ابن باديس: رائد الإصلاح ومقاومة الاستعمار والفرنسة في الجزائر
بقلم: وفاء الحكيري-
ولد الشيخ عبد الحميد بن باديس في 4 ديسمبر/ كانون الأول 1889 م بمدينة “قسنطينة”، في أسرة جزائرية عريقة، ذاع صيتها في العلم والثراء، والتمسك بالدين والأصالة، فوَالِدُهُ “محمّد مصطفى بن مكي بن باديس” من أعيان قسنطينة، والذي يعود نسبه إلى” مناد بن منقوش” كبير قبيلة” تَلْكَاتَة”، فيما عرفت والدته “زهيرة بنت علي بن جلول” أنها من أسرة اشتهرت بالعلم والجاه والثراء.
في هذه الأسوة الحسنة، كبر الصبي عبد الحميد، تلقى في طفولته تعليما تقليديا، فحفظ القرآن الكريم وتعلم تجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة.
كما تتلمذ على يد العالم الجليل الشّيخ "حمدان الونيسي“، سنة 1903، بجامع”سيدي محمّد النجار”، أين تلقى مبادئ العلوم العربيّة والشّرعيّة، والتي تشتمل على علوم النحو والحساب والأدب العربي والفقه والتوحيد.
الرحلة إلى الزيتونة
حين بلغ ال19 من عمره، سافر بن باديس إلى تونس ليواصل مشواره العلمي، ويتم مرحلة التعليم الثانوي والعالي، وكان ذلك في حدود سنة 1908، وهناك التحق بجامع الزيتونة، التي مثّلت في بداية التسعينات منارة للعلماء ونقطة استقطاب لهم، أين نهل العلم على يد صفوة علمائها على غرار “العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور“، والشيخ "محمد النخلي“.
وقد اختلفت المراجع في السنة التي التحق بها الشيخ بن باديس، بجامعة الزيتونة، فمنها من قالت أنها في سنة 1908 ومنها من ذكرت أنه التحق في سنة 1910، ولكن أي كان التاريخ، فقذ اتفقت جلها على أن ابن باديس، واصل تعليمه في جامع الزيتونة، لينال سنة 1911، شهادة “التطويع العالمية”،وقد كان آنذاك الطالب الجزائريّ الوحيد الذي تخرّج في تلك الدورة، وهي مـن أكبـر الشهادات العلمية في تلك الفترة.
وبعد تخرجه، ظل الشيخ عبد الحميد في تونس، بالزيتونة لـمدة سنة، يدرس ويدرّس، وفقا لـما كان متعارفا عليه في هذه الجامعة التونسية.
من الزيتونة إلى الحجاز
سنة 1913، عزم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، على شد الرحال إلى المدينة المنورة ومكة، لأداء فريضة الحج، وكان ذلك تحديدا عاما بعد عودته من تونس.
ولما زار المدينة المنوّرة، تعرّف على الشّيخ “محمّد البشير الإبراهيميّ، الذي يعتبر بدروه أحد أعلام الفكر والأدب في العالم العربي ومن العلماء العاملين في الجزائر، والذي مثل “رفيق النضال” للشيخ عبد الحميد ابن باديس في قيادة الحركة الإصلاحية الجزائرية.
مرحلة النضال: سلاحه “العلم”
كانت الجزائر في تلك الفترة ترزح تحت الاحتلال الفرنسي، الذي دام أكثر من 100 عام، من سنة 1830 إلى سنة 1962، لذلك وجه العلامة ابن باديس بعد اتمامه لفريضة الحج، اهتمامه بالنضال ومحاربة الاستعمار ومقاومته وكان سلاحه في ذلك “العلم”.
وقد أولى الشّيخ ابن باديس التربية والتعليم اهتماما بالغا ضمن برنامج الحركة الإصلاحية التي قادها ووجهها، فبدأ نشاطه التّربوي والتّعليمي بالجامع الأخضر أوائل جمادى الأول 1332 ﻫ / 1914 م، ثم وسع نشاطه بإلقاء دروس في المساجد، وقام في أيام الراحة الأسبوعية وأيام الإجازة الصيفية بجولات لمختلف مناطق القطر.
