الإمام ابن باديس… والقضايا الإسلامية (القضية الفلسطينية نموذجاً) 2/2

بقلم: د. يوسف جمعة سلامة-

الجزائر ... وفلسطين قامت الثورة الجزائرية لترد وبلغة لا تعرف التأويل، بلغة الجهاد والاستشهاد ، على ما قامت به فرنسا بإعلانها بأن الجزائر قطعة من فرنسا ، مكرسة كل طاقتها لتطبيق هذا الحلم، وهو محو الشخصية (العربية – الإسلامية) بهدم المدارس ومراكز تعليم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم، وبفرض اللغة والثقافة الفرنسية على البلاد لتأبيد بقائها من جهة..

ولقطع تواصل الجزائريين مع عمقهم الطبيعي العربي والإسلامي من جهة أخرى، ورغم كل ما قامت به فرنسا من أعمال في هذا المجال، فقد رد الشيخ عبد الحميد بن باديس عليهم قائلاً :

شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله ***  أو قال مات فقد كذب

فثار الشعب الجزائري البطل مُحْبطاً محاولات المستعمر لتفريقه وتمزيقه، مُوَحِّداً كل قوى العمل الوطني والإسلامي وأحزابه تحت راية جبهة التحرير الوطني، تلك الثورة التي أتت امتداداً لثورات أجيال سابقه، بدأت من القرن التاسع عشر ذوداً عن الهوية والحرية والوطن الجزائري العزيز، فالوطن مهاد لا بد منه، في ظله يأتلف الناس ، وعلى أرضه يعيش الفكر وفي حماه تتجمع أسباب الحياة .

إنها الجزائر جزائر العزة والكرامة والشموخ والكبرياء، بلد الشهداء، بلد المليون ونصف المليون شهيد، أمثال دويدش مراد، والعربي بن مهيدي ، وهواري بو مدين ، إنها بلد العلماء أمثال: الأميرعبد القادر الجزائري، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، وعبد الرحمن شيبان .. وغيرهم كثير، إنها بلد الجهاد والنضال التي شكلت نبراساً لكل الثوار في العالم.

وما أن كتب الله النجاح والنصر للثورة الجزائرية العملاقة، وإذ بها تفتح ذراعيها لتحتضن فلسطين الشعب والقضية، حيث أصبحت العلاقات الجزائرية الفلسطينية علاقة متينة ومتميزة، فقضية فلسطين قضية الجزائر الأولى، فقد كانت الجزائر من أوائل الدول التي افتتحت مكتباً للثورة الفلسطينية، كما كانت الثورة الجزائرية محط إلهام للشعب الفلسطيني، فالجزائر دولة ذات ثقل عربي ودولي، ولها تواجد مشرف في جميع المحافل الدولية، حيث اختلط الدم الجزائري بالدم الفلسطيني على أرض الجزائر الطاهرة، وفلسطين الحبيبة ، ولا ننسى مقولة الرئيس الجزائري المرحوم هواري بو مدين (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة)، كما أن الرئيس الجزائري الحالي السيد عبد العزيز بوتفليقه هو أول من أسمع صوت الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة ، حيث مكن الرئيس بوتفليقه سنة 1974 م يوم كان وزيراً للخارجية ورئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله – من دخول الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفته قائداً للثورة الفلسطينية ورئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وكذلك مشاركة الجزائر في دعم النضال الفلسطيني عبر تاريخه الطويل في جميع المحافل العربية والإسلامية والدولية وبجميع الصور وبكافة الإمكانات، كما أن أرض الجزائر الطاهرة شهدت إعلان الاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية سنة 1988 م خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني فيها، حيث كانت عيون كل الفلسطينيين تتجه إلى بلد المليون شهيد، كما أن الجزائر من أوائل الدول العربية التي توفي دائماً بالتزاماتها المالية لصندوق الأقصى التابع لجامعة الدول العربية لدعم الشعب الفلسطيني.

