الأمير عبد القادر: أسطورة أدبية في الغرب
بقلم: جولاي بلالاك -
يبقى عبد القادر الجزائري، المعروف بالأمير عبد القادر، حيًّا في الذاكرة العربية والنغاربية بصفته رمزا للمقاومة ضد الاسنعمار الأوربي أحيانا وبصفته المتصوف الذي لعب دورا في إحياء آثار ابن عربي في القرن التاسع عشر ونشرها أخيانا أخرى, ولكن إضافة إلى عذين الجانبين المهمين يوجد أيضا جانب منسي من سيرة الأمير عبد القادر، وهو تشنهار شخصيته وانتشار أسطوته في الكتابات الأوروبية. وعلى رغم أن الأمير ناصب الدولة الفرنسية العداء، فقد نال شهرة ومحبة عند النخبة الفرنسية خاصة، والأوربية عامة، بعد استسلامه ونقله أسيرا إلى فرنسا في شهر ديسمبر من عام 1847 م. وهكذا أتاحت له مدة حبسه التي دامت حتى عام1851 م فرصة الاحتكاك بالمثقفين الأوربيين الذين كانوا مسخورين بفروسية الأمير ومأخوطين بشخامته إلى درجة أن ذكره بين سطورهم كل من الأديب الشهير فكتور هوغو(1) والمفكر أليكساس دي توقوفيل(2) والروائي وولهلم ثاكيري(3) كما أرخ سيرته بعض المستشرقين من أمثال أدولف ولهلهم دنسن(4) من الدانمارك والكورنيل الفرنسي بول آزان وتشارلز ونستون تشرشل البريطاني الذي استقر بدمشق، وكذلك مان للأمير حضور كبير في مذكرات ليون روش(5). بل إنه حتى في الولايات المتحدة نجد فرنسيس أليكساندر دوريفج الذي نظم قصيدو بمناسبة لقاء الأمير عبد القادر بنابليون الثالث عام 1856 م(6).
شكّل حبسُ الأمير في فرنسا مفاجأة أليمة نظرًا لأن استسلامه كان مشروطًا ببقائه في المنفى في دار الإسلام. ولكي يضمن الأميرُ إمكانية العيش وسط إخوته المسلمين وعد بالكفّ عن التدخل في أمور الجزائر إلى الأبد، إذ لم يظن بأن الدولة الفرنسية قد تتراجع عن وعدها. وعند ركوب الأمير ومئة من أفراد عائلته ومتابعيه سفينتهم المتجهة إلى المنفى حسبوا أنهم سيصلون إلى المشرق. توقفت السفينة في طولون بذريعة إعادة تحميلها ولكنها لم تستأنف طريقها. نُقل الأميرُ ونصفُ متابعيه إلى قصر لامالغو والنصف الآخر إلى قصر ملبروسكيت(7). خلال إقامتهم هذه في طولون زارَ الأميرَ أحد سجنائه السابقين لكي يعبّر عن تقديره للأمير الذي كان قد أمر جيشه آنذاك بمعاملة السجناء باحترام وإنسانية، إلى درجة أنه أمر بأن يزور قسيسٌ السجناء ليلبّي احتياجاتهم الروحانية. أخذ الرقيب أوجان دوما(8) على عاتقه مسؤولية رعاية الأمير وقبيلته خلال الحبس في طولون. وعلى رغم دور الرقيب بصفته ممثلًا رسميًّا للدولة التي سلبت الأميرَ حريته، ورغم مهمته من تلك الدولة التي كانت محاولة إقناع الأمير بالتنازل عن حقه في العيش في المشرق، فقد اتسمت العلاقة بينه وبين الأمير بنوع من التقرّب والصداقة. وجد الأمير نفسه مجبرًا على التصرف بشجاعة وصمود أمام عائلته لكي يعطيهم الأمل والمعنويات الضرورية لتخطّي تحديات السجن، وهكذا أصبح الرقيبُ دومًا الشخصَ الوحيد الذي كان الأمير يعبّر أمامه عن قلقه ويأسه خلال هذه الحقبة العسيرة. وعند مغادرة الأمير طولون كتب إلى الرقيب -الذي كان يتقن العربية- قائلًا: «يشفي الأطباءُ الجسدَ بالأدواء ولكنك تسكّن قلبي بكلامك اللطيف. جعلني الوقت الذي قضيته معك أشعر وكأنني لم أغادر بلدي قطّ، ولكني بمغادرتك سأصبح غريبًا في بلد غريب»(9). في عام 1857 م أفرزت هذه الصداقة الحميمة كتاب نقل أسطورة الأمير إلى عدة بلدان أوربية، وسوف نحكي قصة هذا الكتاب بعد لمحة قصيرة حول تجربة الأمير بصفته سجينًا لفرنسا.
