إعجاز القرآن عند عبد الحميد بن باديس -جمعاً ودراسة- 1/2
بقلم: نبيل بن أحمد بَلْهِي -
لا زال علماء الإسلام يعتنُون بإبراز وجوه إعجاز القرآن الكريم، ويستخرجون عجائب هذا التنزيل، للدِّلالة على مصدرِهِ الربَّاني، وأنَّه كلام ربُّ العالمين، الذي يَعجز البشر أن يأتوا بمثله في نظمه، وبلاغته وأحكامه، وتشريعاته، وأخباره، وعلومه. فقد ألَّف علماء الإسلام في ذلك كتباً صغارا وكباراً، وفي العصر الحديث الذي واكب تطوراً صناعياً وعلمياً مذهلاً، كثرتْ الشُّبه والسهام الموجَّهة نحو القرآن الكريم تَتَّهِمُهُ بالعجز والقصور، فانبرى العلماء المصلحون لبيان دلائل صدق القرآن وإعجازه الشامل، وكثُرَتْ العناية بإبراز وجوهٍ جديدة لإعجازه، وكان من روَّاد هذا المضمار الإمام المفسِّر عبد الحميد بن باديس الصنهاجي (1308هـ/ 1359هـ)، الذي عايش المرحلة الاستعمارية للبلدان الإسلامية، التي عمَّ فيها الجهل، حتَّى انبهر كثير من المسلمين بالتقدُّم الغربي في ميدان العلوم التجريبية وغيرها، وقلَّ الاعتناء بالقرآن تدبرا وعملا، فتوجهتْ الكتابات الإصلاحية في هذا العصر إلى ردِّ الاعتبار للٌقرآن، وبيان علوِّ منزلته ودلائل صدقه، يظهر ذلك فيما كتبه: محمد رشيد رضا في (تفسير المنار)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير)، وغيرهما كثير.
ولما كان الشيخ ابن باديس خِرِّيجُ هذه المدرسة الإصلاحية، كان ولابُدَّ أن يُسْهِمَ في هذا الميدان اتباعا لأسلافه من المصلحين، إلا أنَّ تفسيره الشفوي للقرآن المفقود الذي لم يدوَّن منه إلا القليل، قد زَهَّدَ الباحثين في أن يعثروا على مادةٍ علميةٍ متكاملة عن إعجاز القرآن عند هذه الشخصية العلمية الفذَّة، من هذا المنطلق قمتُ باستقراءِ تفسير ابن باديس المطبوع استقراءً تاماً، مع النظر في كتبه الأخرى(1)، فوجدت مادة علمية لا بأس بها في هذا الباب، ووجدتُ له إسهاماً واضحاً في بيان وجوه إعجاز القرآن، يستحقُّ أن يجمع ويُدْرَس، وأن يشاع بين الناس ويُبْرز، فكان هذا البحث بعنوان: (إعجاز القرآن عند عبد الحميد بن باديس - جمعاً ودراسة-).
الدراسات السابقة: لقد كُتِبَ حول الإمام ابن باديس وشخصيته العلمية كتابات ليست بالقليلة، كلٌّ منها عُنِيَ بجانب من جوانب الجهود العلمية التي قدَّمها، إلا أن الموضوع الذي نحن بصدد الكتابة فيه لم أجد من أفرده بالتتبُّع والدراسة، وهو حَقِيقٌ أن لا يُهمل، فإنَّ موضوع الإعجاز القرآني أصبح مطروحاً بشدَّة في هذا العصر، الذي كثرتْ في التحدِّيات للقرآن الكريم.
