محرّر تاريخ المغرب الكبير.. الشّيخ محمد علي الدّبّوز
محمد بن قاسم ناصر بوحجام

محرّر تاريخ المغرب الكبير.. الشّيخ محمد علي الدّبّوز

بقلم: أ.د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام -

الشّيخ محمّد علي الدّبوز من مواليد مدينة بريّان، ولاية غرداية، الجزائر  سنة 1337هـ/ 1919م، زاول دراسته الابتدائيّة في مسقط رأسه على يد الأستاذ صالح بن يوسف ابسيس، وفي أواسط الثّلاثينيّات انتقل إلى مدينة القرارة، لينضمّ إلى معهد الشّباب (معهد الحياة). تلقّى دروسه فيه على الأستاذ الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض (ت1401هـ/ 1981م) والأستاذ الشّيخ عدّون سعيد بن بالحاج شريفي ( ت 1425هـ/ 2004م) وغيرهما.

وفي أوائل الأربعينيّات غادر القرارة، متوجّهًا إلى تونس للاستزادة من المعرفة. ومنها إلى القاهرة حوالي سنة 1944م، وذلك في مغامرة كبيرة، والحرب العالمية الثّانية قائمة، والصّراع مستحكم بين الحلفاء ودول المحور، وقد قطع الحدود بين تونس وليبيا إلى القاهرة؛ مشيًا على قدميه..

في سنة 1948م انضمّ إلى أسرة التّعليم بمعهد الحياة، ليشتغل مدرّسًا لمادتي التّاريخ والأدب. وبقي في هذا الميدان إلى شهر جوان 1981م، حيث أقعده المرض الفراش،اشتدّ عليه ، حتّى توفّاه الله يوم الجمعة 01 من محرّم 1402هـ الموافق لِـــ 13 من نوفمبر 1981م.
عرف عنه أساتذته وأصدقاؤه الرّغبة في التّلقّي، والحرص على التّحصيل؛ منذ عرفوه طالبًا، وعرفوا عنه الإخلاص في العمل؛ منذ عرفوه أستاذًا مربّيًا.

كان للأستاذ قلمٌ سيّال، ومقدرة كبيرة على تحرير الفصول الأدبيّة، وكتابة المقالات المطوّلة، وقد تجلّى هذا بوضوح على صفحات "جريدة الشّباب "(1)، التّابعة لمعهد الحياة،  كان الطّلبة ينشرون فيها مقالاتهم. وكان المرحوم – وهو طالب – ممّن أسهم إسهامًا كبيرًا في تطويرها؛ إذ كان يشارك فيها باستمرار بمقالات في الأدب والنّقد والتّاريخ...ومن أمتع ما يمكن للقارئ أن يطّلع عليه في هذه الجريدة المعاركُ الأدبيّة التي كانت تدور بين الطّالبين (الأستاذين) عليّ يحي معمّر (ت 1400ه/1980م ومحمد عليّ دبّوز. وهي تندرج ضمن المعارك، التي كانت تدور بين العقّاديّين والرّافعيّين، وهي سلسلة مقالات كان لها دور كبير في تكوين الطّلبة أدبيًّا ولغويًّا.كما كانت للشّيخ أيضًا مشاركات عديدة في جريدة البصائر (التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) نشر فيها عدّة أعمال أدبيّة، وغيرهما من الجرائد.(2)

الشّيخ محمد عليّ دبّوز إلى شخصية مرحة، تميل إلى النّكتة والطُّرفة والدّعابة الظّريفة. وكم كنّا نتمنّى – ونحن طلبة – أن نلتقي معه في قاعة الدّرس، أو يجمعنا به مجلس ليمتعنا بجانب من طرائفه، أو يسمعنا بعضًا من نوادره المسلّية. كما كان الأستاذ مثالا للنّظام والانضباط، والحرص على الوقت، والمحافظة على المواعيد؛ حتّى أصبح مضرب الأمثال في هذا المضمار.