ولا ننسى الموقف المشرف للرئيس عبد العزيز بوتفليقه والحكومة والشعب الجزائري الشقيق خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، حيث أرسلت الجمهورية الجزائرية الطائرات الإغاثية للشعب الفلسطيني المحاصر، وكذلك إرسال الوفد الطبي الجزائري لتضميد الجراح لأبناء قطاع غزة، وكذلك إرسال مئات وحدات الدم لإسعاف الجرحى والمصابين، ليختلط الدم الجزائري بالدم الفلسطيني من جديد كما اختلط عبر التاريخ. كما توجد مئات حالات المصاهرة بين الشعبين الجزائري والفلسطيني، وهذا يقوي الروابط الوثيقة أصلاً بين الشعبين الشقيقين، كما تحتضن الجزائر على أرضها الطاهرة المئات من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يعيشون حياة آمنة مطمئنة، يتلقون تعليمهم، حيث إن الحكومة الجزائرية تقدم العديد من المنح الدراسية للطلاب الفلسطينيين لإكمال دراساتهم الجامعية، كما ويمارسون أعمالهم في مختلف المجالات بكل حرية كأشقائهم الجزائريين. لم أشاهد التعاطف في عيون الجزائريين مع فلسطين فحسب، بل رأيتهم يحملون هموم فلسطين، لأنهم شعب عانى من أطول احتلال لدولة عربية،حيث احتلت فرنسا الجزائر لمدة مائة واثنين وثلاثين عاماً، شعب قاتل بإيمانه بربه وبعدالة قضيته، وبيقين بأن الاحتلال مهما طال فإنه دوماً إلى زوال.

رأيته في عيون السياسيين والمثقفين أثناء محاضرتي بالمركز الاستراتيجي لجريدة الشعب، وبعيون الأكاديميين والطلبة في محاضرتي بكلية الحقوق بجامعة الجزائر ، وبعين الشريحة الكبرى من الشعب الجزائري أثناء خطبة الجمعة بمسجد القدس بالعاصمة الجزائرية وقتئذ، رأيت شدة الانتباه لكل كلمة أتحدث بها، رأيتهم يتابعونني بكل جوارحهم، ويكبّرون عندما أتحدث عن صمود المقدسيين وتمسكهم بأرضهم، رغم كل الإغراءات والتهديدات لتركها، ورغم كل الاعتداءات المتكررة من أجل تفريغها من أهلها الأصليين ، حيث كنت أتحدث في المؤتمرات الصحفية عن إجراءات التهويد في المدينة المقدسة والاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك، وما حدث لقطاع غزة من دمار شامل طال البشر والشجر والحجر أثناء الحرب الإجرامية الأخيرة، فكانت دموع الجميع تنهمر، تعاطفاً مع فلسطين وشعبها. الوحدة الإسلامية ... فريضة شرعية وضرورة وطنية وحدة المسلمين وتضامنهم عمل يمثل قطب الرحى، ويمثل طوق النجاة لسفينة المسلمين، فالمسلمون لن ترتفع لهم راية، ولن يستقيم لهم أمر، مالم يكونوا متضامنين مجتمعين على كلمة واحدة، فقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم على أمة ممزقة مبعثرة فجمعها ووحد كلمتها، ثم جمع العرب على اختلاف أوطانهم وجعلهم أمة واحدة بعد أن كانت الحروب مستعرة بينهم وصهرهم جميعاً في بوتقة الإسلام، وجمع بين أبي بكر القرشي الأبيض، وبلال الحبشي الأسود، وصهيب الرومي وسلمان الفارسي جعلهم إخوة متحابين بعد أن كانوا أعداء متخاصمين ، كما ورد في قوله تعالى: " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"  (آل عمران: 130 ).

كما وأزال ما بين الأوس والخزرج من خلاف، وآخى بين المهاجرين والأنصار ، وأصبح المسلمون بفضل الله كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم »(1).

 إن الوحدة فريضة شرعية وضرورة وطينة، لذلك نجد أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تأمر العرب والمسلمين بوجوب جمع الشمل، ورص الصفوف ، ووحدة الكلمة ، فاتحاد الكلمة أمر جاء به الإسلام ورغب فيه، وحث عليه، والأمة الإسلامية أمة عظيمة خصها الله سبحانه وتعالي بميزتين هما : الخيرية : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ"(آل عمران : 110).