وبعد البحث والتنقيب فيما كُتب حول الدرس القرآني عند ابن باديس، تحصَّل عندي بعض الدراسات حول منهجية ابن باديس في تفسيره عموماً، تناولتْ الجهود التفسيرية لهذا الإمام، وفي ثنايا هذه البحوث، وجدتُ إشاراتٍ إلى اعتناء ابن باديس بإعجاز القرآن العلمي خاصَّة، لكن دون استقراء وتمحيص، وهذه الدراسات هي:
أولا: رسالة ماجستير بعنوان: «منهجية التفسير عند الإمام ابن باديس» من إعداد: عبد الرحيم صالحي، بإشراف: د. محمد مقبول حسين، قدِّمَتْ إلى المعهد الوطني العالي لأصول الدين، جامعة الجزائر، سنة :1991م. تطرَّق فيها صاحبها إلى دراسة المنهج النقلي والعقلي في التفسير عند ابن باديس، وجعل فصلا في هذا الباب الأخير عن: (مظاهر إعجاز القرآن في تفسير ابن باديس) وتكلَّم عن إعجاز الترتيب والمناسبات في مبحث، والإعجاز العلمي في مبحث آخر، ولم يتكلَّم على الوجوه الأخرى لإعجاز القرآن المبثوثة في تفسير الإمام على كثرتها، كما أنَّه أوجز القول في الإعجاز الترتيبي ولم يوضحه بالأمثلة من التفسير، وركزَّ على بيان مشروعية التفسير العلمي الذي نهجه ابن باديس.
ثانيا: كتاب بعنوان: «عبد الحميد بن باديس مفسِّرا» لمؤلفه: حسن عبد الرحمن سلوادي، تعرَّض المؤلف فيه إلى الصور العامة لتفسير ابن باديس (من الناحية العقدية، ومن الناحية الفقهية) وفي آخره فصل بعنوان: (الصور العامة لتفسير ابن باديس)، تكلَّم على التفسير العلمي عند الشيخ، المرتبط بالإعجاز العلمي للقرآن عنده، من دون أن يعرِّج على وجوه الإعجاز الأخرى التي ذكرها الشيخ، ولا بيان التصوُّر العام لنظرية الإعجاز القرآني عند ابن باديس.
أما هذا البحث فمن شأنه أن يستقرأ وجوه إعجاز القرآن التي ذكرها ابن باديس في تفسيره وبعض مقالاته، مع ذكر التأصيل العلمي لها وأمثلتها في ثنايا تفسيره للقرآن، ثم مقارنتها بكلام غيره من العلماء خاصَّة الذين تأثَّر بهم كمحمد رشيد رضا، والطاهر بن عاشور.
كما يهدف هذا البحث إلى إبراز النظرة الشمولية لإعجاز القرآن عند ابن باديس، وتوظيفه إيَّاها في تربية الأمة وإصلاح الأجيال ومدى توفيقه في هذا المجال، علاوة على بيان جهود ابن باديس في ميدان إعجاز القرآن ووجوهه، حيث خَلَتْ معظم الكتب المعاصرة من الإشارة إلى جهوده واختياراته في هذا المجال.
المبحث الأول: ابن باديس ونظرته العامة لإعجاز القرآن.
المطلب الأول: نبذة عن حياة ابن باديس.
هو الإمام العلامة الرئيس عبد الحميد بن محمد بن مكِّي بن باديس الصنهاجي نسباً، الجزائري موطنا. ينتهي نسبه إلى المعزِّ بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية الأولى، ولد ابن باديس بمدينة (قسنطينة) في 10 ربيع الثاني سنة 1308هـ/ الموافق لـ 04/ ديسمبر 1889م.
حفظ القرآن الكريم قبل الثالثة عشر على يد شيخه (المدَّاسي) وأخذ مبادئ العلوم الشرعية والعربية في محلَّتِهِ، ثم سافر إلى جامع الزيتونة ليتتلمذ على خِيرة علمائها، كالشيخ محمد النخلي، والشيخ الطاهر بن عاشور، حيث نال هناك شهادة التطويع (العالمية) سنة 1911م.
وفي سنة 1913م ذهب الشيخ إلى أرض الحجاز حاجاً والتقى هناك بابن بلده (البشير الإبراهيمي) واتفقا هناك على مباشرة العمل الاصلاحي في الجزائر بعد تخطيط طويل، فلمَّا رجع إلى وطنه باشر التعليم في الجامع الأخضر – بقسنطينة- ، فختم هناك القرآن تدريسا في ربع قرن (25 سنة). كما أتم هناك شرح موطأ مالك بن أنس، كما درَّس كتاب الشفا للقاضي عياض.
وكان له الفضل في تأسيس جمعيات ودور للحديث والقرآن، كجمعية التربية والتعليم، ودار الحديث في (تلمسان)، هدفها نشر العلم الشرعي المستمدِّ من الكتاب والسنة، بعيدا عن التعصُّب المذهبي والخرافات الشركية المنتشرة في ذلك الوقت.
