الشيخ عبد الحليم بن سماية
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
الشيخ عبد الحليم بن سماية المتوفى في 4 جانفي 1933 هو علم من أعلام الجزائر الذين كانت لهم بصمات في الحياة الثقافية وتأثيرات عميقة في بعث الحركة الإصلاحية في الجزائر في الثلث الأول من القرن العشرين.
ويشكل مع مجموعة من العلماء أمثال عبد القادر المجاوي، مصطفى بن الخوجة، أبو القاسم الحفناوي، صالح بن مهنا، المولود بن الموهوب، حمدان الونيسي الصفحة الأولى في سجل الحركة الإصلاحية الجزائرية.
فكان لهم فضل السبق في شق الدرب الذي سار عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس وأصحابه وتلامذته.
مساره:
ولد الشيخ عبد الحليم بن سماية في عام 1866 بالجزائر. وكانت هذه المدينة تضم عددا كبيرا من المساجد، وكانت ساحة الشهداء بالخصوص زاخرة بالجوامع التي تقدم فيها الدروس في مختلف العلوم الشرعية، يشرف عليها نخبة من العلماء. ففي هذه البيئة تربى وعاش عبد الحليم بن سماية طفولته وشبابه؛ فتلقى تعليمه الأساسي على يد والده الشيخ علي بن سماية بجامع سفير.
ودرس اللغة العربية والعلوم الشرعية على الشيخ السعيد بن زكري، وعلم الفلك والتاريخ على الشيخ أبي القاسم الحفناوي صاحب الكتاب المفيد “تعريف الخلف برجال السلف”. ثم انتقل إلى تونس لدراسة الفلسفة على يد الشيخ محمد بن عيسى الجزائري.
وفي عام 1896 عيّن مدرسا بالمدرسة الرسمية الثعالبية، ثم استخلف والده بالجامع الكبير في عام 1900 في تعليم القرآن والعلوم الشرعية واللغوية. فدرّس “دلائل الإعجاز” و”أسرار البلاغة” للجرجاني، و”المفصل” للزمخشري، و”البصائر النصيرية في المنطق” لابن سهلان، “الاقتصاد في الاعتقاد” لأبي حامد الغزالي، و”تلخيص المفتاح” للقزويني.
وكان من أبرز تلاميذه والملازمين لدروسه العالم والمحقق الدكتور محمد بن أبي شنب، الدكتور محمد بن العربي أول جزائري تحصل على شهادة الدكتوراه في الطب، والشيخ عبد الرحمان الجيلالي المؤرخ والفقيه المعروف.
تراثه العلمي:
نشر الشيخ بن سماية رسالة عن الربا في سنة 1911 بعنوان:”اهتزاز الأطواد والربى في مسألة تحريم الربا”، لكن لم يبقى لها أثر. ولحسن الحظ اطلع عليها تلميذه الشيخ عبد الرحمان الجيلالي، وقال عنها: ” هي رسالة غزيرة المادة في موضوعها. استوعب فيها المؤلف أصول هذا الباب، دعا فيها علماء الإسلام قاطبة إلى تحمل مسؤولياتهم أمام هذا الموضوع الهام”.
ونشر كتابا آخر في سنة 1913 بعنوان: “الكنز المكنون”.
واهتم بالفلسفة والمنطق حتى صار ملما بمداخل هذا العلم وعارفا بأسراره. وقال في هذا الشأن الأستاذ أحمد توفيق المدني الذي سأله أن يحدثه في المنطق، فأجاب: ” خذ ورقة واكتب: وسرعان ما أهذت الورقة والقلم، وأخذ يملي عليّ بلهجة علمية قاسية وفصاحة عربية نادرة وصوت جهوري تناسقت نبراته كما تناسقت عباراته، خلاصة وافية لعلم المنطق، بتعريفاته، وكلياته، وأقسامه وأمثاله، وأطال الإملاء وأطلت الكتابة إلى أن ملأت عشر ورقات، وكلت يدي من الكتابة، وقلت بعد ساعة: يكفي هذا الدرس الأول ولنترك الدرس الثاني إلى فرصة أخرى.”
وشارك الشيخ ابن سماية في المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين في عام 1905 بالجزائر، وقدم بحثا بعنوان: “الحضارة الإسلامية والفلسفة”.
وكان مهتما أيضا–على غير عادة علماء عصره- بمقارنة الأديان، فكان يقرأ الإنجيل والتوراة ويجادل علماءها.
وكتب الشيخ عبد الحليم بن سماية في بعض الصحف العربية الجزائرية: المغرب (1903-1904)، كوكب إفريقيا (1907 -1914)، الإقدام (1920-1923) باسمه الحقيقي وبأسماء مستعارة.
