في ذكرى تأسيس أم الجمعيات 2
بقلم: التهامي مجوري-
ما لفت انتباهي في تأسيس جمعية العلماء وبعض أعمالها أمور وقفت عندها، كقضايا ملفتة تكشف في تقديري عن مستوى رجالها في التعامل مع الواقع. من هذه القضايا التسمية: “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، بعد أن كانت الدعوة إلى تأسيس جمعية باسم “جمعية الإخاء العلمي”، بمبادرة من الشيخ ابن باديس، والدعوة إلى حزب ديني كما جاء ذلك على لسان الشيخ مولود الحافظي في جريدة الشهاب سنة 1926. ومنها الدقة في المصطلحات المستعملة، وألفاظ التعامل، والتقديرات المنهجية، التي هي في الغالب محل إهمال في العرف العام.
أما التسمية فمُشَكَّلة من أربع كلمات: جمعية – وعلماء – ومسلمين – وجزائريين.
فالجمعية تسمية يفرضها العرف السياسي والقانوني، حيث لا يوجد من الأشكال التنظيمية، السياسية والنقابية والخيرية والثقافية إلا هذا الشكل، فلم يخطر ببالهم أن مشروعهم أكبر من جمعية أو أصغر، وإنما تعاملوا مع المصطلح كمساحة قابلة للإستثمار، وإن كانت الجمعية ليست بالضرورة كغيرها من الجمعيات في مضامينها، وإنما يمكنها أن تكون متميزة بمضامينها ومراميها الثقافة الحضارية، وإن اشتركت مع غيرها من الجمعيات في الشكل. فهي ليست حزبا سياسيا ولا نقابة مطلبية ولا جمعية خيرية أو ثقافية، أو جماعة ضاغطة، وإنما هي هيئة تشترك مع هذه الهيئات في جوانب من نشاطها، وتختلف عنها في محتوياتها العلمية والعملية، لكونها حركة إحياء تعمل على إعادة مجد الأمة اختفى منذ قرون، سلبت بقاياه بقوة الحديد والنار بفعل الاستعمار.
وكونها جمعية للعلماء؛ لأن مؤسسوها يعتقدون أن عملية الإصلاح والتغيير في المجتمعات تقع على عاتق العلماء وقادة الرأي؛ لأنهم المؤهلون لذلك والمطالبون به، على خلاف عامة الشعوب المغلوبة على أمرها والمغبونة في حظها، العاجزة عن تغيير حاله إن لم يكن هناك من يربيها ويهذبها ويقودها؛ ولأن الذين قاموا باستئناف العمل الدعوي والإصلاحي هم العلماء.
وعندما تنادوا من أجل لملمة الجهود، كانت الدعوة حريصة على جمع العلماء في تكتل كبير. ذلك أن العلماء هم الذين يقدِّرون حاجة المجتمع، ويستطيعون تكييف الواقع والارتقاء به إلى ما يريدون، وهم القادرون على تحقيق ما يصلحه وعلى تجنيبه ما يفسده. ثم إن العامة من الشعوب ليست هي التي تقود نفسها، وإنما لا بد لها من قيادات ترشدها وتوجهها وتأخذ بيدها.
إن العلماء دائما هم الذين يقودون مجتمعاتهم، على طريقة الرسل والأنبياء والمصلحين، ولذلك كانت كل المبادرات التي قام بها علماء الجزائر ومصلحوها، تركز على الطلبة والعلماء الذين عادوا من الزيتونة والأزهر والحجاز، والذين تربوا على أيد ابن باديس والإبراهيمي والعقبي وبن خير الدين وغيرهم…، وهم الذين تأسست بهم جمعية العلماء، وقد جاء على لسان الشيخ ابن باديس ما يؤكد على أهمية هذه الفئة من الناس في المجتمع في قوله: “لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم” [آثار ابن باديس]، وخلال نشاط الجمعية في تاريخها كانت دائما تركز على أهمية النخبة بحيث كانت تستدعي الشباب النابهين إلى مجالسها العليا لتعليمهم وتدريبهم على القيادة وممارسة الاهتمام بالشأن العام.
ومصطلح المسلمين، كان لتمييز هذه الجمعية عن غيرهما من الجمعيات؛ لأن المجتمع الجزائري كان يومها تحت وطأة الاستعمار الذي قسمه إلى مسلمين وهم السكان الأصليين، وغير المسلمين من الأقدام السوداء وغيرهم ممن قدموا معه، وفرضوا على المجتمع فرضا..، فالمسلمون من حيث الديانة يقابلهم النصارى واليهود، وهاتين الديانتين كانت قبل الاحتلال، ولكن بمجيء الاحتلال، أضحى لمدلول المسلمين مدلولا آخر له بعده السياسي؛ لأن غير المسلمين ممن كانوا في الجزائر قد اندمجوا في التجمع البشري الأوروبي الدخيل، ومن ثم أضحى للمصطلح مدلولا انفصاليا لا يعبر عن مجرد التدين، بقدر ما يعبر عن مفهوم لا تريد فرنسا بقاءه..؛ لأنه يعبر عن مفاهيم عميقة في نفس المجتمع الجزائري، وتذكره دائما بماضيه الذي كان، ومستقبله الذي ينبغي أن يعود.