وقد أثمرت هذه الدعوة الإصلاحية فتخرج على يديه تلاميذ كثر من أبرزهم: الشيخ المبارك الميلي صاحب كتاب «رسالة الشرك ومظاهره». ومحمد الصالح بن عتيق، ومحمد الصالح رمضان، الفضيل الورتيلاني، وغيرهم كثير.
أصدر عدَّة جرائد تُعْنى بالإصلاح أشهرها (المنتقد، الشهاب، السنَّة، الشريعة، الصراط، البصائر). وفي سنة 1931م أسَّس «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» مع ثلَّة من إخوانه المصلحين، وانتُخِبَ رئيسا لها، وكان ابن باديس -رحمه الله- على مذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة، فعمل على محاربة الخرافة ورد الاعتبار للوحيين، وتربية الأمة بالقرآن والسنن. فوجد تضييقا شديدا من السلطات الاستعمارية الفرنسية، التي أحسَّت بخطر الوعي الذي ينشره فصادرت بعض مجلاته وأوقفتها، وأصدرت قوانين منع تدريس اللغة العربية، فتصدَّى لهم ابن باديس بقلمه وخطبه، وظلَّ محاربا لخططهم التغريبية حتى وافاه الأجل، فكان له ما أراد حيث قامة دعوة إصلاحية كبيرة عمَّت معظم ربوع الوطن، مهدت لثورة مجيدة دحرت الاستعمار وأخرجته يجر أذيال الهزيمة، ولا يزال أثره في وطنه وإصلاح الأوضاع إلى يوم الناس هذا.
من جميل شعره بيتين شعريين من أشهر ما أثر عنه يقول فيهما:
شَعْبُ الجزَائِرِ مُسْلِمٌ … وَإِلَى العُرُوبَةِ يَنْتَسِبْ
مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ … أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذِبْ
توفي – رحمه الله- بعد حياة حافلة بالجدِّ والنشاط، وبعد أن تخرَّج على يديه ثلَّة من الرجال المصلحين، وذلك يوم: 08/ ربيع الأول/ 1359هـ. الموافق لـ: 16/ 04/ 1940م.(2)
وقد خلَّف آثارا في هذا المجال: نذكر منها بعض ما وصلنا منها:
1- التفسير (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير).
2- شرح الحديث ( مجالس التذكير من كلام البشير النذير).
3- العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
4- تحقيق كتاب العواصم من القواصم لابن العربي.
المطلب الثاني: التعريف بتفسير ابن باديس.
لقد ذكرت المصادر أن ابن باديس لم يكتبْ تفسيراً محرَّراً لكتاب الله، وأما الكتاب الذي هو بين أيدينا اليوم، والموسوم بـ: «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» هو في الحقيقة مقتطفات من تفسيره الشفوي الذي أملاه على طلبته في دروس المسجد، ثم ألهم كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس في فواتح أعداد مجلة «الشهاب» مسمياً إيَّاها (مجالس التذكير).
والسبب في عدم كتابة ابن باديس لتفسيره أنَّه آثر المنفعة العاجلة بتفسيره دَرْساً تسمعه الجماهير في المسجد، لتربية الجيل وإصلاحه من خلال هدايات القرآن الكريم، فمكث -رحمه الله- في تفسير كتاب الله تدريساً نحواً من خمس وعشرين سنة حتَّى ختمه سنة (1357هـ)، ولقد وضَّح صديقه العلامة: محمد البشير الإبراهيمي ذلك فقال: "كان للأخ الصديق عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- ذوقٌ خاصٌ في فهم القرآن كأنَّه حاسَّة زائدة خُصَّ بها. يرفده- بعد الذكاء المشرِق، والقريحة الوقَّادة، والبصيرة النافذة- بيانٌ ناصعٌ، واطلاعٌ واسع، وذرعٌ فسيحٌ في العلوم النفسية والكونية، وباعٌ مديد في علم الاجتماع، ورأي سديدٌ في عوارضه وأمراضه...وكان يرى- حين تصدَّى لتفسير القرآن- أنَّ في تدوين التفسير بالكتابة مشغلةٌ عن العمل المقدَّم وإضاعة لعمر الضلال، لذلك آثر البدءَ بتفسيره درسًا تسمعُهُ الجماهير فتتعجَّل من الاهتداء به ما يتعجَّلُهُ المريض المنهَك من الدواء، وما يتعجَّلُه المسافر العجلان من الزاد وكان- رحمه الله- يستطيع أن يجمع بين الحسنيين لولا أنَّه كان مشغولًا مع ذلك بتعليم جيلٍ وتربية أمَّة ومكافحة أميَّة ومعالجة أمراض اجتماعية ومصارعة استعمار يؤيِّدها، فاقتصر على تفسير القرآن درسًا ينهل منه الصادي، ويتزود منه الرائح والغادي، وعكف عليه إلى أن ختمَهُ في خمسٍ وعشرين سنة، ولم يختم التفسير درسًا ودراية بهذا الوطن غيره منذ ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة".(3)
