بدون مهنة..

بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-

هل قيمة الإنسان مستمدةٌ من شهاداته العلمية ودرجاتها؟ وهل منزلته انعكاس للكرسي الذي تربع عليه في الوظيف؟ ..أو ما يَنفخُ رصيده من الأموال، ..أو عراقة سلالة نسبه؟

لا ريب أن هذه المعايير مجرد أوهام بشرية وجهلاتهم المركبة ..

إنَّ فم الزمان يُقَهْقِهُ مِلْئَ شِدْقيه من اعتباراتِ البشرِ هذه، واشتغالهم بموازيين لا تعبر عن الحقيقة في شيء، ويسخر من ركضهم وراء معايير هي من نسج خيالهم الكسيح أو فكرهم العليل أو تطلعهم المريض ..

ـ ليست الشهادةُ هي التي تُعطيك قيمتك..

ـ ولا الألقاب هي ما يَكسيك ثوبا سابغا ..

ـ ولا الكرسي الذي تتربع عليه ما يزيد في قدرك ..

ـ ولا أسرتك مَا يُمَجِّدُك ..

ـ ولا مالك الذي يجعلك من أصحاب المنازل الرفيعة ..

وهذا لسبب بسيط جدا .. لكن مع وضوحه يغيب عن الناس..

فبفَقْدِ هذه الأشياء كلها لا تبقى للإنسان مرتبة..ولا مزية ولا خصوصية ولا مودة ولا اعتبار.. فلا يكاد صاحبها الموتور يجد من تطيب نفسه بمجالسته أو حتى من يجامله بإلقاء التحية .

بل من المضحكات المبكيات أن تجد من زلزلوا الدنيا، وتركوا فيها بصمة عظيمة واضحة، ودوخوا جهات عالمية، ومكاتب استخبارتية تتابع مقالاتهم، وتجند الأفراد لحضور محاضراتهم ليرصدوا كلماتهم..تجدهم يُنْعَتُون بنعوت عجيبة هي أقرب إلى السُّبَّةِ .

تَواترتْ هذه الخواطرُ عَلَى فؤادي وانثَالَتْ على ذهني وأنا أتأمل ساخرا من معلومةٍ مدونةٍ في شهادة ميلاد العلامة الكبير الشيخ البشير طالب الإبراهيمي، رحمه الله تعالى ورضي عنه ..

هذا الرجل الذي كان كالأُمَّةً .. كُتب في شهادة ميلاده عند خانة المهنة: "بدون مهنة"..
رَجُلٌّ حَيَّرَ العقولَ .. وشَنَّفَ الأسماعَ .. كُتبتْ حوله أُطورحات جامعية، ودُوِّنَتْ عنه رسائل، ودُرست كلماته، وحُلِّلَتْ مقالتُهُ في بحوث، وما زالت حِكَمُهُ تملأ الدنيا، وبقيت عباراته البليغة تنتشر بين العالمين..إلى يوم الناس هذا ..وفي متنوع المنصات ومختلف المنابر ومتعدد الصفحات..
استخبارات الاستعمار الفرنسي ومن ورائه أحلافُهُ تُتابع تحركاته..وتُحَلِّلُ خطاباته..وترصد نشاطاته..وتَبُثُّ العيون حوله، وتزرع الجواسيس في طريقه..تخوفا من ذلك العقل الألمعي واللسان اللوذعي..

يستقبله الرؤساء والملوك والقادة بالحفاوة..ويتهيبون من سرعة فطانته ومضاء صراحته ..

يُنصت له العلماء والشيوخ والأدباء بكل اهتمام وأدب..إنصات الطالب المستفيد ..

يُقَدِّمُهُ الخطباءُ في المحافل ولا يَتَقَدَّمُونَهُ، ويتوجس منه الشعراءُ والأدباءُ والمثقفون خيفةً عند حضوره..لحافظته العجيبة، وحسه الأدبي النادر، ونقده المتين، ونظره العميق .

لا يملك السياسيون تجاوز كلماته..

يحبه الصديق، ويهابه العدو، ويجامله الحقود، ويقيم له الخصم ألفَ حسابٍ وحسابا..

رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. منشئ مئات المدراس، ومُؤَسِّسُ عشرات الجمعيات..في بضعة أعوام ..

قاوم الاستعمار وحارب خططه بما أتيح له من سهام..

وهو .."بدون مهنة" ..

افرحوا يا أصحاب المهن الفخمة ..وأقيموا الأعراس يا أصحاب الشهادات..بالمساحات الموهومة التي احتللتموها، أو قِلاع الرمال التي سيطرتهم عليها، أو المغانم الْمُسَوَّسَة التي ملأتم أكفكم منها، وارقصوا يا أصحاب العروش، وانتشوا بالمصالح التي أحدقتم بها، والمطاعم التي أتخمتم بها الكروش..
وخذوا العبرة يا عقلاء..واستفيقوا من أحلامكم المجنحة أيها الطلاب.. وخففوا على أفئدتكم من وطأة الألقاب التي تطمحون إليها..واقدروا للحياة موازينها الحقيقية، ولا تعبؤوا بالسلالم المزيفة ببهرج المحتالين والمنتحلين ..

