الشيْخ عبد الرّحمن الجيلالي
بقلم: رشيد أوزاني-
وُلدَ عبد الرّحمن الجيلالي في أوائل القرْن الماضي في بولوغين بالجزائر العاصمة، في الثاني عشر منْ شهر نوفمبرمنْ عام 1908 م. ويمتدُّ نسبُه منْ جهةِ الأبِ والأمِّ، كما أخبرَ، إلى الأسْلافِ الصَالحين.
ولا شكّ أنّ نشأتَه في العاصمة قدْ أتاحتْ له فُرَصًا ثمينة، وهيَأتْ له ظروفا مُلائمة، فيَسَّرتْ له سبُلَ التَحصيل العلمي، فتتلْمذ على عُلماءَ أعْلام، أمثال : الشيْخ عبد الرّحمن بن سماية، والشيْخ المولود بن الزريبي الأزْهري، والشيْخ أبي القاسم الحفناوي ، والشيْخ محمَّد بن أبي شنب، وغيْرِهم، عليْهم جميعا رحمةُ اللهِ الواسعة .
لقدْ أظهرَ هذا الطّفلُ ميولا صادقة إلى التّعلُّم، فاتّخذ المساجدَ وحلقاتِها مناهلَ عذبةٍ، يرْتوي منها، فتدرَّج منْ رُتبة إلى رتْبة، وارْتقى في درجاتِ اكتسابِ المعارف، فاسْتأنسَ واطمأنَّ في رحاب الجامع الكبير، وجامع سيدي رمضان، وجامع سيدي عبد الرّحمن الثّعالبي .
في هذا الأجواء المُتميّزة، قرأ القرآن الكريم، وأتقنَ المبادئ الأساسيّة للغةِ العربيّة، ثمّ تفرّغ لدراسةِ عُلومِ عصْره، فحفِظ مسائلَ الفقْه، وجالَ في التّفسير، وفهِمَ الحديثَ، وولعَ بالتَاريخ، وتأثّرَ بالأدب .
أفخِرْ به، إنّه لم يلتحقْ بمعهدٍ عالٍ، ولمْ يُسجّلْ في كليّةٍ أوْ جامعةٍ، ولمْ يُسافرْ إلى جامع الزّيْتونة بتونسَ، أوْ إلى جامع القرويّين بفاس، أوْ إلى الأزهر الشّريف بالقاهرة، ولكنّه عُدَّ من العِصاميّين المُتفوِّقين الموْهوبين .
نشاطُه :
منَ الطّبيعي أنْ يَجنحَ عبدُ الرّحمن الجيلالي بعد سنواتِ الدّراسة إلى النّشاط العملي، فانضمَّ إلى مدرسةِ الشبيبةِ الإسْلاميّة مُعلِّما، واتّسعَ وقتُه للتّدريس في المساجدِ والمدارسِ الحُرّة، مُوجِّها وواعِظا ومُدرِّسًا لصحيح الإمام البُخاري، فالتَقى بأعضاءَ منْ جمعيّةِ العُلماءِ المسْلمين المُقيمين في العاصمة. وكانَ له حضورٌ في نادي التّرقّي، بساحة الشـُّهداء، الزّاخر بالنّدواتِ والمُحاضراتِ، في الدّين والفكر والأدب والتّاريخ وغيْر ذلك .
ولم يكُنْ هذا الشّابُّ المُمتلئُ حيويّةً وحماسًا، منْ هؤلاءِ المُتعلِّمين والمثقّفين الذين يتقوْقعون في تخصُّصٍ معيَّن، أوْ مجالٍ وحيد، فيسْجُنونَ العقولَ المُبدِعَة، ويقصّونَ أجنِحةَ المواهبِ، بلْ وسِعتْ ملكاتُهُ عُلومَ الدّين، والتّاريخَ، والأدبَ والفنون، وامتدَّ يَراعُهُ إلى الدّوريّاتِ والمجلاّتِ، فنشرَ فيها مقالاتٍ مُتنوِّعةً، قبْل الاسْتقلال وبعْدَه .