ومع هذا فإن القطعة الموجودة من هذا التفسير التي طبعت مؤخرا في مجلدين(4)، أبانتْ عن ملكة عظيمة في تفسير كتاب الله، وعن أسلوب بديع لابن باديس في تدبر القرآن واستنباط المعاني الحيَّة التي تبعث الروح في جسد الأمة، على طريقة العلماء المجتهدين في تفاعلهم مع كتاب الله، واستنباط الأسرار الكونية والهدايات الربانية.(5)
وخلاصة القول في تفسيره هذا أنه تفسير أثري إصلاحي، انتهج فيه ابن باديس طريقة تفسير القرآن بالقرآن، والسنة الصحيحة، وأقوال الصحابة والتابعين، ثم التوسع في المعاني اللغوية والنكت البلاغية لآي التنزيل، مع الحرص على إنزال هذه المعاني والهدايات القرآنية على الواقع لإصلاحه وعلاج المشكلات التي يعاني منها الفرد المسلم في مجتمعه، ومن حسن صنيعه أنه كان يبوِّب لكلامه ولا يستطرد في الكلام من غير بيان لاتجاهه، فيقول مثلا: (بيان القرءان للقرآن ) أو (تفسير نبوي) أو (بيان وتوجيه) أو (التراكيب) أو (الأحكام) ثم يذكر تحت الباب ما فتح الله عليه باختصار أحيانا وبإسهاب أحيانا أخرى، كما كانت له عناية ظاهرة بعلم المناسبات بين الآيات وتوجيه ذلك، واستنباط الأحكام العقدية والفقهية والتربوية.
وقد اعتمد في تفسيره هذا على عدَّة كتب كانت مصادر لتفسيره، أهمها: تفسير ابن جرير الطبري، أحكام القرآن لابن العربي، تفسير الكشاف للزمخشري، مفاتيح الغيب للرازي، وغيرها ينهل من كل تفسير أحسن ما تميز به مؤلفه، كما نجد له تأثر واضح بطريقة محمد رشيد رضا في تفسيره المنار وإن لم يعتمده كمرجع أساس لأنه لم يكمل بعد في وقته.(6)
المطلب الثاني: معنى معجزات الأنبياء عند ابن باديس.
لقد جرى ابن باديس مجرى العلماء قبله -في بيان معنى معجزة الأنبياء- بكونها: (أمرٌ خارق للعادة مقرونٌ بالتحدي سالم من المعارضة).(7) يجريه الله على يدي نبي من أنبيائه تأييداً له، ففي معرض كلامه على معجزات الرسل، ساق كلاما يُلْمِحُ فيه إلى شروط المعجزة عنده وبيان حدِّها، فقال -رحمه الله- : " لما أرسل الله الرسل لهداية خلقه وإقامة حجَّته أيَّدهم بالبينات وهي كلُّ ما تبيَّن به الحقُّ من كمال سيرتهم في قومهم ووضوح بيانهم وقوَّة حجتهم، وأيَّدهم بالآيات المعجزات الخارقة للعادة المعجوز عن معارضتها، فكانوا يدْعُون الخلق بالحجج والبراهين، فإذا سألوهم آية ردُّوا الأمر إلى الله وتبرأوا من أن يكون لهم معه تصرُّفٌ في الكون حتَّى يأتوا بالآيات فيعطيهم الله الآيات تأييداً لهم وتخويفا لقومهم فيخضع قوم فيؤمنون، ويستمرُّ الأكثرون على العناد فتحقُّ عليهم كلمة العذاب".(8)
كما بيَّن الشيخ -رحمه الله- أن الغرض من إجراء هذه المعجزات على أيدي الأنبياء، هو تأييد رسله بالبينات، وإظهار عجز مخالفيهم، فليست المعجزة ابتكارا من عندهم بل هي آية ينزلها الله لنصرة أنبيائه، لذلك كان الأنبياء إذا سئلوا تنزيل بعض الآيات، تبرؤوا من قدرتهم على ذلك، وأخبروا أنَّها من فعل الله عز وجل المتعلِّق بمشيئته، يقول ابن باديس: "وإذا قرأتَ ما قصَّهُ علينا القرآن العظيم من مواقف الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم- رأيت