موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من ثورة نوفمبر
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
تحل اليوم الاثنين (1 نوفمبر2021) الذكرى السابعة والستون لثورة الفاتح نوفمبر 1954 المجيدة في ظرف يتسم بتوتر متصاعد بين الجزائر المستقلة وفرنسا المحتل القديم الذي مازال فيه العديد من السياسيين والإعلاميين والمؤرخين والكتاب يستعرضون علانية حقدهم على استقلال الجزائر ولا يخفون حنينهم للماضي الاستعماري لبلدهم الذي امتدت جرائمه الوحشية ضد الشعب الجزائري لمدة قرن وثلث القرن(1830ـ 1962).
لقد كانت ثورة الفاتح نوفمبر العظيمة ملحمة بطولية وستظل مضرب المثل في كل العالم وتقدم نموذجا مشرقا لعزيمة شعب مجاهد، صمم بكل فئاته على تحطيم النظام الاستعماري واسترجاع الاستقلال، وستبقى منبعا للأمجاد ومنجما للبطولات ورصيدا لا ينضب للعبر والدروس الثورية.
ورغم عظمة هذه الثورة المظفرة إلا أن مثقفيها لم يقوموا بالجهد والعمل اللازمين لنشر أمجادها في العالم ويعرفوا بقيمتها ، وفوق ذلك لم يواصلوا العزم على إبراز حقائقها وتحرير تاريخها من التزييف والتشويه، وتنقيته من سموم الحرب الثقافية الرامية إلى تخريب ذاكرة الشعب الجزائري وتفكيك وحدته الوطنية ومسخ شخصيته الحضارية، وكعينة على ذلك لم تسلم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعود لها الفضل في الحفاظ على هوية الشعب الجزائري و تعبئته لاسترجاع استقلاله الوطني من الادعاء بأنها تخلفت عن الالتحاق بالكفاح المسلح في سنواته الأولى، ولم تؤيد إعلان الثورة. ولحسن الحظ فقد تصدى الكثير من العلماء والمؤرخين والمجاهدين للرد على أباطيل المرجفين والمغرضين والتغريبيين بمختلف أصنافهم، وما زالت معركة تحرير التاريخ الوطني من تضليل وأباطيل المستعمرين وعملائهم مستمرة ومتجددة.
في هذا السياق ،كنت قد استمعت على سبيل المثال ـ قبل سنوات خلت ـ إلى شهادة المجاهد الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين –رحمه الله – عن موقف الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – من الكفاح المسلح ومضمونها أن أحد رفقاء الشيخ ابن باديس هو الشيخ عبد الرحمن بن بيبي (لقبه الحقيقي يحي الشريف) أخبره أن الإمام ابن باديس زاره في مدينة سطيف وسأله إن كان هناك رجال في سطيف، فأجابه قائلا: الرجال كثيرون فماذا تطلب يا شيخ؟ قال الإمام: أريد رجلا يكون مستعدا عندما يحين الوقت لإلقاء قنبلة في مطار عين أرنات العسكري.
ومما يؤكد عزم إمام النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس على إعلان الثورة المسلحة ضد المحتل الفرنسي، وهو الذي عمل طوال سنوات عمره القصير والمبارك على تهيئة أرضية الثورة بالتعليم ونشر الوعي الذي حافظ على الشخصية الجزائرية، وكون جيشا من الشباب أصبحوا بعد اندلاع الثورة من عناصر وإطارات وقيادات الثورة المسلحة. شهادة مفتي الجزائر ورئيس علمائها الأسبق العلامة المجاهد الشيخ أحمد حماني – رحمه الله – الذي نشر مقالا في مجلة الرسالة سنة 1981 يعتبر إسنادا لما ذكره الشيخ شيبان في شهادته، إذ يقول الشيخ حماني في مقاله: (…ومما سمعته بأذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939 في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة وتطرق الحديث إلى موضوع الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا – إجباريا أو تطوعا- في صفوف الجيش الفرنسي وكان الشيخ – رحمه الله- متألما جدا من هذا الضعف فيهم وقد صرح بما فحواه: «لو أنهم استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال الأوراس وإعلان الثورة المسلحة».
ويضيف الشيخ أحمد حماني «… سافرت إلى تونس لإتمام الدراسة ولم أحضر تطور هذه الفكرة الباديسية في نفسه ولكني علمت أنها وصلت إلى حد الإنجاز لولا معاجلة الموت، فقد حدث الأستاذ حمزة بوكوشة – وهو أقرب المقربين إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس والعاملين معه في ميادين العلم والإصلاح والسياسة – أنه دعاه ذات يوم للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة وحدد له تاريخ إعلانه بدخول إيطاليا الحرب بجانب ألمانيا ضد فرنسا بما يحقق هزيمتها السريعة فبايعه على ذلك، وكان بالمجلس غير الأستاذ حمزة منهم من تردد ومنهم من أقدم على المبايعة، وقد أكد الشيخ محمد بن الصادق جلولي هذه الرواية ودعمها، لكن المنية أدركت ابن باديس قبل إعلان الثورة بخمسين يوما، فقد مات في 16 أفريل 1940، ودخلت إيطاليا الحرب في 10 جوان 1940».
ويواصل المرحوم الشيخ أحمد حماني شهادته التاريخية في مقاله المشار إليه آنفا «..حدثني الأستاذ محمد الصالح بن عتيق مدير مدرسة الميلية أنه طرق عليه الباب ذات يوم ففتحه، وإذا به يجد الشيخ متنكرا فدعاه إلى النزول فاعتذر وأنه حدثه عن الثورة المسلحة وعن مدى استعداد الشعب في جبال الميلية، قال فأجبته بأن الميلية فيها وفي جبالها «رجال بارود» وله أن يعول عليهم إذا جد الجد وأن الاستعداد النفسي للثورة كامل فيهم».
ويقول أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس أيضا أن الإمام ابن باديس أقسم أمام بعض خلصائه قائلا: «والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقني على إعلان الجهاد لأعلنته».
ولكن الله تعالى لم يأذن باشتعال شرارة الثورة المباركة إلا بعد 14 سنة من وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس – عليه رحمة الله ورضوانه-.
ولعل هذا ما أكده تقرير ضابط المخابرات الفرنسي الكومندان «جاك كاري» المختص في الشؤون السياسية بالولاية العامة الفرنسية بالجزائر، عندما قال في تقريره عن اندلاع الثورة «…قد لا تكون جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على إطلاع على القرار السري لإعلان التمرد في أول نوفمبر 1954 ولكنها هي التي مهدت له الأرضية وكونت إطاراته اللازمة».
ومن الحقائق التاريخية أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت أول التنظيمات الوطنية التي أعلنت عن مساندة الكفاح الجزائري، فقد سارع العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس الجمعية ومساعده العلامة الثائر الشيخ الفضيل الورتلاني ـ عليهما رحمة الله ـ في الثالث نوفمبر 1954 إلى دعوة الجزائريين للالتفاف حول الثورة ومساعدتها بالنفس والنفيس، ثم دعما هذا الموقف في 15 نوفمبر 1954 في بيان بث في إذاعة (صوت العرب) بالقاهرة ،و نشر هذا النداء في كتاب العلامة الفضيل الورتلاني (الجزائر الثائرة) الصادر سنة 1956.