واعلموا أن قيمتكم ليست الشهادات ..وإن كان لا بد منها.. ورفعتكم ليست بالكراسي .. وإن كنتم قد تَشْغَلُوهَا..بل منزلتكم من إيمانكم القوي العميق، وعملكم الصالح الصادق..وما تقدمونه من خير لدينكم وترفعون به شأن أمتكم وتخدمون به البشرية.. ثم لا عليكم بعد ذلك مما يأتيكم من نافلة الحياة، أو يُحجب عنكم..

أول ما عاينتُ هذه الورقة عند زيارتي للبيت الذي نشأ فيه الشيخ، وكان مما وُضع في هذه الغرفة البسيطة صورة كبيرة له رحمه الله تعالى، ولوحة كبيرة أخرى فيها مختصر حياته، وأخرى فيه هذه الورقة .. شهادة الميلاد ..

ولا ينتهي عجبي ممن وضعها بأي ذوقٍ وأي عقلٍ وضعها في ذلك الكوخ الذي صار بمثابة المتحف..كيف سولت له نفسه أن يضع في إطار كبير هذه الشهادة التي ليست بشهادة..
والذي خَنَقَنِي وأَطَاشَ لُبِّي فوق كل ذلك أن هذا توصيفَ مهنتِهِ في شهادة ميلاده التي تصدرها بلادنا المستقلة، بينما أيام الاستدمار الفرنسي يكتبون في بطاقته الشخصية في خانة المهنة: أُستاذٌ حرٌّ ..

فَهِمْنَا أنَّ المغاربةَ أزهدُ الناس في علمائهم وأكثرُ إهمالا لأعلامهم، ولكن ليس إلى درجة التحريف والتزييف .

إذا كان القيام بكل هذه الأعباء الثِّقَال ومواجهة كل هذه التحديات الجِسَام ليس مهنة فلا أعلم ما هي المهنة في هذه الدنيا..

ربما يأتي من يقول: لا ..لا ..لقد بالغتَ..وأسأتَ الظن ..وأبعدتَ النُّجْعَةَ.. فإنما هذا توصيف إداري فقط، ينظر إلى أن هذا الرجل هل كانت له مهنة أم لا، بعيدا عن المساس بمنزلته أو مكانته أو إنجازاته ..

فأبادر بالقول .. حتى على هذا الاعتبار فالشيخ كان بائعا في متجر أسلافه في ميدان
بيع الشحم، التي هي مهنة آبائه.. والدكان قائم إلى ساعة الناس هذه ..

والشَّحَّامُ .. صَنعةُ الكثير من علمائنا السالفين من فقهاء ومحدثين وأدباء وغيرهم، حتى إنهم عُرِفُوا بها.. فالشحام أشرف من "بدون مهنة"..

والله .. إن هذه الكلمة "بدون مهنة" لن تَبْلُغَ أن تَخْدَشَ من قدر هذا الطَّوْدِ الأشمِ، ولكن على محبيه والمتعلمين بين يديه أن يقفوا نُصرةً له ووفاء لحقه .. وإلا فالشيخ قد أفضى إلى ربه .. فلا أثر لكلمة سَفيهة على رصيده الكبير وجهاده المستطير وزاده الوفير وأعماله الجليلة .

يا يا رجال الجزائر ..يا جمعية العلماء ..يا أهل البرج .. يا ناس راس الوادي .. يا أولاد براهم .. يا أبناء سطيف .. أَلَمْ يَأْنِ لنا جميعا أن نسعى لتغيير هذه المهزلة .

(1) تعليق

  1. جمال ابو أنفال

    أهنئك على غيرتك كما أهنئك على قلمك الرشيق كما اشكرك على المقدمة الرائعة...أخي اقول لك إن الشيخ البشر طود شامخ وقف و يقف أمام الأعاصير بهمة و شجاعة و اقتدار ،لن تؤثر فيه كلمة أو حكم طائش او جملة بائسة كتبت من قبل جاحد أو حاقد او جاهل نلذا لم يسع الشيخ لتغييرها و لا قدم احتجاجا حيالها. اشاركك الشعور الطيب و الغضبة المخلصة ، ولكن هي سنة الله في الكون ان نبتلى و نسمع كلمات فيها أذى قال تعالى: { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } (سورة إِبراهيم 26) و إذا أتتك مذمتي من ناقص... الشيخ رحمه الله كان و لا يزال علما بارزا في سماء الفكر و العلم و يكفيه شرفا أن الأجيال الناشئة تعرفه و تتذكر اسمه و تردد مقولاته على صفحات التواصل الاجتماعي..فلا ضير إذا

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.