الشيخ عبد الحميد بوتمجت أحد رموز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: الشيخ عمار جوامع-
مولد الشيخ ونشأته:
في تلك الهضاب العالية الشامخة شموخ ساكنيها ذات الأراضي الخصبة والتربة المعطاءة الجيدة، وفي ضيعة جده الحاج حمو أحد أعيان الجهة، وصاحب الكلمة المسموعة والمكانة السامية الذي كان يحظى بمكانة عالية عند العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس وببلدية أم العظائم التي أصبحت بعد التقسيم الإداري الأخير دائرة تابعة إقليميا لولاية سوق أهراس، رأى الطفل الشيخ العلامة عبد الحميد النور في 17 جانفي 1926 من أبوين كريمين بارين هما عمار بوتمجت والأم الفاضلة زبيدة بن بيدة التي توفيت عنه وهو لم يتجاوز 4 سنوات، فعاش يتيم الأم ينعم بحنو والده وزوجة أبيه وجده الذي وجد فيه رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس المعين الذي لا ينضب، يجود على الجمعية بما ملكت يداه من زكاة الحبوب (العشر) وزكاة الماشية عند حولان الحول. وعندما بلغ السادسة من عمره أدخله أبوه زاوية بلقبلي، ونظرا لما يتوفر عليه من ذكاء وسرعة الحفظ تمكن من إتقان كتاب الله الكريم كاملا في سن مبكرة، مما يسر له الالتحاق رفقة عمه إبراهيم بالجامع الأخضر، حيث تتلمذ على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس شخصيا ما يربو عن سنة ونصف تقريبا.
وبوفاة الشيخ العلامة عاد المترجم له إلى مسقط رأسه، لكن رغبة والده وجده أخذت تزداد يوما بعد يوم بحثا عما يلبي حاجة ابنيهما في طلب العلم، فألحقاه بمدرسة الحياة سدراتة وفيها تتلمذ على يد الشيخ العلامة بلقاسم بشيشي حوالي 3 سنوات، يتأسى بأخلاقه وينهل من علمه، جادا كادا في طلب العلم، وكلما ازداد تحصيلا اشتدت رغبته في طلب العلم، وساورته فكرة الذهاب إلى جامع الزيتونة المعمور لما كان يسمع عليه من شيخيه العلامة الفذ الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس والشيخ العلامة بالقاسم بشيشي، وعرض على أبيه وجده الأمر فشجعاه على رغبته، ومما زاده تشجيعا وجود بعض من أخواله المهاجرين بتونس كتجار بها فتحمس للرحلة واستعد لها في انتظار حلول موعد السفر وانتهت الراحة الصيفية، واتخذ الشاب الطالب وجهته نحو تونس عن طريق القطار الذي يعد وسيلة النقل الوحيدة في ذلك الوقت .
نسب الشيخ:
يعود نسب الشيخ إلى عرش الحراكتة العربي، وتقول بعض المصادر أنهم يعودون إلى قبيلة أولاد إسحاق وهي من قبائل عرش الحراكتة العربي العدناني المنحدر من قبائل رباح بن هلال بن عامر، ويرحع نسبهم حسب ما ذكره المؤرخ الباحث في أنساب القبائل ابن خلدون إلى حركات بن أبي شيخ لينتهي نسبهم في الأخير إلى سيدنا (إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) وهو من العرب العاربة وتقول بعض المصادر الأخرى التي لم نجد ما يؤكدها أو ينفيها أن جدهم حركات بن زكري بن نايل، ويصدق بعضهم هذه الرواية. أما المؤرخ الفرنسي فرود الذي عاش وسطهم فترة من الزمن وقال أن جد الحراكتة هو القائد العربي السلمي حركات وأن هؤلاء العرب الذين جاؤوا مع بني هلال وتأثروا بالهوارة (الشاوية) ولم يحتفظوا بأصلهم العربي إلا بالاسم (حراكتة) نسبة إلى حركات القائد العربي السلمي، وتقول بعض الروايات التي ينفيها البعض أن أصل الحراكتة من الجنوب .
تنقسم قبيلة الحراكتة جغرافيا إلى 3 أقسام هي: حراكتة السبايخ، حراكتة المعذر والجرمة وحراكتة جبل الثلاث وتنتمي كل بطونه إلى 4 من أبناء حركات وهم أولاد عيسى، أولاد الحاج، أولاد مخلوف، أولاد عدوان.