ولا ندري إن كتب في الجرائد التونسية: “الوزير” و”المشير” و”الحاضرة” التي نشر فيها المثقفون الجزائريون مقالاتهم وأشعارهم خاصة في بدايات القرن العشرين قبل بروز جرائد عربية حرة بالجزائر.
وقد وعد الشيخ عبد الحليم بن سماية صديقه الشيخ محمد الخضر حسين (1873-1958) بالكتابة في مجلة هذا الأخير التي تسمى “السعادة العظمى” حينما دعاه هذا الأخير للمساهمة في هذه المجلة بمقالات وبحوث.
فقد أعجب بأفكار ابن سماية ودروسه وتمنى أن يدوّنها حتى لا تضيع ويحرم منها كثير من الناس. فأفكار الشيخ بن سماية التجديدية ومعارفه العلمية الواسعة جديرة بأن يطلع عليها القراء في الجزائر وفي البلدان الإسلامية الأخرى.
ولا ندري بالضبط إن كاتبه أم لا. وسنتحقق من ذلك حينما يعاد نشر هذه المجلة في المستقبل القريب كما وعدنا بذلك الأستاذ القدير علي الرضا الحسيني ناشر موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين.
لقد قمنا من جانبنا بالبحث في الصحافة العربية الجزائرية لعلنا نعثر على مقالاته المختلفة في الدين والحياة. لكن للأسف لم نجد إلا مقالات قليلة في جريدة “المغرب” و “كوكب إفريقيا”.
لقد أحصينا له 7 مقالات في جريدة “المغرب” خصصها لموضوع الجاذبية. كما نشر في جريدة كوكب إفريقيا” 3 مقالات عن التصوف، حاول من خلالها الجواب عن الفرق بين التصوف والصوفية.
ونوّد أن نؤكد هنا أن هذه المقالات لا تعبر بدقة وشمولية عن الحجم الحقيقي لهذا العالم الجزائري الكبير، خاصة ما تعلق بأفكاره في مجال الفلسفة.
مكانته العلمية:
كان الشيخ عبد الحليم بن سماية يشد إليه الرحال. فزاره العلماء الذين كانوا يوفدون على الجزائر العاصمة من المناطق الداخلية أو من خارج البلاد. فقد استقبل الإمام محمد عبده خلال زيارته إلى الجزائر عام 1903. ونملك اليوم صورة التقطت للرجلين مع بعض علماء وأعيان العاصمة.
ويرى الباحث الدكتور علي مراد أن بن سماية هو أكبر المتأثرين بأفكار محمد عبده وسعى من خلال منصبه بالمدرسة الثعالبية إلى الترويج لها بين طلبته الموجهين نحو الوظائف الإدارية والقضائية والدينية.
كما راسل الإمام عبده بعد رجوعه إلى مصر. ونشر الشيخ محمد رشيد رضا هذه الرسالة مع قصيدة في كتابه “تاريخ الإمام”.
وقال فيها الشيخ بن سماية عن الشيخ محمد عبده:” هذا الرجل الجليل رجل حنكته تجارب الزمان، واستقصى أحوال الأمم حتى ميّز منها ما زان وما شان، وتطلع من الفنون على اختلاف أنواعها، ومواضيعها، وأعمل فكره أعمق تفكر وتدبر في الحبل المتين والقرآن المبين.”
وزاره أيضا العالم الزيتوني الشيخ محمد الخضر حسين في سنة 1904 في رحلته إلى الجزائر. وكتب عند عودته إلى تونس عن إعجابه بشخصية الشيخ ابن سماية وعلمه.
وقال في هذا الصدد: “التقينا بالشيخ عبد الحليم بن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلى ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر.” وجالسه في بيته في مسامرة دامت 6 ساعات.
ويقول الشيخ الخضر بعد هذه المجالسة: “كلام يشهد لصاحبه بسلامة الذوق والولوع بالكشف عن أسرار المسائل دون الاكتفاء بتصوراته المجردة.”
مواقفه السياسية:
يشكل الشيخ عبد الحليم بن سماية مع مجموعة من العلماء والمثقفين كالشيخ عبد القادر المجاوي والشيخ المولود بن الموهوب وعمر بن قدور وعمر راسم… كتلة المحافظين التي تعاطفت مع فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.
وتعاونوا مع مجموعة من السياسيين المتنورين أمثال محمد بن رحال وأحمد بوضربة والشريف بن حبيلس للمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعليمية والسياسة للجزائريين؛ فطالبوا بإلغاء قانون الأهالي وإعادة نظام القضاء الإسلامي، واحترام التقاليد الجزائرية، والسماح لهم بحرية التنقل والسفر خاصة إلى المشرق العربي.