كيف أنهم كانوا يدْعون الناس بالحجج والبراهين، والأدلة العقلية الجليَّة، وأنهم كانوا إذا سُئِلُوا الآيات المعجزات الخارقة للعادة رَدُّوا الأمر إلى الله، ونفوا أن تكون لهم قدرة على الإتيان بها إلا بإذن الله كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [إبراهيم: ١١]. فيظهِرُ الله على أيديهم الآيات تأييداً لهم وتخويفاً لأقوامهم، وقطعاً لمشاغبتهم، فيخضع لها بعضهم، ويستمرُّ الأكثرون على العناد، فما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما مثله في وضوحه وظهوره، والعجز عن معارضته ما يؤمن عليه العباد، ويتفقون عليه لولا ما يصدُّهم عنه من العناد، وهو معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «مَا مِنْ الأنبياء نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ مِنْ الآيات ما مِثْلُهُ آَمَنَ عَلَيْهِ البَشَر»(9) ".(10)
من خلال ما سبق نستطيع أن نقول أن معنى المعجزة عند ابن باديس يتضمن ثلاثة أشياء(11):
1- أمر خارقٌ للعادة: فلا بدَّ أن تكون المعجزة خارجة عمَّا ألِفَهُ الناس حتَّى يذعنوا لها ويصدِّقُوا صاحبها.
2- العجز عن معارضتها: فمن شرط المعجزة السلامة من المعارضة فلا يستطيع أحدٌ الإتيان بمثلها، إذ لو جاء بمثلها أحدٌ لم تصلح أن تكون معجزة.
3- لا يقدر النبي على الاتيان بها إلا بإذن الله: فالمعجزة لا يدَّعِي النبيُّ التصرُّفَ فيها بنفسه، بل يعلِّقها بإذن الله ومشيئته فلا يستطيع الاتيان بها إلا أن يأذن له ربه.
المطلب الثالث: شمولية نظرية إعجاز القرآن عند ابن باديس.
يرى الشيخ ابن باديس أن المعجزة القرآنية معجزة علمية خالدة لا تختصُّ بزمنٍ دون زمن، كما لا تختصُّ بوجه واحدٍ من وجوه الإعجاز بل هي معجزة علمية عقلية باهرة من حيث: الأسلوب والمعنى والبلاغة، والتشريع الذي يضمن سعادة البشر، والعلوم الكونية التي دلَّ عليها القرآن قبل أن تكتشف، كما يرى أنَّ التحدِّي بهذه المعجزة باقٍ مستمر ما بقي القرآن الكريم، وهذا بعكس آيات الأنبياء من قبل كانت معجزات كونية لا يشهدها إلا من حضرها، يقول ابن باديس في هذا الصدد:
"آيات الرسل- صلوات الله عليهم- كانت معجزات كونية لا يشهدها إلا من حضرها ثم تبقى أخبارا يمكن للجاحد إنكارها، ويتأتَّى للمشاغب أن يصنع من الخزعبلات والمخارق ما يموِّهُ به على ضعفة العقول ويدَّعي مُمَاثلتها، وآية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وهي القرآن العظيم معجزةٌ علميةٌ عقليةٌ يخضع لسلطانها كلُّ من يسمعها ويفهمها ولا يستطيع معارضتها، لا في لفظها وأسلوبها وبيانها الذي عجزت عن معارضة أقصر سوره العرب على ما كان من حمِيَّتها وأنفتها وشدَّة رغبتها في إبطالها لو وجدت سبيلا إليها فقط- بل لا تستطاع معارضتها فيما اشتملت عليه من أصول العلوم التي يحتاج إليها البشر في كمالهم وسعادتهم أفرادا وجماعات، وأمما وما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة والحكم الباهرة، في كلِّ ما دعتْ إليه إلى ما اشتملت عليه من حقائق كونية كانت مجهولة عند البشر حتَّى كشفها العلم في هذا العصر مثل: بِنَاء الخلق كلِّه على أساس الزوجية في أشياء كثيرة. مصداق قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣]. فبهذا كانت آية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أعظم الآيات وأبقاها، وكانت مغنية عن غيرها كافية عمَّا عداها، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ [العنكبوت: ٥١] ".(12)