لقد حمل المرحوم على كاهله عبئًا ثقيلاً، تمثّل في محاولة جادّة لإعادة كتابة تاريخ الجزائر والمغرب الكبير، وإنقاذه من الضّياع والتّشويه. فبعد مرحلة التّحصيل انكبّ على التّأليف، وأعطى كلّ نفسه ووقته، بل وضحّى براحته وصحّته في هذه السّبيل، يبحث وينقّب ويكتب، هدفه الوحيد تبصير الأجيال بتاريخهم المجيد، وإزالة الغشاوات التي رانت وترين عليه.  

كان عمله شاقًّا؛ لأنّ المصادر كانت شبه منعدمة، وما كُتِب عن المغرب الكبير كان بأقلام مغرضة، وبأساليب ملتوية، مشوّهة للحقائق، لأنّ كتّابه كانوا إمّا مستعمرين أو مستشرقين حقودين على الإسلام والعرب، أو جاهلين للتّاريخ. يقول الأستاذ أنور الجندي: "...وقد صوّر المؤلّف كيف كان هذا العمل صعبًا كلّ الصّعوبة، وكان طريق هذه العهود مطموسًا، والسّبل غير معبّدة، وأغلب من كتبوا في تاريخ المغرب من المحدثين قد اغترّوا بالمصادر المزيّفة، فردّدوا أغلاط المؤرّخين القدماء، فكان عليه أن يكتب فصولاً جديدة؛ معتمدًا في ذلك المصادر الصّحيحة، وإن كان يسلك طريقًا غير معبّدة"(3)

هكذا وجد الأستاذ محمد عليّ دبّوز نفسه أمام مسؤولية عظيمة، وعمل مُضنٍ. كان عليه أن يشمّر عن ساعد الجدّ، ويكثر التّرحال والتّجوال، ويطيل المكوث في المكتبات، ويديم الجلوس إلى الأساتذة والمشايخ، ومن عاصر الأحداث، أو شارك فيها. وقد كانت مصادره بشريّة في كثير ممّا جمع من المادّة التّاريخيّة.

أمضى مدّة طويلة؛ متنقّلاً بين المكتبات العامّة والخاصّة، في كلّ من الجزائر وتونس ومصر وغيرها؛ باحثًا ومنقّبًا في المخطوطات والمطبوعات، ومقارنًا بنفسيّة المؤرّخ الباحث المدقّق، حتّى تمكّن من إخراج كتابه القيّم:" تاريخ المغرب الكبير "، الذي كان له صدًى كبير في الأوساط العامّة والخاصّة. وقد استقبل أحسن استقبال؛ إذ كتبت عنه الصّحف والمجلاّت في مختلف أقطار الوطن العربي، وتحدّثت عنه الإذاعات، وقرّظته ونوّهت به وبأهمّيته، وعدّته موسوعة، كما ارتأى تسميته بذلك كلّ من الأستاذين محمد عطية الأبراشي وأنور الجندي. ويكفيه شرفًا انّه أوّل كتاب عربي جزائري يطبع بعد استقلال الجزائر.