وبعد سنوات تمكن من تأسيس مكتب للتّعليم الابتدائي العربي سنة 1926 م، والذي انبثقت عنه سنة 1930م مدرسة “جمعيّة التربية والتّعليم الإسلامية”، التي أصبحت لها عدة فروع في أنحاء الجزائر، بدعوة منه.
تنوير عقل المرأة
إيمانا منه بمكانة المرأة التي وهبها اياها الدين الاسلامي الحنيف، سعى الشيخ ابن باديس إلى اخراجها من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم والمعرفة، حيث حث على تعليمها.
وقد عمل الشيخ العلامة ابن باديس، على إلقاء الدروس ووعظ خاصة للنساء بالجامع الأخضر، كما ذكرت المراجع أنه “خص البنات بدروس في مدرسة جمعيّة التربية والتّعليم، وأقر لهن مجانية التّعليم، وسعى لتمكينهن من مواصلة التّعليم الثانوي والعالي في المشرق العربي”.
الاهتمام بالصحافة
لعبت الصحافة دورا بارزا في مقاومة الاستعمار الفرنسي، حيث أسس الشّيخ ابن باديس جريدة “المنتقد” عام 1925 م، ولكن يد الاستعمار طالتها، وقامت بمصادرتها، فخلفتها جريدة “الشّهاب” التي ظلت تصدر أسبوعيّاً طوال 4 سنوات ثم حوّلها بن باديس إلى مجلّة شهرية منذ فبراير/ شباط 1929.
وقد أشار الشيخ ابن باديس، في كتاب “كتاب الشعب الجزائري: سيرة الزعيم عبد الحميد ابن باديس” إلى سبب هذا التعطيل في العديد الأول من جريدة “الشهاب”، التي خلفت “المنتقد”، فقال: ” أثار الذين اعتادوا التملق صدقها وكبر على الذين اعتادوا النفاق صراحتها وهال الذين اعتادوا الجبن من الرؤساء أو الذين اعتادوا الجبن من الأتباع صرامتها…”
وحتى يضمن استمرارية نشاطه الصحفي، أسس “المطبعة الإسلامية الجزائرية”، رفقة “أحمد إسماعيل بوشمال” و”ابن القشي خليل بن محمد “الذي كان مديرا لها، وكان ممن يتقن فن الطباعة بحكم خبرته وعمله في مطبعة جريدة النّجاح.
وفي هذه المطبعة، طبع ابن باديس جرائده وجرائد جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين الأربعة التي أشرف عليها وهي : السّنّة المحمّديّة، والشّريعة المطهّرة، والصّراط السّويّ، والبصائر.
جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين
في 5 مايو 1931، قرر ثلة من العلماء، وعلى رأسهم العلامة ابن باديس، تأسيس جمعية هدفها الأساسي المحافظة على الهوية الجزائرية العربية الاسلامية من خطر الاندثار، جراء الاستعمار الفرنسي للبلاد، الذي طال، فكان أن أجمعوا على تأسيس “جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين“، وعيّن الشّيخ ابن باديس رئيساً لها والبشير الإبراهيميّ نائبا له.
وقد سطّرت الجمعية أهدافا لها وهي إحياء الشعب الجزائري و النهوض به وإصلاح مجتمعه وزرع القيم والأخلاق الإسلامية الرفيعة و المحافظة على هويته من أجل أن يتبوأ مكانة رائدة بين الأمم وفق هويته الإسلامية والعربية، واتخذت الجمعية “الإسلام ديننا و العربية لغتنا و الجزائر وطننا” شعارا لها.
الرحيل الأخير
بعد مضي 9 سنوات من تأسيس الجمعية، توفّي الشّيخ ابن باديس، في 16 أفريل/ نيسان 1940 بمسقط رأسه مدينة “قسنطينة”، متأثرًا بمرض السرطان في الأمعاء، فيما ذكرت مراجع أنه قد سمّم.
وعلاوة على ما ذُكر من أعمال المصلح الجزائري”ابن باديس”، ترك العلاّمة، رصيدا كبيرا من المؤلفات والكتب ومنها نذكر”رسالة جواب عن سوء مقال” و”العواصم من القواصم “و”تفسير ابن باديس”، وغيرها من المؤلفات الخالدة.
وقال الشّيخ العربي التبسي في تأبينه: “لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس”.