تقلبات وسقوط ملكية
لا بد من الإشارة هنا إلى حالة فرنسا آنذاك، التي اتسمت بعدم الاستقرار وبحدوث تقلباتٍ عدةٍ أسفرت عن إسقاط ملكية يوليو وإنشاء الجمهورية الثانية، ثم نزاع داخل الجمهورية سبّب ثورة يونيو 1848م، ثم بعد انقلاب نابليون لووي -أي نابولين الثالث- إعادة الإمبراطورية الفرنسية. لذا نقلت المسؤولية عن مصير الأمير من حكومة إلى أخرى ولم يكن لمَن وعده حريته، أي الجنرال لاموريسير(10) والدوق أومال الذي كان الحاكم العام للجزائر وقتها(11) تحت حكم الملك لووي -فليب الأول- علاقة مع مَن أطلق سراحه في نهاية الأمر. بعد مدة قصيرة قضاها الأمير أسيرًا في طولون، قررت الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية الثانية في إبريل 1848 م نقل الأمير وسبعة وسبعين من عائلته ومتابعيه إلى سفوح تلال بو(12) للإقامة في قصر هنري الرابع القديم، وكان هذا المكان من اقتراح الشاعر الشهير ألفونس دي لامارتين(13) الذي كان قائد الجمهورية آنذاك. في الطريق بين طولون وبو وقفت سفينة الأمير عند ميناء سانت إتيان حيث كان السكان قد احتشدوا متطلّعين إلى رؤية الفارس الجزائري.
ولأن الأمير عبد القادر رجل علم وصاحب فكر، لم يركن إلى الكسل ولم يقف مكتوف الأيدي في أثناء حبسه، بل قضى وقته في بو في الدراسة والمراسلات واستقبال الزوار. بعد وقت قصير أثار «الأمير السجين»، كما كان يُدعى في الجرائد الفرنسية، فضولَ سكان مدينة بو وأخذ عدد زواره يرتفع إلى درجة أنه طلب تحديد يومين فقط في الأسبوع للزيارات لكي يتفرغ في بقية الأيام للقراءة والكتابة والذكر. وكان ممن أتى لزيارته كولونيل من الحروب الفرنسية الاستعمارية في إفريقيا، عبّر عن احترامه لأخلاق الأمير وفروسيته. كذلك زاره ابن جنديٍّ متقاعدٍ حارب في الحروب النابليونية وأهدى الأميرَ خاتمَ أبيه من الجيش الذي كان مكونًا من قطعة من ضريح نابليون الأول، على رغم رفض الأمير لهذه الهدية الغالية في البداية. زارت عبدالقادر الجزائري أيضًا بعض النساء الأرستقراطيات، ومن بينهن المدام لاماريشال زوجة الماركيز غراوتشي(14) التي كتبت ملاحظات حول ظروف حبس الأمير ورفاقه البائسة(15). وكان هناك عدد من السجناء السابقين الذين كتبوا إلى الأمير معبّرين عن امتنانهم له نظيرَ معاملته الشريفة والإنسانية تجاه السجناء في الجزائر. وحدث في يوم من الأيام أن سمع حارس من قصر التويلري الملكي بوجود عبد القادر الجزائري في قصر بو فطلب من الدولة بعثه إليه لكي يحرس الأمير. اكتُشف لاحقًا أن هذا الحارس المحترم الحاصل على وسام جوقة الشرف كان أيضًا سجينًا سابقًا عند جيش الأمير، ومثل كثير من الرجال الذين كانوا في هذا الوضع أعجب بلطف الأمير وإنسانيته وعدّه شرفًا عظيمًا أن يكون حارسه. هذا الوصف لا يساوي إلا لمحة مختصرة حول حبس الأمير ببو واحتكاكه بالفرنسيين هناك، ولكننا نود هنا إلقاء نظرة على أهم زائر عند الأمير في بو، وهو الأسقف أنطوان دوبوش الذي كان أول فرنسي تولى الأسقفية بالجزائر(16). وجد كل من دوبوش والأمير في الآخر رجلًا مهتمًّا بالعلم والدين يعيش من أجل عون أخيه الإنسان وراحته، ومثلما كان الحال في صداقة الأمير مع الرقيب دوما، فقد نتج عن هذا التعامل الطيب كتابٌ يرسم شخصية الأمير الاستثنائية.