في مقدّمة الجزء الثّاني من الكتاب يذكر الأستاذ محمد علي دبّوز الأسباب التي دفعته إلى تأليف الكتاب: "...عزمت أن أكتب شيئًا في تاريخ المغرب الكبير بأسلوب أدبي وتحليل فلسفي، وببحث علمي نزيه، يليق لمطالعة مثقّفينا، ويكون مرجعًا ومصدرًا لجامعاتنا ومدارسنا، ويصفّي أبواب تاريخ المغرب التي كدّرتها ودنّستها أكاذيب السّياسة القديمة، ودعايات المستعمرين وسمومهم، فصارت خطرًا على المغرب، ومنبعًا للسّموم، التي تكدّر صفاءَه، وتفرّق جماعته، وتُمكِّن الحسّاد والدّسّاسين من بثِّ الفرقة والشّقاق في مغربنا الحبيب، فكتبت في سنة (1370 – 1372هـ) (1951 – 1953م) مسوّدة الأجزاء الثّلاثة الأولى من " تاريخ المغرب الكبير"، فصرت أفكّر في طبعها، ولكنّني أبيتُ أن أفرغها في القالب النّهائي وأعدّها للطّبع قبل أن أقوم بجولة واسعة ...لأطّلع على كلّ ما أستطيع الاطّلاعَ عليه من كتب تاريخ المغرب، سيّما المخطوطات القديمة، فزرت في عطلة الرّبيع سنة (1373هـ/ 1954م)خزائن كثيرة من المخطوطات، لا زالت محفوظة في جنوب الجزائر، لم تمتدًّ إليها أيدي الاستعمار، التي جردّت المغرب من كتبه القديمة، ومن مؤلّفات أجدادنا في التّاريخ، فوجدت فيها كتبًا من الكتب المخطوطة، ومن الوثائق التّاريخية شيئًا كثيرًا ممّا أريد، ثمّ عزمت على زيارة مكاتب تونس الخضراء ودار الكتب المصرية في القاهرة، وكان الاستعمار الفرنسي قد ضرب الأسوار الحديدية بين الجزائر والقاهرة والأقطار العربية... وبعد مساعٍ ووقتٍ طويل، وقلق كبير حصّلت على تأشيرة الدّخول إلى مصر، على أنّي مارٌّ إلى الحجاز...فسافرت في أوّل العطلة إلى تونس، فمكثت شهرًا في مكتبتها الوطنيّة، وفي المكتبة العبدليّة واطّلعت فيهما على كثير من مصادر تاريخنا، ثمّ وصلت دار الكتب المصريّة في القاهرة...فوجدت كلّ ترحيب وإجلال ومساعدة، فكنت أطلب أحيانًا عشرين مجلّدًا، فيسرعون بها إليّ...فوجدت الكثير ممّا أريد، فاطّلعت على المهمّ منه، سيّما المخطوطات والكتب المطبوعة النّادرة الوجود..."(4)

الكتاب تناول تاريخ المغرب كلّه بأقطاره الأربعة: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى. الجزء الأوّل: شمل العصر الحجري إلى الفتح الإسلامي. الجزء الثّاني: كان عن الفتح الإسلامي والعهد الأموي في المغرب. الجزء الثّالث: خصّص للعهد العبّاسي والدّول الإسلامية المغربية المستقلّة.

تجدر الإشارة إلى أنّ الأستاذ محمد علي دبّوز قد سُبق في هذا المجال – على الأقلّ – بما كتبه الأستاذان مبارك الميلي وأحمد توفيق المدني، وكذلك ما كتبه الأستاذ عثمان الكعّاك وغيرهم. ولكن كما يقول الأستاذ أنور الجندي: "وتختلف هذه المؤلّفات عن كتاب تاريخ المغرب الكبير في أمرين:
الأوّل: هو أنّ أغلب هذه المؤلّفات موجزة، وكتبت في ظلّ الاحتلال والحماية، فلم يكن من اليسير أن تتوسّع في كثير من المجالات، مع التّحفّظ في العبارة. وإن كانت ميزتها أنّها كتبت لإيقاظ العقلية المغربيّة والرّدّ على ادّعاءات كتّاب الغرب في وقت المعركة.

الثّاني: أنّ محمد علي دبّوز(الجزائري) لم يكتب تاريخ الجزائر، إنّما كتب تاريخ المغرب العربي الكبير، بأقطاره الأربعة، على نحو مستفيض، وأنّه أصدر ألف صفحة ليصل إلى ختام حكم الدّولة الرّستميّة، في نهاية القرن الثّالث الهجري... ويضاف إلى هذه الميزة ميزة أخرى هي اتّساع مجال البحث بالمراجعة الكاملة، وحريّة الكلمة في مواجهة ادّعاءات الغربيّين بشأن تاريخ المغرب العربي" (5)

بعد هذا الكتاب طلع الأستاذ محمد علي دبّوز على القرّاء بسلسلة جديدة، تحت عنوان:"نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة" في ثلاثة أجزاء. أرّخ فيها النّهضة الجزائريّة، تناول فيها أسباب النّهضة وعواملها وأهمّ رجالها. وعرض مظاهرها، المتمثّلة في حركات إصلاحيّة ومدارس ومعاهد تعليميّة، وزوايا دينيّة، وجمعيّات خيريّة ثقافيّة، ونوادٍ أدبيّة، ومؤسّسات اجتماعيّة، وغير ذلك. والأجزاء الثّلاثة تمثّل الأدوار الثّلاثة التي مرّت بها النّهضة الجزائريّة، حسب رأي المؤلّف.