والوسطية:}وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا{ (البقرة : 143).

كما خص الله الأمة العربية بخصائص عديدة، حيث جعل المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها في أرضها ،كما أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ، ولغة أهل الجنة، لذلك يجب على العرب والمسلمين بصفة عامة والفلسطينيين بصفة خاصة أن يجمعوا شملهم ويوحدوا كلمتهم، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص استجابة لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم- : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضهُ بعضا ثم شبَّك بين أصابعه"(2).

ورحم الله إمام الجزائر المرحوم الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس إذ ينبه إلى أهمية هذا الحديث، بقوله: «لقد قرَّر الحديث الشريف معنى الاتحاد الذي يجب أن يكون بين جميع أفراد المؤمنين، على أكمل وجه في التصوير وأبلغه في التأثير فقد شبههم بالبنيان، وذلك وحده كافٍ في إفادة الاتحاد، وزاد عليه التصريح بالشدِّ والتقوية ليبين أن في ذلك الاتحاد القوة للجميع تأكيداً للزوم الاتحاد بذكر فائدته، ثم زاد عليه التصوير بالمحسوس، لما شبك – صلى الله عليه وسلم – بين أصابعه، هذا كله ليبين للمؤمنين لزوم الاتحاد وضرورته، ألا ترى البنيان كيف يتركب من الحجارة الكبيرة، والحجارة الصغيرة، والمواد الأخرى التي تلحم بها الحجارة وتُكسى، وكل ذلك محتاج إليه في تشييد البنيان، فكذلك بنيان المؤمنين فإنه متكوِّنٌ من جميع أفرادهم، على اختلاف طبقاتهم، فالكبير له مكانة ،والصغير له مكانة، وعلى كل واحد أن يسدَّ الثغرة التي من ناحيته، مع شعوره بارتباطه مع غيره من جميع أجزاء البنيان التي لا غناء لها عنه، كما لا غناء له عن كل واحد منها ، فكل واحد من المؤمنين عليه تبعته، بمقدار المركز الذي هو فيه، والقدرة التي عنده، ولا يجوز لأحد، وإن كان أحقر حقير ، أن يخل بواجبه من ناحيته، فإنه إذا أزيل حجرٌ صغير من بنيان كبير دخل فيه الخلل بمقدار ما أُزيل ، وإذا ابتدأ الخلل من الصغير تطرق للكبير ، ثم ألا ترى أصابعك ، وفيها القوي وفيها الضعيف ، حتى إذا شَبَّكْتهَاَ صارت كشيء واحد له قوة ومتانة زائدة ، وكل إصبع منها يمكن أن يُلوى ما دام وحده فإذا شبكتها عَسُرَ لَيُّها، وقَوِيَ أمرها ، فكذلك المؤمنون باتحادهم ، وفيهم القويُّ، وفيهم الضعيف ، تكون لهم قوةٌ عامة زائدة، وكل واحد منهم بمفرده يمكن قهره، فأما إذا اتحدوا فإنهم يكونون – بقوة اتحادهم- في مأمن من كل قهر "(3).

وفي الختام:

إن هذه المؤتمرات تقدم خدمة جليلة للأمة، حيث إن هذا المؤتمر تناول سيرة عَلَمٍ من أعلام الأمة، فعلى أجيال الأمة أن تدرس تاريخها، وتتعرف على قادتها، وكما قال أمير الشعراء:

مثل القوم نسوا تاريخهم *** كلقيط عيّ في الحي انتسابا

أو كمغلوب على ذاكرة *** يشتكي من صلة الماضي انقضابا

نسأل الله أن يحفظ الجزائر وفلسطين وسائر بلاد المسلمين من كل سوء، كما نسأله أن يرزق أبناء الأمة صلاة قريبة في رحاب المسجد الأقصى المبارك بعد تحريره إن شاء الله. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


الهوامش :

1- خرجه ابن ماجه.

2- أخرجه البخاري .

3- مجلة الشهاب الجزء 7المجلد 7 (بتاريخ غُرَّة ربيع الأول 1350 هـ- جوليت 1930 ).

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.