ويتفرع عن أولاد عيسى: أولاد عمارة، أولاد خنفر، أولاد سيوان كل هؤلاء يتواجدون حول عين البيضة وأم البواقي ومسكانة وهم حراكتة العواسي أو حراكتة السبايخ. اما أولاد عدوان فهم المعروفون بحراكتة الثلاث.
أما قبيلة الساكنية التي تنتمي هي الأخرى لحراكتة بني هلال وتضم بطونا عديدة منها أولاد داود، أولاد بوعافية، أولاد سي عمار أولاد موسى المرابطين بسدراتة وأولاد قاسم بوجانة. ويقول بعض المتأخرين أنهم بربر ويستشهدون بلسان بعض الحراكتة وهو قول حديث ليس له أساس سوى أنهم يقولون بأن لسان بعض الحراكتة بربري فهم بربر، وهذا القول لم يقل به أي واحد من المؤرخين فليس كل من لسانه بربري فهو بربري وإلا حق لنا أن نقول بأن كل الجزائريين عرب لأن أغلب لسانهم عربي (أغلب الأشراف المرابطين في منطقة القبائل اليوم يتكلمون بالقبائلية فهل صاروا قبائل نسبا بمجرد تغيير لسانهم بحكم مخاطبتهم لزواوة، أم هم مازالوا أشرافا أدارسة عربا من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم . إضافة إلى أنه لم يذكر في كتب النسابة لا قديما ولا حديثا قبيلة بربرية باسم الحراكتة فابن خلدون ذكر وجود قبيلتين بنفس الإسم في زمانه كلتاهما عربيتين، الأولى سلمية ( بني سليم) والثانية تعود لحركات الرياحي وهي حراكتة عين البيضاء بنو رياح ولم يذكر بن خلدون قبيلة بربرية بهذا الإسم، كما أن المؤرخ فرود ذكر أن حروب الحراكتة مع البربر كثيرة ومعروفة، وقال إنهم كانوا في حروب دائمة مع جيرانهم البربر، وأن البربر كانوا ينظرون إلى الحراكتة كغرباء، أزاحوهم عن أراضيهم الخصبة نحو الجبال، ومما يدعم قول ابن خلدون وجود ولاد عيسى من نسل حركات جد الحراكتة وهو الذي باسمه اليوم، كما أنهم أكبر بطون الحراكتة دون أن ننسى أن قبر الجازية الهلالية موجود لحد الآن داخل أراضي الحراكتة الريحانيين.
كل هذه الأدلة تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن الحراكتة الريحانيين هم الذين تحدث عنهم العالم المؤرخ ابن خلدون في أبحاثه عن الأنساب.
دراسة الشيخ بجامع الزيتونة المعمور:
خلال هذه المدة الدراسية في الطورين الإعدادي (الابتدائي) والثانوي تتلمذ الشاب الطالب على يد كوكبة من النجوم الساطعة اللامعة في سماء هذا الصرح الشامخ السادة المشايخ الأفاضل الذين نهل من علمهم وارتوى من منابع أنهارهم الصافية الزلال، والذين بقي يذكرهم بكل خير ويشيد بعلمهم ويتأسى بأخلاقهم على الدوام، هم المشايخ الأجلاء الشيخ الأديب المفسر لكتاب الله الكريم شيخ جامع الزيتونة المعمور الطاهر بن عاشور، والشيخ الأديب الطاهر بن عبد السلام الخياري الجزائري والشيخ الأديب عبد العزيز جعيط، والشيخ الفقيه محمد الصالح النيفر، والشيخ الأديب محمد الشاذلي النيفر الذي أصبح بعد تحويل جامع الزيتونة إلى جامعة زيتونية مديرا لها والشيخ العالم الفاضل بن عاشور والشيخ الأديب محمد عمر الزغواني والشيخ الأديب علي النيفر والشيخ الأديب محمد العربي الكبادي كل حسب تخصصه ففي اللغة والأدب نحو، صرف، بلاغة، إنشاء ( مقالة)، علم القوافي.