وهذه الخصِّيصة لمعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم سبق (القاضي عياض) ابن باديس إلى التنبيه عليها- ولعلَّه استقاها من عنده، فقد قال في كتابه الشفا: "ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفُّل الله تعالى بحفظه فقال ﴿ إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ﴾ وقال ﴿لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآية، وسائر معجزات الأنبياء انقضتْ بانقضاء أوقاتها فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدَّة خمسمائة عام وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا".(13)
والنظرة الشمولية لإعجاز القرآن عند ابن باديس تُظْهِرُ أنَّه ينحى منحى التعميم في وجه إعجاز القرآن، وهي مسألة اختلف فيها العلماء قديماً وحديثاً(14)، فمنهم من قصر الإعجاز على وجهٍ واحد، ومنهم من اختار وجهين أو أكثر، ومنهم من عدَّد الوجوه:
فذهبت طائفة من المعتزلة على رأسها النظَّام المعتزلي، إلى القول بالصِرْفَةِ، ومعناها: أنَّ الله عزَّ وجلَّ صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم على ذلك، فالقرآن عندهم ليس معجزا في ذاته، وإنما المعجزة في منع الله لهم عن الإتيان بمثله، وهذا قول باطل يردُّهُ العقل والنقل.
وذهب بعضهم إلى أن وجه الإعجاز القرآني هو ما جاء فيه من الأخبار الغيبية التي يستحيل أن يأتي بها البشر، وقيل كذلك أن وجه الإعجاز هو النظم القرآني المؤلف من الألفاظ والمعاني، وهو الذي تحدَّى الله به العرب أن يأتوا بمثله، وإلى هذا القول ذهب أهل اللغة والبيان، كالجرجاني والخطَّابي. وقيل أن وجه الإعجاز هو ما اشتمل عليه القرآن من علوم ومعارف، فوجوه الإعجاز متعددة على هذا القول، فالقرآن معجز في لفظه وبلاغته، ونظمه، وتشريعاته، وأخباره والعلوم التي جاء بها مما يستطيع أن يأتي به بشر.(15)
وهذا القول الأخير هو الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً، فلقد اختاره ابن تيمية، والزركشي، والسيوطي، والرافعي، وهو ما جنح إليه محمد رشيد رضا في تفسيره(16)، وهو الذي اختاره ابن باديس اختيار محقِّقٍ في المسألة، عارفٍ بمذاهب العلماء فيها، فقد بينَّ أن الإعجاز في بلاغة القرآن المشتملة على النظم والأسلوب هو الأصل الذي تحدَّى الله به العرب، ثم يتسع وجه الإعجاز ليشمل جميع العلوم والمعارف المبثوثة في القرآن التي تبيِّن استحالة كونه من كلام البشر، وأنَّه يقيناً من كلام ربِّ البشر، قال -رحمه الله- موضحاً هذه النظرة: "القرآن أعجز العرب ببلاغته، حتَّى عرفوا- وعرف العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم- أنَّه ليس مثله من طوق البشر، هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والاستدلال به له ولمن أتي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وهنالك ناحية أخرى هي أعظمُ وأعمُّ: وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كلُّ ذي فهم من جميع الأمم، في كلِّ قطر وفي كلِّ زمن، وهذه الناحية هي التي احتجَّ بها في هذا الموطن:
فقد استدلَّ على أن القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده، ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره، ولا أن يكون من أوضاع الأوائل، بأنَّه ينطوي على أشياء من أسرار هذا الكون لا يعلمها إلّا خالقه، فمن ذلك:
- ما أنبأ به من أسرار الأمم الخالية، وبيّن من أسرار الكتب الماضية.
- وما أنبأ من أحداث مستقبلة، وما ذكر من حقائق كونية، كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة؛ كالزوجية في كلِّ شيء، وسبْح الكواكب في الفضاء، وسير الشمس إلى مستقر مجهولٍ معين عند الله لها.
