نظرة رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للعلم والمعرفة
بقلم: آمنة المقرية-
كتب الشيخ العربي التبسي عليه رحمه الله مقالا قيما بمناسبة الذكرى الثانية عشر لوفاة الإمام عبد الحميد بن باديس، جاء فيه ما يلي: «إن الرجال لا تسجل أنسابهم وصورهم وأموالهم في سجل الإنسانية وشرائعها ورجالها، وإنما تسجل عقائد الذين غرسوا عقائدهم في نفوس الناس...، وإنما تسجل أعمال الذين أخرجوا الناس من فوضى اجتماعية إلى نظام اجتماعي توارثته الإنسانية بعدهم».
إن العلامة عبد بن باديس رحمه الله جدير بأن نحسبه من أولئك الذين سجل لهم التاريخ جهودا تأهلهم للحاق بالقامات المعترف لها بمزاياها المتعددة والمتنوعة والمتصفح لتاريخ وحياة؛ فهذا المربي الكبير رأيته شاملة وعميقة، وله تصور سليم للبديل اللازم، ويدرك أن جهوده كلها كانت منصبة في الحال التعليمي التربوي الإصلاحي، ومن خلاله خصص جزءا مهما للطلبة والشباب، حيث كانت المبادئ والقيم التي يقوم عليها فكره في المجالات المذكورة جعل العمل فيها يسير في مسارين متساويين:
مسار يرسخ المفاهيم الوطنية والدينية في وجدان المعلمين والمتعلمين؛ ومسار يوجه الاهتمام لمعايشة حقائق العصر، والأخذ بأسباب نهضة الأمة الجزائرية حيث اعتمد تصور مسايرة العصر، والتفتح على العلوم الحديثة لتكوين طليعة متوازنة في ثقافتها، متمسكة بمقومات أمتها، وهو بذلك يرحب بالمعارف المفيدة للمجتمع التي اكتشفها الفكر الإنساني عبر الأزمان، كل هذا الغرض بناء مجتمع ينبذ التأخر الفكري والتخلف العلمي، وغرس روح المطالعة النافعة والبحث العلمي السديد، وهو يدرك أن طريقه كله عمل وجهد وصبر وتضحية؛ والتربية المنشودة ليست شيئا سهلا كأنها تكامل بين المعلم والمتعلم، لهذا كان شغفه شديد للعلم، لأنه محط الرجال ومنتهى الآمال ومنهض الأمم.
وصدق المولى تبارك وتعالى في قوله: }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {(المجادلة، الآية: 11)
إن اهتمامات وجهود ابن باديس رحمه الله بصفة خاصة، وعلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بصفة عامة كلها كانت تصب في مساعدة الطلبة والشباب على التحصيل العلمي المفيد، وما إنشاؤه لدار الطلبة خير دليل على ذلك، وحتى الهدايا التي كانت تصله كان يضع ثمنها في حساب الطلبة.
ذكر العالم محمد الصالح الصديق في كتاب الإمام عبد الحميد بن باديس من آرائه ومواقفه قائلا: » سافر أحد المعجبين بالإمام عبد الحميد بن باديس إلى تونس سنة 1935 م، وعند عودته اشترى من هناك عمامة من النوع الرفيع يريد إهدائها للإمام فتركها عند السيد الزواوي مولود ليقدمها إليه، سلمها هذا الأخير إلى الشيخ وقال له الإمام بعها يا مولود وابعث ثمنها إلى حساب الطلبة، فقال مولود: إنها أهديت إليك لتلبسها لا لتعطي ثمنها للطلبة، فالذي أهداها لك لو أراد أن يعطي ثمنها للطلبة لبعثه إلى حسابهم وهو يعرفه، ولكنه يريد أن يراها على رأسك، فأعاد الشيخ في لهجته أقوى، قلت لك بعها وأبعث ثمنها إلى حساب الطلبة.«
هذه هي نظرة الرجل لقيمة التعليم والمعرفة لبناء الأوطان، والعلم أول عناصرها وأقواها، وتحصيله الجيد يتطلب أموالا لتدعيمه.
هذا بالنسبة الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأما الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ففي بعض خطاباته التي كان يقدمها للطلبة والشباب الجزائري في تنمية فكرهم وعلمهم كان يقول: »أتمثله مقبلا على العلم والمعرفة والنفع إقبال النحل الأزهار والثمار لتصنع الشّهد والشمع، مقبلا على الارتزاق إقبال النمل بجدّ، لتجد وتدخر لتفتخر ولا تبالي ما دامت دائبة أن ترجع مرة ناجحة ومرة خائبة، حتى تقول» : يا شباب الجزائر، هكذا كونوا... أو لا تكونوا... !
هذا الخطاب يؤيده العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله بقوله: إن هناك تكاملا بين العلم والعمل والأخلاق، فيقول» :حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاثة: الإرادة، الفكر والعمل».
وأما العالم والأديب والمؤرخ الشيخ محمد مبارك الميلي رحمه الله، والذي يعتبر من أهم رجال الجمعية، الذي تولى رئاسة تحرير وكان من أهم المساهمين في النهضة الوطنية عن « البصائر »طريق التعليم والصحافة وتكوين المدارس الحرة، جعلت الدارسين لشخصية الرجل يؤكدون أصالة تفكيره، وحداثة اتجاهاته في المجال العلمي.
هذه هي الأهمية التي كانت توليها الجمعية للتحصيل العلمي، حيث استعملت وسائل خدمت الجانب العلمي والفكري من مدارس، معاهد، دار طلبة، " البصائر"...إلخ.
لذا فعلى المربين أن يعلموا النشء كيف يستطيع أن يتطلع لطريق يتصدر فيه موكب الإنسانية، ويسعى إلى معرفة كل أنواع العلوم وهو في ذلك مفيد ومستفيد، يسلك هذا الطريق ويقدر الأمر حق قدره، وليعلم طبيعة المرحلة سواء أكان طالبا أو مدرسا أو مهندسا أو طبيبا، ليفيد كل حسب موقعه وتخصصه، وذلك بالمعرفة الصحيحة والرؤية السليمة؛ فكل هذا في سبيل أن تستقر الأمة وتستمر على منهج السيرة النبوية.