الجِيْلَالِي..
بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-
منذ الصِّبَى ونحن نُشاهدُ فضيلةَ الشيخ عبد الرحمن الجيلالي في التلفاز مساءَ الجمعة في حصة للفَتَاوَى.. وأحيانا يُشاركه فضيلةُ الشيخ أحمد حَمَّانِي .. رحمهما الله تعالى .
والحصةُ أسئلةٌ دينية واستفسارات شرعية تُرسلُ إلى البرنامج، ويأتي الشيوخ وقد أعدوا إجاباتها..فلم تكن بطريقة السؤال المباشر..
كما عُرضت له في التلفاز بعض المحاضرات التي شَارَكَ بها في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر..
فمنذُ الصِّغَرِ وصورةُ الشيخ منطبعة في الذهن.. ذلك العالم الهادئ، بعربيته المتئدةِ، ونَبْرةٍ جزائريةٍ..ولباسٍ بسيطٍ، وجسمٍ نحيلٍ غارقٍ في سُتْرَةٍ واسعةٍ، وعلى رأسه طُربوشٌ أسودُ شِتَائِيٌّ مُتَطَاوِلٌ، مع نظاراته الكبيرةِ، سميكةِ الزُّجاج..
وفي مرحلة الشباب عرفتُ أن الشيخ مُؤَرِّخٌ أيضا، وهو أحد أصحاب الموسوعات التي تناولت تاريخ الجزائر منذ القدمِ إلى عام الاستقلال 1962..
لكن لم أَحْظَ بلُقْيَاه المباشر إلَّا في عام 2010.. حيث وَفَّقَني اللهُ جل جلاله لزيارته رُفْقَةَ أخي الشيخ محمد بو ركاب بترتيبٍ من أخي الشيخ مصطفى بن عبد الرحمن ووالدِهِ الحاج المداني بن عبد الرحمن حفظه الله تعالى، الذي تربِطُهُ صداقةٌ قديمةٌ متينةٌ بالشيخ الجيلالي رحمه الله تعالى .
فالحاج المداني بن عبد الرحمن من الدِّيْس بمدينة بوسعادة، والشيخ الجيلالي درس في العاصمة عند أحد أعلام الدِّيس وهو الشيخ أبي القاسم الحفناوي، صاحب كتاب "تعريف الخلف برجال السلف" عن أعلام الجزائر، المتوفَّى عام 1943م..رحمه الله تعالى .
زُرنا الشيخ الجيلالي في بيته بالعاصمة فرَحَّبَ بزُوَّارِهِ بحرارةٍ وبَشَاشَةٍ..
أَخْفَينا تَأَلُّمًا على حالِ الشيخ الذي كان يَستعين بمثل هذه الكراسي المعاصرة التي يَستند إليها الكبارُ عند المشي والتنقل..فقد بلغ من الكبر عتِيَّا مع آثار الصعوبات التي مَرَّ بها أثناء تقلبات الحياة..
كان قمة في التواضع، تشعر عند مجالسته كأنك تُجالس جدَّك، بلمسات حنانه، ومداعباته لأحفاده.. مع احترام بليغِ لما علم بدراستنا الشرعية فصار يسألنا بكل تواضع.. من ذلك عن التحقيق في مسألة تحريك الأصبع في التشهد عند المالكية..
ثم استخبر عما صدر لنا من كتب.. فلما وصل دَوري أخبرتُه عن تحقيق منظومة "طلعة الأنوار" في مصطلح الحديث لسيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم الشنقيطي، التي اختصر فيها ألفية العراقي، و"الخزائن السنية في كتب فقهائنا الشافعية" للشيخ عبد القادر المنديلي.. وتكلمنا قليلا عن هذا الكتاب..
وبعد دردشات ممتعة مع فضيلة الشيخ حان وقت توديعه..فقام لتشييعنا رغم إلحاحنا على بقائه قاعدا وعدم تجشم عناء ذلك..لكنه أَصَرَّ على القيام بذلك بنفسه ..
وطلب من أخ فاضل يقوم على خدمةِ الشيخِ اسمُهُ "إسماعيل" أن يسلمنا هَديةً نسخةً من الطبعة الجديدة لكتابه "تاريخ الجزائر العام" في 6 مجلدات، بينما طبعته القديمة في 4 مجلدات.. لكن لكثرة صناديق الكتب صَعُبَ على "إسماعيل" استخراجها.. فوعدنا بإرسالها في أقرب فرصة..
وكان الشيخ يُمازح الأخ "إسماعيل" بهذه الأبيات:
طَرَقْتُ البابَ حَتَّى كَلَّ مَتْنِي *** فلَمَّا كَلَّ مَتْنِي كَلَّمَتْنِي
فقالت: يا إسماعِيلُ صَبْرَا *** فقُلتُ لها: يا أَسْمَا عِيلَ صَبْرِي
والأبيات للشاعر المصري "إسماعيل صبري"، وهي من أمثلة الجناس التام في البلاغة العربية..
كان هذا أوَّلَ لقاءٍ بفضيلة الشيخ المعمَّر عبد الرحمن الجيلالي..وللأسف آخرَهُ أيضا.. فقد توفي رحمة الله تعالى بتاريخ 12 نوفمبر 2010..بعد زيارتنا له بشهرين في سبتمبر 2010 ..انتقل إلى رحمة ربه الرحمن عن عمر ناهز 102 عاما.. فقد ولد عام 1908م.
سبحان الله مَرَّتْ عشرةُ أعوام على تلك الزيارة.. وكأنها كانت بالأمس..
صدق جبريل عليه السلام فيما قاله لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: «يا محمد عِشْ ما شئت فإنك ميِّت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه.. » .