- وغير ذلك من أسرار العمران والاجتماع، وما تصلح عليه حياة الإنسان، مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم. فكتاب اشتمل على كلِّ هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق".(17)
فمن خلال هذا النصِّ نستخلص نظرة ابن باديس لإعجاز القرآن، فهو يرى أن الناحية الظاهرة التي تحدَّى بها العرب هي إعجازه البلاغي، وهناك نواحٍ أخرى أعظم تكمن في العلوم المنثورة في القرآن، التي يُسْتَخْلَصُ منها الاعجاز التشريعي، والعلمي التجريبي، والغيبي، وأسرار الكون والعمران والمجتمع، فالقرآن الكريم عنده معجز من جميع هذه النواحي، يقول تلميذه (أحمد حمَّاني)(18): "وللقرآن وجوه اعجاز لفظي وعلمي، وتاريخي وإخباري، وما زالت العصور تبين ذلك، فلا معنى لحصره في نوع من أنواع الاعجاز".(19)
قلت: وفي المبحث الموالي سأبين وجوه إعجاز القرآن الكريم التي أظهرها ابن باديس مع التمثيل ها من مظانها في تفسيره.
الهوامش:
[1] مجمل كلام ابن باديس حول إعجاز القرآن في تفسيره، لذلك كانت هذه الدراسة مركزة عليه، وهناك كلام قليل متناثر في كتبه الأخرى مثل: «العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية» و«مجالس التذكير من أحاديث البشير النذير» أشرت إلى مواضعها في البحث.
2 انظر ترجمة ابن باديس في: معجم أعلام الجزائر، عادل نويهض: 1/ 28- 29. الأعلام، خير الدين الزركلي: 3/ 289. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة: 5/ 105. ابن باديس حياته وآثاره (آثار ابن باديس)، عمَّار طالبي: 1/ 72- 95. عبد الحميد ابن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي، مازن مطبقاني: ص 27- 36.
3 آثار محمد البشير الإبراهيمي: 2/ 252.
4 هي الطبعة التي اعتنى بها الفاضل: أبو عبد الرحمن المحمود، والتي صدرت عن دار الرشيد بالجزائر، ودار ابن حزم ببيروت. سنة (1430ه).
5 انظر، اتجاهات التفسير في العصر الراهن، عبد المجيد المحتسب: ص 277- 279. تفسير عبد الحميد بن باديس منهجه وخصائصه، باي زكوب عبد العالي: ص 116. فما بعدها.
6 انظر، محاضرات ومقالات العلامة أحمد حماني، عبد الرحمن دويب: 3/ 156.
7 انظر، الإتقان في علوم القرآن، السيوطي: 5/ 1873.
8 العقائد الإسلامية، ابن باديس: ص 88- 89.
9 أخرجه البخاري/ كتاب فضائل القرآن/ باب: كيف كان نزول الوحي وأول ما نزل. برقم (4696). ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس. برقم (239).
10 آثار ابن باديس، جمع: عمار طالبي: 2/ 224.
11 انظر، إعجاز القرآن، د. فضل حسن عباس و د. سناء فضل عباس: ص 20- 21.
12 مجالس التذكير من حديث البشير النذير، ابن باديس: ص 32- 33.
13 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض: ص 187.
14 انظر عن المسألة : البرهان في علوم القرآن، الزركشي: 2/ 93- 97. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي: 5/ 1879. فما بعدها. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي: ص 121- 126. دراسات في علوم القرآن، فهد بن عبد الرحمن الرومي: ص 297 – 307.
15 انظر، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض: ص 174. الإعجاز البياني للقرآن، عائشة بنت الشاطئ: ص 69- 89. اعجار القرآن، د. فضل حسن عباس و د. سناء فضل عباس: ص 35- 82.
16 انظر هذه الاختيارات في: إعجاز القرآن عند شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد العواجي: ص 115- 150. البرهان في علوم القرآن للزركشي: معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي: 1/ 11. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي: ص 131-132. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، 1 /165 فما بعدها.
17 مجالس التذكر من كلام الحكيم الخبير، ابن باديس: 2/ 19-20 .
18 هو: الشيخ أحمد حَمَّاني
19 محاضرات ومقالات العلامة أحمد حماني، عبد الرحمن دويب. 3/ 174.