في العلوم الدينية الشرعية، فقه، توحيد، أصول، تفسير، أخلاق، علم الفرائض، تاريخ إسلامي وجغرافية العالم الإسلامي وفي الرياضيات جبر وهندسة.
زملاء الشيخ في الدراسة:
الشيخ الطاهر سعدي حراث(تبسة)، الشيخ أحمد بو رزاق المعروف بــ بو روح ( جيجل)، الشيخ محمد الكامل رقاينية، الشيخ لمين بشيشي، الشيخ عبد الرحمن هوام ( سوق أهراس) وممن التحقوا به وزاملوه في جامع الزيتونة صالح مشنتل، إبراهيم مشنتل، محمد الشريف مساعدية/ محمد الطيب مساعدية، الصديق زوية، مختار بوعشة، الطاهر محافظية، خالد خلايفية والملكي بو الصيود.
التحاق الشيخ بجمعية العلماء المسلمين:
عاد الشيخ بعد رحلة اليمن والبركة كما سماها وهو موسم بوسام العلم والأخلاق والافتخار حاملا معه شهادتي الأهلية والتحصيل، فأقيمت الأفراح وذبحت الذبائح احتفاء بهذا الفوز العظيم.
رجع الشيخ وكله أمل وحزم وعزم وتصميم على المشاركة مع إخوانه الأبرار والمجاهدين الأخيار لحمل لواء الجهاد بالقلم واللسان، وكعادة المستدمر مع كل ذي شأن أمثال الشيخ حاول العدو أن يغريه بالرغيف والوظيف فعرض عليه وظيفة قاض بالمحكمة الشرعية، فرفض وأبى ووظيفة إمام تابع للإدارة الاستعمارية، وكاتب خوجة لدى الإدارة، فرفضها هي الأخرى يقينا منه وأن رئاسة جمعية العلماء في انتظار العائدين من جامع الزيتونة وهي في حاجة ماسة سيما وأن تشييد المدارس التابعة لها عبر التراب الوطني تسير بوتيرة متسارعة، فسافر فورا إلى قسنطينة التي سبق له وأن تتلمذ بها عند العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس ، فكان له شرف الاستقبال من طرف الشيخ العربي التبسي، وكوكبة من المشايخ الأجلاء الذين رحبوا بمقدمه مباركين له هذا الفوز العظيم وشرفوه باختيار منصب من المناصب الشاغرة، فاختار بكل غبطة وسرور مدينة قالمة القريبة من سكناه فعين بها السنة الدراسية 1951/1952 وعاد والفرحة تملأ قلبه على أن وفقه الله لهذا العمل الجليل ودقت ساعة استئناف الدراسة والتحق بزملائه وأبنائه التلاميذ، لكن بقاءه بقالمة لم يدم أكثر من سنة ليحول بعدها إلى مدينة تبسة ليواصل مهامه التعليمية بمدرسة تهذيب البنين والبنات ثم حول إلى الجزائر العاصمة بعد سنتين دراسيتين بتبسة ثم إلى مدينة وهران التي غادرها إلى تونس فارا بنفسه من متابعة المستدمر.
انضمام الشيخ إلى ثورة التحرير المظفرة:
وفور وصول الشيخ إلى تونس التي عرفها منذ أيام الدراسة اتجه نحو قيادة الثورة المتواجدة هناك مبديا استعداده المطلق للانخراط في صفوف المناضلين المجاهدين لتحرير البلاد وعتق العباد من براثن عدو مستدمر غاشم عاث في الجزائر جورا وفسادا، نهب خيرات البلاد وقهر وأذل العباد، ليواصل نضاله بتفان وإخلاص إلى أن حول إلى مصر في إطار مصلحة الثورة التحريرية المجيدة أين التقى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي طلب منه مد يد المساعدة على الانضمام إلى الأزهر الشريف بغية مواصلة الدراسة لكن الفترة لم تدم طويلا ليحول إلى الرياض عاصمة السعودية، ملحقا بممثلية الثورة التي كان على رأسها الشيخ أحمد حسين، وتمكن بعد محاولات السفر إلى مكة والمدينة المنورة، فكان له بها شرف الإتصال بالشيخ أبي بكر جابر الجزائري ليعود إلى الرياض مواصلا نضاله، إلى أن من الله علينا بالاستقلال واسترجاع السيادة، ففضل بقاءه لمواصلة الدراسة بجامعة الرياض التي توجت بشهادة إتمام الدراسة العالية بها .