المكان الأكثر عزلة
بعد أحداث يونيو 1848 م الدامية التي رسمت صورتها المؤسفة رواية «البؤساء» صعد الرقيب لويس- يوجين كافيغناك(17) الذي حارب في الجزائر إلى رئاسة الجمهورية مؤقتًا، ثم عيّن لامورسي، أي الرجل الذي وعد الأمير بحريته عند استلامه، وزيرًا للحرب. كان لدى الأمير أملٌ بأن لامورسي سيَفِي بوعده، فكتب إليه يحمد الله الذي ردَّ إلى يد لامورسي مسؤولية حماية فرنسا مضيفًا: «إنني مثل رجل ملقًى في وسط البحر وأنت الوحيد الذي يمكنه إنقاذي» وذكّره بوعده المكتوب. وعلى رغم أن لامورسي أدرك حقيقة ما قال الأمير، فقد خاف من الرأي العام وعدم استقرار بلده، فأمر في نوفمبر 1848م بنقل الأمير وعائلته للمرة الثالثة هذه المرة إلى قصر أمبواز(18)، المكان الأكثر انعزالًا من بو، الذي كان مسكنًا قديمًا لملوك فرنسا.
على رغم الظروف القاسية في أمبواز، أخذ صيت الأمير في الذيوع أكثر فأكثر. زاره الأرستقراطي الإنجليزي لورد لوندنديري الذي كان صديق لووي- نابليون المقرّب، وبعد انتخاب لووي- نابليون في ديسمبر 1848 م رئيسًا للجمهورية الثانية أخذ لوندنديري يطالب بإطلاق سراح الأمير. ثم ألَّف الأسقف دوبوش كتابًا(19) مخصصًا للووي نابليون يدافع فيه عن شرف الأمير عبدالقادر، من خلال تدوين نقاشات دوبوش مع الأمير، وتقديم شهادات من أشخاص آخرين حول شخصية الأمير، وتوفير وثائق تدل كلّها على كون الأمير رجلًا عظيمًا وعادلًا وملتزمًا بمبادئ الصدق والإخلاص. يقول دوبوش في بداية الكتاب إن كلَّ مَنْ له علاقة قريبة بالأمير استجاب لطلبه، وكانت كل الأجوبة متشابهة في وصفها لعظمته. كان من ضمن ما رواه دوبوش قصة مثيرة للاهتمام، حيث طلب فرنسيان من الأمير أن يساعدهما في أن يُسلِمَا فما كان منه إلا أن حذَّرَهما من أن تغييرهما دينَهما يمكن أن يؤدي إلى طردهما من مجتمعهما، كما أقنعهما أن اعتناق الإسلام أو أي دين مقترح فقط عندما يحدث بالصدق. وكدليل إضافي على تسامح الأمير وقبوله الآخر، دوَّن دوبوش حوارًا دار بينهما؛ حيث طلب منه عبد القادر أن يوفّر له نسخة من الإنجيل ويعلِّمه أسسه. ومن بين هؤلاء الذين سُجل رأيهم في كتاب «عبدالقادر في قصر أمبواز» نجد الرقيب دوما نفسه الذي لاحظ أن الأمير كان يستقبل الزوار ويحاورهم بلباقة وظرف وتواضع(20) كأنه ليس أمير المؤمنين بل خادم الإنسانية. وصف دوما كذلك ندمَ عبدالقادر من عدم استطاعته معاونةَ الفقراء في مدينة بوردو بعد استضافة المدينة له، وأكَّد دوما وروش ودوبوش انعدامَ اهتمام الأمير بالأمور المادية مشدِّدين على نمط حياته البسيط، حيث كان يقضي وقته في العبادة وطلب العلم والتدريس للآخرين. ونظرًا إلى حقيقة أن هذا الكتاب الأخير حظي بثلاث طبعات في عام 1849م يمكن الاستنتاج أن هناك اهتمامًا عامًّا بالأمير.