بعد ذلك أخرج الأستاذ سلسلة أخرى، سمّاها " أعلام الإصلاح في الجزائر من عام 1340 هـ/ 1921م إلى عام 1395هـ/ 1975م "، في أربعة أجزاء، ترجم فيها لبعض زعماء الإصلاح في الجزائر، ممّن كانت لهم إسهامات مهمّة، بل أدوار كبيرة في النّهضة والإصلاح. تتبّع حياتهم بشيء من التّفصيل والتّحليل العميق لأعمالهم، في كلّ المجالات والأصعدة التي نشطوا فيها؛ مسجّلا بطريقة مطوّلة ومستفيضة الأطوار التي مرّت بها حياتهم، معلّقًا على الظّروف التي تقلّبوا فيها: من اجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة... شارحًا مواقفهم المشرّفة، ودورهم في الجزائر والعالم الإسلامي...

بدأ بعد ذلك في إعداد سلسلة جديدة، سمّاها " الإصلاح والمصلحون في الجزائر"(6)، وانتهى – فعلا – من إعداد الجزء الأوّل، وكان في صدد مراجعته، قبل أن يمنعه المرض من مواصلة عمله، وأن يسلمه الموت إلى الرّاحة الأبديّة. قيّض الله من يكمل مسيرته، ويحمل الرّاية من بعده. (7)

هكذا ذهب أستاذنا إلى ربّه قرير العين، مرتاح الضّمير، وقد أدّى ما عليه، وقدّم للأجيال تاريخهم صافيَا من أغلاط المغرضين، وأباطيل الحسّاد، وشطحات المستشرقين. وأيقظ النّفوس الخاملة من سباتها العميق؛ لتنهض كي تقوم بواجبها نحو تراثها وأمجاد آبائها.

إنّ شيخنا – حسب رأيي – قد وفّق  - إلى حدّ بعيد - في رسم الطّريق لمن يأتي بعده كي يسير في نهجه، واستطاع أن ينقذ التّاريخ من الضّياع، ويربط الأجيال بالنّاصع من تاريخهم؛ حتّى يعتزّوا بشخصيّتهم التي حاول الاستعمار طمسها. فيكفي الأستاذ شرفًا أنّه مهّد الطّريق، وتحمّل العبء الثّقيل، واضطلع بمهمّة شاقّة. وهي كتابة تاريخ المغرب الكبير، بعد أن أزال عنه التّشويهات التي تسبّب فيها المستعمرون والمغرضون وأعداءالإسلام.. تغمّد الله شيخنا وفقيدنا برحماته الواسعة، وأسكنه فسيح جنانه.


 

المصادر:
1) نشر في جريدة الشّباب حوالي ستّ وستّين مقالة. ما بين شهر نوفمبر 1935 وشهر جوان 1942م ومقالين في مجلّة الشّباب.

2) نشر في جريدة البصائر الثّانية حوالي سبع وثلاثين مقالة، ما بين شهر جانفي 1948 وشهر مارس 1956م.

3) أنور الجندب، الفكر والثّقافة المعاصرة في شمال إفريقيا، ص:311.

4) محمد عالي دبّوز، تاريخ المغرب الكبير، ج2، ص: 28، 29.

5) الفكر والثّقافة المعاصرة في شمال إفريقيا، ص: 312.

6) أخبرنا بذلك في جلسة جمعتنا به في داره بالقرارة، أيّامًا قبل وفاته.

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.