إنَّ صِلاتِهِ وثيقةٌ بالعُلماءِ والأدباء والفنّانين، فعاشرَ الشّاعر محمَّد العيد آل خليفة، والمؤرّخ توفيق المدَني، والرّسّام عمر راسم. لقدْ مُنحَ شخصيّة خِصْبةً، مُتّزنة ، قِوامها الانسِجامُ والتّكامُل، فاسْتوَتْ عنده المنابر والمِنصّات. وفي عقدِه الرّابع فتحتْ له الإذاعةُ بابَها على الواسِعَ على مِصْراعَيْه فاسْتحسنَ النّاسُ برْنامجَه: "لكلِّ سُؤالٍ جواب"، واسْتفادوا منْ صفحاتٍ في التّاريخ مُشرقةٍ، ثمّ اسْتقطبَهمْ في برنامَج جديدٍ: "رأيُ الدّين في أسئلةِ المُسْتمعين"، فوجَدوا في مضامينِه الإجاباتِ الشّافيَة ، حيْثُ بيَّنَ لهم الأحكامَ الشّرعيَةَ، في مسائلَ هامّةٍ، تخُصُّ عباداتِهمْ ومُعاملاتِهمْ .
فبفضْل هذا البرْنامَج الدّيني صاحَبَ المُسْتمعين من الجزائريّين والجزائريّات إلى سماحةِ الدّين، ودلّهُمْ بأسْلوبٍ شيِّقٍ راقٍ على أحْكامِه السّامية، ومبادِئهِ السّمحة العادِلة، وبذلك ساهمَ بفعاليَة في ترْسيخ الأصالة والشّخصيّة الوطنيّة .
فالشيْخُ الجيلالي، عليه رحمة الله الواسعة، متنوِّعٌ نشاطُه، جليلةٌ أعمالُه، له بصماتٌ باديَة في كلِّ ميْدان، يسودُ فيه الفكرُ والثقافة والتّربية والتّوجيه، فشرُفَ بالعُضويَة في ديوانِ حقوق التّأليف، وفي كثير من اللّجان، أسْماها لجنة الفتْوى التّابعة لقطاع الشّؤون الدّينيّة، وشاركَ في مُلتقياتِ الفكر الإسْلامي، مُحاضرًا ومُعقـِّبا، إلى جانبِ نخْبةٍ منْ العُلماء الكبار، أمثال الشيْخ محمَّد الغزالي، والشيْخ رمضان البوطي، والشيْخ يوسف القرضاوي .
وعندما أُسِّسَ المجلسُ الإسْلامي الأعلى كانَ من أعضائه الفاعلين، اعتبارا لعلمِهِ وفقهـِهِ .
آثـارُهُ :
ارْتبط اسْمُ الشيخ عبد الرّحمن الجيلالي في مجال التّأليف بكتابه القيِّم: "تاريخ الجزائر العام"، وهو مِنَ المراجع الأساسيّة في التّاريخ، لا يُمكن أنْ يَسْتغنيَ عنه طالبٌ أو باحثٌ، فيكْفى الشيْخ دِرايةً وفخرًا أنْ يجمعَ تاريخ الجزائر، عبر العصور، في مُجلدّات هذا السّفر الكبير .
وللشيْخ عبد الرّحمن الجيلالي مؤلّفاتٌ أخرى، وهيَ :
* تاريخ المدُن الثلاث: الجزائر، المدية، مليانة.
* ذكرى العلاّمة ابن أبي شنب.
* العُملة الجزائريّة في عهد الأمير عبد القادر.
* ابن خلدون في الجزائر.
وفـاتُــهُ :
صدقْتَ يا ربّنِّا العزيز، فكلُّ نفسٍ عنْ دار الفناء راحلة، وصدقْتَ يا رسولنا الكريم، عليْك منْ ربِّك صلواتٌ وسلام، فأنتَ القائلُ : "عشْ ما شئْتَ فإنّك ميِّت ".
لقدْ عشتَ أيُّها الشيْخُ الجليلُ أزيَدَ منْ قرْنٍ ، أيْ عشرةَ عقودٍ، وقدّمتَ خلالها أعْمالا نافعة للأجْيال، تجدُ خيرَها عند الله مُحْضَرًا، ولكنّ أجَلكَ دعاك إلى دار البقاء، فرحلْتَ عن العاجلة ليلة الخميس إلى الجمعة، وشُيِّعتْ جنازتك في مقبرة سيدي امحمّد بالجزائر العاصمة، في اليومِ السّادِسِ منْ ذي الحِجّة 1431هـ، المُوافِق اليوْم الثّاني عشر منْ شهر نوفمبر 2010م، في جوٍّ مهيب .
مكانةُ كتابِهِ: "تاريخ الجزائر العامّ "
اعْتبارًا لأهميّةِ هذا السّجّل التّاريخي، ونظرًا لإقبال القرّاء عليه، فقدْ طـُبعَ ثماني مرّات، مرّة في جزأيْن، ومرّة في أربعة أجزاء ، وفي الطبعة الثامنة طُبعَ في خمسةِ أجزاء .