ومصطلح الجزائريين، يعبر عن المزيد من التميز في مكان لجمعية وزمانها ومنهجها؛ لأن العالم الإسلامي بأطرافه المترامية، له تجارب كثيرة ومتنوعة، ولكل تجربة من هذه التجارب خصوصيتها وطرق تفاعلها مع الواقع الذي بعثت فيه.
وجمعية العلماء من بين العشرات أو المئات من تلك التجارب، فهي تجربة جزائرية، مدارها هذه القطعة من الأرض الإسلامية الطاهرة، فهي تجربة فريدة في منهجها وروحها ومسلكها ومدارها، فهي إصلاحية المنهج، إسلامية الروح والمسلك، جزائرية المدار، ليست تابعة لأية جهة من الجهات الرسمية أو الشعبية، وهي تجربة من بين عشرات التجارب التي قامت بها الأمة خلال القرنين الماضيين، متميزة في جانب أو جوانب، كما تميز غيرها في جانب أو جوانب أخرى، إذ لكل تجربة من تلك التجارب خصوصيات، قد لا تلتقي بأختها فيها إلاّ في الأطر العامة المحافظة على الإسلام، كما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- وتحرص على تنفيذه كما حرص على تنفيذه أهل القرون الثلاثة الأولى.
وإذا التقت جمعيتنا المبارك بتجربة من هذه التجارب في جزئية من الجزئيات، أو لم تلتق معها في شيء، لا يعني أنها تزكي هذه التجربة التي التقت معها في جزئية، وتدين التي لم تلتق معها في شيء؛ لأنَّ طبيعة العمل الإصلاحي، هو البحث عن القواسم المشتركة في إطار معركة وجودية، في صراع قائم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، على حد تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ولا تبحث عن المثالب والمزالق والأخطاء تتبعا للعورات، للانتقاص من هذا، ومعاداة ذاك، والتأليب على ذلك، وكذلك تحديد نسبتها للجزائر لا يعني أنها قزمت الإسلام وحصرته في بقعة من الأرض، وإنما تريد تحديد موقعها بالوطن الجزائري، الذي يقع تحت مسؤوليتها، ولحماية مشروعها من مكائد الإدارة الاستعمارية، ونفي التهمة التي كانت تكيلها للعاملين يومها، لربطهم بجهات أجنبية ليسهل استئصالهم والقضاء عليهم بوصفهم أتباعا لقوى أجنبية، ووصفهم بالوهابيين والعبدويين والخطابيين، يدخل في هذا الإطار، ولربط الحركة ببعدها الوطني بعد سياسي آخر، وهو أن مجرد ذكر نسبة الجمعية إلى لجزائر في حد ذاته، مقاومة لفكرة الاندماج التي تقول إن الجزائر فرنسية، ثم إن شعور العلماء بواجب الإصلاح، لا يمكن أن تكون له ثمار إن لم تحدد معالمه ومساحاته؛ ولأنه وزع على نخب الأمة بحسب مواقعهم وأقاليمهم بعدما تمزقت الأمة وتشتت، فاعتبر علماء الجزائر أن أول واجب عليهم هو الاهتمام بهذه البقعة، التي تسمى الجزائر، ولذلك وضع الشيخ ابن باديس شعار المنتقد الشهيدة، التي أوقفت بعد صدور 18 عددا منها “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء”.
وأما الدقة في المصطلحات المستعملة في لوائحها وقانونها الأساسي، وفي إدارة أعمالها وتعاملها مع الواقع فكثيرة، وأنا هنا لا أريد استقصاء كل أدبيات التعامل هذه، وإنما اذكر أمثلة كنماذج عشوائية، تكشف عن المستوى الذي كانت تدار به. فمثلا لا يسمح بالتنادي بغير إضافة كلمة الشيخ أو لأخ إلى الإسم، فيقال الشيخ فلان أو الأخ فلان، وترقية الأعضاء العاملين من الدرجة الثالثة إلى الثانية تكون بالتقدم في العلم، والترقية من الدرجة الثانية إلى الأولى تكون بالإنتاج العلمي، وفي العمل العام يوعز إلى شعراء الملحون، بنظم قصائد تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تسعي الجمعية في أشطتها في تحفيظها للناس، وتعهد الجمعية إلى رجالها بدراسة المجتمع من جميع جوانب حياته، وتضع الحلول للمشكلات التي وقع فيها، والاستعداد لما سيفتح على الجمعية من أبواب لم تكن مفتوحة قبل وقوع ذلك…، هذه الأمور وغيرها كثير وقفت عليها في أدبيات الجمعية ونشاطاتها، مدونة في فترة التأسيس وقبلها وبعدها، بحيث يستغرب المرء من الاهتمام بالشعر الملحون وفي نفس الوقت باستشراف ودراسة المجتمع لتجاوز مشكلاته.