مساهمة الشيخ في ثورة البناء والتشييد:
عاد الشيخ مكرما مبجلا سنة 1965 بعد غياب طويل، وشوق كبير دام ما يربو عن 9 سنوات قضاها خارج وطنه الحبيب الجزائر، خدمة لها وطلبا للعلم، فكان له ما أراد فعاد موسما بوسام العلم والشرف شاهرا سلاحه ضد الجهل العدو اللدود الذي خيم على أرضنا الطاهرة طيلة قرن ونيف بفعل فاعل والتي أصبحت في حاجة ماسة لأمثاله بعد أن سعى المستدمر إلى تجهيل شعبها، وتجويع أبنائها وتركها خاوية على عروشها . وعرضت عليه رتبة أستاذ بالجامعة لاحتياج الجامعة في ذلك الوقت لأمثاله لكنه أبى وفضل التعليم الثانوي، فعين بثانوية ابن عكنون الجزائر العاصمة، ليحول بعد سنة إلى ثانوية القديس أوغستين عنابة، ثم إلى ثانوية مبارك الميلي عنابة التي بقي بها إلى غاية 1969 ليتم تحويله إلى ثانوية النهضة للبنات سكيكدة التي مكث بها إلى غاية 1979 ليكرم بتعيينه كمدير ثانوية الحجار عنابة التي استمر بها إلى غاية الإحالة على التقاعد في الموسم الدراسي 1985/1986 وبذلك تكون الأسرة التربوية قد فقدت عمودا من أعمدة التربية والتعليم وقامة شامخة من قامات العلم والأخلاق وبعد رفع التجميد عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والشروع في تكوين شعب الجمعية على مستوى الولايات أصبح الشيخ من بين المؤسسين لشعبة عنابة، إضافة إلى عضويته في جمعية الدفاع عن حقوق اللغة العربية.
ثقافة الشيخ:
يعد الشيخ موسوعة ثقافية واسعة وعلامة مميزة وقامة علمية بارزة ومكتبة أدبية ثرية في شتى العلوم الدينية والأدبية بما حباه الله من مواهب فطرية ورزقه سرعة الفهم وفصاحة اللسان وقوة الذاكرة التي ساعدته على حفظ العديد من الشواهد النحوية من ألفية ابن مالك والمتون الدينية وجل المعلقات والكثير من قصائد فحول الشعراء الذين كان مولعا بشعرهم، يردده في جلساته أمثال المتنبي والمعري وأبي فراس الحمداني وأمير الشعراء أحمد شوقي ومتفرقات للعديد من الشعراء والأمثلة العربية والفراسة في علم الأنساب فالجلسة معه ممتعة مريحة وجلساؤه لا يملون ولا يكلون .
وفاة الشيخ وتأثيرها على النفوس:
كان لوفاة الشيخ الأستاذ أثر عميق وخطب جلل ومصاب عظيم وفاجعة أليمة في نفوس كل من عرفوه وعايشوه ودرسوا على يده إذ خرج سكان المدينة عن بكرة أبيهم يشيعون ويودعون شيخهم وأستاذهم القدير والحسرة تملأ قلوبهم بعيون دامعة وقلوب خاشعة عن فقدان أحد أعمدة الثقافة بالوطن تلك الجموع الغفيرة التي أبت إلا أن يدفن الشيخ بمقبرة سيدي عيسى بأعالي وادي القبة عنابة.
هذا وكانت وفاة الشيخ في 02 فيفري 2016 عن عمر ناهز 90 سنة، تاركا وراءه زوجته و03 أبناء وبنتا وجمعا غفيرا من محبيه وطلابه إلى جانب كتاب تيسير الوصول إلى حديث الرسول (عليه الصلاة والسلام) من حديث البخاري، و 04 أجزاء مخطوطات مازالت لم تطبع بعد .
المصادر المعتمدة في البحث:
شهادة ميلاد الشيخ .
شهادة وفاة الشيخ.
بعض المعلومات عن الشيخ زودني بها ابنه طارق.
بعض الوصولات باسم جده من جمعية العلماء .
الشهادة الأهلية.
شهادة التحصيل.
شهادة إتمام الدراسة العالية من جامعة الرياض.