شيْخُ المؤرِّخين أبو القاسم سعد الله يصِفُ الكتاب :
"... منْ حسناتِ كتابِ تاريخِ الجزائر العامّ أنّ الشيْخَ الجيلالي يمتلكُ ناصيَةَ اللّغةِ العربيّةِ ، ويكتبُ بأسْلوبٍ سهْلٍ مُسْترسلٍ، غيْرِ مُثْقلٍ بمُصْطلحاتِ العلوم الحديثةِ التي طغتْ على التاريخ، أو المتّصِلةِ بالتاريخ كالحديثِ عن المجْتمعاتِ والنّظريّاتِ الاقتصاديّةِ وأساليبِ الحُكْم وعِلمِ الاجتِماع. كما أنّ الشيخَ الجيلالي له ثقافةٌ إسلاميّةٌ عميقة، والْتِزامٌ بالنُّصوصِ الدّينيّةِ قرآنا وحديثا وفِقْها وتشْريعا، كما أنّه مُلتزِمٌ بالخطِّ الحضاري للجزائر الذي تُعبِّرُ عنه الثقافة العربيّة الإسلاميّة .
ويتميّزُ المؤلِّفُ عنْ غيره من الباحثين المُعاصرين بامتلاكِهِ مكتبةً هامّةً ومُسْتقرّةً لمْ تُزعْزعها – فيما – يبْدو الأحْداثُ التّي عصَفتْ بالجزائر. وفي هذه المكتبةِ وثائقُ ومخطوطاتٌ ونشراتٌ ومُؤلّفاتٌ نادرةٌ لا تتوفّرُ الآن لغيْره من المُؤلّفين غيرِ المُسْتقرّين، فهوَ ابْنُ مدينةِ الجزائر ومُؤسّساِتها الدّينيّةِ والتّعليميّةِ، وهو تلميذٌ لعَددٍ منْ شُيوخِها وعُلمائها ومُحافِظي أضْرحَةِ أوْليائها ، ومُتوَلّي الوظائفِ الرّسميّةِ وغيْرِ الرّسميّةِ فيها، المُتوارثين لتُراثِ الجامع الكبير والأوْقافِ ومكْتباتِ الخوّاص. كما أنّهُ عاصرَ الصّحافةَ المُعرّبةَ، سواء تلك التّي أسَّسها الفرنسيون كالمُبشِّر والمغرب وكوْكب إفريقيا، أو التّي أسَّسها الوطنيّونَ، أمثال الشِّهابِ والإقدام والبصائر والبلاغ الجزائري والنّجاح وصُحُفِ أبي اليقْظان .
مِنْ فضائلِ هذا الكتابِ أيْضًا ، وهي كثيرة ، أنّهُ يُعالجُ تاريخ الجزائر كوحْدةٍ سُكّانيّةٍ وجُغرافيّةٍ ، رغم صُعوبةِ ذلك في الفتْرةِ السّابقةِ للعهدِ العُثماني ..." .
ومِنْ أجمل ما قاله الدّكتور عمّار طالبي في تصْديره لهذه الطبعة :
" إنّ كتابَ : " تاريخ الجزائر العامّ " للشيْخ الجليل، والأستاذ الخبير، العلاّمة عبد الرّحمن بن محمَّد الجيلالي، لَمَورِدٌ لحياةِ الجزائر في مختلِفِ أطْوارِها ووجوهِها الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والعلمِيّةِ والدّينيّةِ والأدبيّةِ والتّقنيّةِ والاقتصاديّةِ والصِّناعيّة، مع تراجمَ مفيدةٍ لعباقرَةِ هذا الوطن، وعُلمائها وزُعمائها ، منذ أقدَم العُصور إلى أيّامِنا القريبةِ، سالِكا في ذلك منْهجًا علميّا، وما يقتضيه منْ أمانةٍ تاريخيّة وموضوعيَة، والاعْتمادِ على المصادر الموْثوقةِ ، والوثائقِ الثّابتة..."