تزعم الشيخ عبد الحليم بن سماية حركة المعارضة لقانون التجنيد الإجباري. فترأس جلسة يوم 25 جويلية 1911 بقاعة المجلس البلدي بالعاصمة، وحضرها أعيان المسلمين وتحدث باسم الوفد معربا عن رفضهم الجميع لمشروع التجنيد الإجباري.
ونملك اليوم معلومات دقيقة عن هذه الجلسة ومداخلة الشيخ بن سماية بفضل المقال الذي نشره الصحافي والمصلح الجزائري المعروف عمر بن قدور في جريدة “الحضارة” الصادرة في آستانة بتركيا. وقد عثر عليه الدكتور صالح خرفي وأعاد نشره ضمن كتابه: “عمر بن قدور الجزائري” الصادر في عام 1984 عن المؤسسة الوطنية للكتاب.
ونذكر هنا هذه الفقرة من هذا النص وهي تكشف عن وقائع هذه الجلسة التاريخية: «تقدم واستدل بآيات قرآنية على أن المسلمين إذا أدوا الخدمة العسكرية للدولة الفرنسية لا يكونون مسلمين بجميع معاني الكلمة، ولا نالوا من الحرية ما يخول نبغاءهم التربع في دست رئاسة الجمهورية ودعا جنابه أن الحرية والحقوق السياسية إذا منحت للمسلمين مقابل تجنيدهم تكون هناك الضربة القاضية على القومية الدينية والسياسية إذ يقع اندماجهم بالأمة الفرنسوية نهائيا.»
وفي هذا الاجتماع أبدى الشيخ بن سماية معارضته للتجنيد الإجباري للاعتبارات الدينية والاجتماعية التالية:
– عدم قدرة المجندين المسلمين على ممارسة شعائرهم الدينية بإجبارهم على الإفطار في رمضان وتأخير الصلاة.
– محاربة إخوانهم المسلمين وهذا ما يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي.
– تحويل المجتمع الجزائري إلى مجتمع مكون من طبقتين متمايزتين: المجندون وغيرهم.
ونذكر أيضا من مواقفه الجريئة: إصداره لفتوى بعدم جواز محاربة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى لأنها مسلمة ويرتبط بها الجزائري برابطة دينية وولاء روحي بحكمها تمثل الخلافة الإسلامية.
ويرى المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون أن الحملة التي خاضها زعماء الأهالي على اختلاف منطلقاتهم وأهدافهم لم تحقق إلا مطالب قليلة تمثلت في سن الالتحاق بالجيش، وإعطاء بعض الصلاحيات للجماعة الفيلق المتقطع من عشائرها.
وفاته:
وتعرض الشيخ عبد الحليم بن سماية لمضايقات واضطهاد سلطات الاستعمار وأصيب جراء ذلك بمرض عقلي لازمه حتى وفاته في 7 رمضان 1351 ه الموافق ل 4 جانفي 1933 م، ودفن في مقبرة الشيخ عبد الرحمان الثعالبي.
وخصصت له مجلة “التلميذ” التي كانت تصدرها الجمعية الودادية للتلاميذ المسلمين بإفريقيا الشمالية عدة صفحات. وكتب عنه تلميذه الشيخ أبو عبد الله محمد الحسن الحجوي مقالا طويلا ذكر فيه جوانب من حياته وأعماله.
وقد وصفه بأنه كان «حسن المحاضر، فكه المجالسة، متين الدين…»
ونقلت مجلة “الشهاب” الإصلاحية خبر وفاته. كما وصفته بما يليق بمقامه الكبير وعلمه الغزير ونضاله المستميت في سبيل دينه ووطنه.
فهو في نظر الشيخ إبن باديس: «عالم عامل، غيور على دينه ووطنه مخلص لهما قضى حياته مدرسا بالمدرسة الثعالبية فبث روحا طيبة فيمن اتصلوا به من تلامذتها معظما محترما عند زملائه فيها وعند رؤسائها».
ثم أضاف: «رحمه الله وجازاه عن العلم وخدمته واحترامه والاعتزاز به خيرا وعزى أهله وأهل العلم فيه خير العزاء.»
وعلى الرغم من كل هذا التاريخ الحافل بالعطاء العلمي والنضال الوطني لم ينل بعد الشيخ عبد الحليم بن سماية حقه من الدرس والبحث. فليس في حدود علمي كتاب خاص أو رسالة جامعية خاصة عنه.
وهذا حال العديد من رواد الإصلاح الديني في الجزائر المعاصرة.
ورجاؤنا أن تحل علينا بعد سنتين الذكرى الثمانون لوفاته والباحثون الجزائريون قد أعدوا لهذا الرجل ما يستحق من الاهتمام والبحث والدراسة.