان يعي جيدا الخطر المحدق بالثوابت والدعائم الأساسية للكيان الجزائري، وما نسلط عليه الضوء هو نقطة مهمة جدا في فكر الإبراهيمي البناء والداعم لتقدم النهضة في تلك الحقبة وحتى إلى يومنا هذا، باعتبار أن أفكاره قنديلا في مسيرة التنمية والتحصن، نسج الإبراهيمي معادلة قوية تكون نتيجتها الحتمية التطور والنهضة في حالة ما احترمت أطراف هذه المعادلة وأخذ يعمل على تجسيد تلك الأطراف ومتابعتها، وتطرق إليها تفصيليا خلال محاضرة ألقاها في العاصمة بنادي الترقي عام 1929 م.
هي رباعية جعل منها الرجل لوازما أربعة(2)، من أجل تحقيق النهضة والتقدم والإجماع الخادم والهادف ، وأعطاها وسم اللوازم حرصا على تطبيقها، فأول هذه اللوازم والعنصر الأول في هذه الرباعية المتكاملة هو الدين، العنصر الأول والأهم ولذلك أعطاه المرتبة الأولى في هذه الرباعية، شدد على أهميته وضرورة فهمه بطريقة صحيحة بعيدة عن المغالطات والبدع وضرورة تقريب مفاهيم الدين من أذهان الأمة، وأنه يتوجب أن يتم العمل في هذا الصدد وفقا لتعاليمه الصحيحة المبنية على الحكمة و الموعظة والبساطة، وأنه دين عملي ومواكب صالح لكل زمان ومكان ، ذلك أن للزمان والمكان والعرف والعادة والبيئة مدخلا لتكييف المعاملات، وفي لبنة الدين ربط اللغة العربية وحرص على ضرورة حمايتها ونشرها نظرا لأهميتها القومية والإستراتيجية في لم الشمل وتحقيق الفهم الفعال وربط نشر التاريخ الإسلامي القومي وأعطاه أهميته الكبيرة في ترجمة الأحداث ونقلها، وهذا ما له بعدا عميقا بين الأجيال ، وهكذا قدم الإبراهيمي اللبنة أو الدعامة الأولى للوازم إجماع فعال وبناء وجعل من الأخلاق اللازمة الثانية بعد الدين، فبلا أخلاق ما بقت أمم ولا نجحت أفكار نمو وتقدم ، فالأمة هي أحوج إلى جانب الأخلاق لتصمد في وجه الغزو الثقافي الفكري والوهن الذي تكلم عنه الإبراهيمي وشخصه وكان خير من يضع يده على الداء، وكوقاية أو علاج في هذه النقطة، بين أهمية دور الأسرة في الرفع من درجة الأخلاق ووسم دور الأسرة بالتربية المنزلية، واللازمة الثالثة هي لازمة العلم ، فهو أساس التفاعل الحيوي في كل القطاعات وأساس التقدم والبحث، وفي هذه النقطة شدد الرجل على أهمية العلم ودعمه وإسناده، وذلك في رؤية ذات نطاق شمولي عام، حيث أشار إلى دور الجمعيات في العمل عليه ودعمه وتشجيعه، كما أوضح أن أمتنا في العلم مازالت متأخرة لذلك وجب العمل على دفع تقدم العلم من أجل فعالية أفضل و أقوى ، والعلم مربوط بالتدعيم والتدعيم بالمال، لذا كانت اللازمة الرابعة في هذه المعادلة هي لازمة المال ، فالمال داعم للعلم وبتوفرهما تزداد فعالية الأثر، وبالتالي تحقق النتائج المرجوة ، وهنا قدم محمد البشير الإبراهيمي نموذجا متكاملا إستشرافيا ببعد إستراتيجي ، معالمه الاستثمار في الدين والأخلاق والعلم والمال، وكان للرجل فعالية كبيرة في نشر هذه الرباعية بالنظر إلى ما لعبه من دور وفضل مساند ومؤسس لمعظم المدارس في حقبة كان فيها تأسيس المدارس يعتبر جرما، ودار تلمسان للحديث خير مثال في هذا الصدد(3)، حيث كان له فضل كبير في تأسيسها ونشر أفكار البناء من خلالها ، وبالرجوع داخل هذه الرباعية من آخر لازمة فيها وهي المال إلى الوراء سنستنتج أن الإبراهيمي بناها كلها على فكر مطلق روحي أكثر منه مادي وهو الدين والأخلاق، وكل ما بني على أساس قوي يشيد عاليا ويفتخر به، وهكذا وظف الرجل وفعل كل قدراته وأفكاره في سبيل رفع مستوى الوعي لدى شعبه ولدى كامل الشعوب العربية، على اعتبار أن أفكاره مست الكثير من الشعوب، وكان لها كل الأثر الإيجابي في مسيرتها استنهض العقول والقلوب، ودعم همم الوطنية وحارب الإستدمار بقلمه وبلسانه فأبدع وألهم، رحم الله الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وأسكنه فسيح جناته، وحفظ وطننا الغالي المفدى العزيز.
الهوامش:
(1) : أحمد طالب الإبراهيمي، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ( عيون البصائر) ، ط 1، ج 3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997 ، ص 288 .
(2) : أحمد طالب الإبراهيمي، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ط1 ، ج 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997، ص 51 .
< p align="justify">(3) : عبد المالك مرتاض ، محمد البشير الإبراهيمي ، الموسوعة التاريخية للشباب ، منشورات وزارة الثقافة والسياحة - مديرية الدراسات التاريخية وإحياء التراث ،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية - وحدة الرغاية ، الجزائر 1984 ، ص 22 .