ذكرى العاقل
قبل إطلاق سراح الأمير نشر الرقيب دوما كتاب «الخيل الصحراوي وعادات الصحراء» في عام 1851م(21). تناول الجزء الأول من الكتاب ميزات الخيل الصحراوي وأنسابه وكيفية تربيته، ثم علَّق الجزء الثاني الإثنوغرافي على عادات المجتمع الصحراوي الجزائري وطقوسه. أدمج الرقيب ملاحظات الأمير عبد القادر في جلّ المواضيع وضمَّن أيضًا قصيدةً نظمها الأمير وتُرجمت إلى الفرنسية حول جمال الطبيعة الصحراوية. نُشر الكتاب سبع مرات قبل نهاية القرن التاسع عشر. ويمكن عدّ الأمير كتابًا منشورًا في غرب أوربا عمومًا؛ لأن النسخة الألمانية للكتاب الذي يحمل اسمه نُشرت عام 1854م، ثم نشرت نسخة إنجليزية منه عام 1863 م، وفي هذه الطبعة الأخيرة حذف المترجم فصلين من النص الأصلي، لكنه نقل قصيدة الأمير كاملة من دون نقصان. وبعد حصول الأمير على حريته أخيرًا عام 1852م ترجم المستشرق كوستاف دوجات رسالة «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل» إلى الفرنسية، ونُشرت الترجمة الفرنسية بالتزامن مع نشر الكتاب العربي. شرح دوجات في مقدمة الكتاب بطولة الأمير وسموّ أخلاقه وكونه رجل علم وفلسفة أكثر منه رجل سيف.
حتى في منفاه الأخير في المشرق نال الأمير شهرةً بسبب دوره في حماية نصارى دمشق من ثورة الدروز التي أخذت شكل الفوضى والقتل العشوائي في عام 1860 م. بعد هذا العمل البطولي حصل الأمير على أعلى شرف من الدولة الفرنسية، وهو صليب فيلق الشرف العظيم(22). ثم أرسل إليه الرئيس الأميركي أبراهام لينكون ذخيرة من البناديق كهدايا. ختامًا، بعيدًا من تجميل المصادر والأحداث التي تناولناها خلال هذا العرض الوجيز -فاهتمام الأوربيين بشخصية الأمير عبد القادر لا ينفي تأثير التفكير الاستعماري والاستشراقي في بعض كتاباتهم- نود التشديد على أن عبدالقادر الجزائري شخصية عالمية، ونرجو أن تسلّط بحوثٌ قادمةٌ مزيدًا من الضوء على تأثير هذه الشخصية الأدبي والفلسفي في الأدب الأوربي من وقته إلى هذا اليوم.
الهوامش:
1 Le poème “Orientale” dans le recueil Les châtiments (1853).
2 Wrote extensively about Abd el-Kader’s military and political strategy in Writings in Empire and Slavery .
3 “Abd-el-Kader at Toulon, or The Caged Hawk” (1848) – William Makepeace Thackeray .
4 Abd el-Kader (1840) by Adolph Vilhelm Dinesen, 1807-1876.
5 Trente-deux ans à travers l’Islam, 1832-1864 Tome Premier: Algerie — Abd-el-Kader.
6 (Durivage 1881, 156).
7 Le Fort Lamalgue à Toulon – Fort de Malbousquet à Toulon.
8 Général Eugène Daumas.
9 Kiser 2008, 251 .
10 Général Louis Juchault de Lamoricière.
11 Henri d’Orléans, duc d’Aumale – وكان ايضاً الحاكم العام للجزائر من شتمبر 1847 إلى فبراير 1848.
12 Pau .
13 Alphonse de Lamartine.
14 Madame la Maréchale, La Marquise de Grouchy.
15 Kiser 2008, 253-255.
16 Kiser, 263.
17 Louis-Eugène Cavaignac.
18 Château d’Amboise.
19 Abd-el-kader Au Château D’amboise : Dédié À M. Louis-Napoléon Bonaparte,… (2e Édition) / Par Mgr Ant.-Ad. Dupuch. Impr. de H. Faye (Bordeaux, 1849. Internet resource.).
20 <<dans la modestie de sa conversation, vous ne soupçonniez point assurément cet héroïque caractère>> (Dupuch 1849, 110).
21 “Les chevaux du Sahara et les mœurs du désert.” La Bibliothèque numérique mondiale: https://www.wdl.org/fr/item/17255/
22 grand croix de la légion d’honneur.
المصدر: مجلة الفيصل- جولاي بلالاك - باحثة أميركية | يناير 1, 2019 |