ومِنَ الكلماتِ الخالدة التّي تصدُقُ على هذا المُؤرِّخ المُبدِع السّـبّاق، ما تضمَنّه تقريظ وثناءُ رائدِ الإصْلاح في الجزائر الإمام عبد الحميد بن باديس ، على المؤرِّخ الكبير الشيْخ مُبارك الميلي ، عند اطّلاعِهِ على كتابه المشهور: " تاريخ الجزائر في القديم والحديث " : " إذا كانَ مَنْ أحْيا أُمّةً واحدَةً، فكأنّما أحيا النّاسَ جميعًا، فكيْف مَنْ أحيا أمّةً كاملة ، أحْيا ماضِيَها وحاضرَها، وحياتَها عند أبْنائها، وحياةَ مُسْتقبلِها، فليسَ واللهِ كفاءُ عملِكَ أنْ يشكرَكَ الأفرادُ، ولكنَّ كفاءَه أن تشكُرَكَ الأجيالُ "
منْ أقوال الشيْخ عبد الرّحمن الجيلالي :
إذا أردْتَ أنْ تستمتِعَ بأسْلوبِ الشيْخ، فافتَحْ الجزْءَ الأوّلَ منْ كتابه: " تاريخ الجزائر العام "، واقرأ، مثلا، هذا الإهداء :
" باسمِكَ اللهمَّ، أتشرّفُ برفْع كتابي هذا ، وإهدائهِ إلى مقام رفعةِ حامِلِ قبَس الهداية الإسلاميّة، إلى هذه الدّيار، ومُنقذِها منْ وصْمةِ الكفر والعار ، والمُعلي فيها كلمةَ الله، والمجاهد في سبيل الله، إلى فاتِح إفريقيّة، وقاهِرِ القوّاتِ الرّومانيّة، وكاسِر عاديَةِ البيزنطيّة، إلى مُزلزِلِ أقْدام القياصرة ، وهازم جُيوشِ جحافلِ الأباطرَة ، ومُلوكِ البرابرة،
إلى روح ذلك البطلِ الخالدِ ، والأمير الفاتِحِ العظيم، ومفخرةِ أرْضِ الجزائر، ودُرّة تاج تاريخ مجْدِها ، في الحاضر والغابر، سيِّدِ الشّهداء: عُقبةَ بْنِ نافعٍ الفهْري، رضِيَ اللهُ تعالى عنه، إلى هذه الشخصيّةِ العظيمة، وإلى الأرْواحِ الجريئة الجبّارة : أرْواحِ أولئك الشهداء الفاتحين الأبْرار، أبْطال التّاريخ الجزائري الماجِد، ماضِيًا وحاضِرًا، وإلى روحيْ أبويَّ المُبجّليْن المرْحوميْن، أُقدِّمُ هذا الكتابَ المُتواضعَ "تاريخ الجزائر العامّ"، قاصدا بذلك لفْتَ نظرِ شبابِ الجزائر النّاهِض، وتوْجيهه إلى دراسةِ تاريخِه الحافِل الجزْل، لينْشأ على تقدير أعمال أسْلافِهِ، واحتِرام وطنِهِ، والتّأسّي بعُظمائه الكرام، وإنَّ في ذلكَ لَذِكْرى لمَنْ كانَ لهُ فقلبٌ أوْ ألْقى السّمْعَ وهوَ شهيدٌ . "
قالَ الشْيْخُ الجيلالي مُعرِّفا التّاريخ :
"... فهوَ علمٌ تُعرف به أحْوالُ الماضيين من الأمَم الخاليَةِ، منْ حيثُ معيشتهمْ وسيرتُّهم ولغتهم وعاداتهم ونظُمُهم وسياستُهم واعتقاداتُـهمْ وآدابُهم، حتّى يتِمّ بذلك أسْبابُ الرّقِيِّ والانْحطاطِ ، في كلِّ أُمّةٍ وجيل. فهو يتطلّبُ الإحاطةَ بتطوُّرِ الإنسان في المجْتمع خلالَ جميعِ العُصورِ وفي سائر البلاد. ومادّتُه أيْ العناصرُ الوجوديّةُ الضروريّةُ التي يتكوّنُ منها كثيرة متنوِّعة، أهمُّها الآثارُ القديمة من الأبْنيَةِ والهياكِل والأحْجار المنقوشةِ والمسْكوكاتِ المضْروبةِ والملابس والأزْياءِ والأدواتِ المنْزليّةِ، وغيْرِها منْ كلِّ ما هو منْ نوعِها مثل التّقاليد والعادات والأخبار والحوادِثِ المَرْويّةِ والدّواوين المجْموعةِ والوثائقِ الخطّيّةِ ، وكلّ ما تناقلَهُ الخلفُ عن السّلفِ، مُشافهةً أو مُشاهدةً، مع حُسْنِ نظرٍ وتثبُّتٍ، كما قال ابْنُ خلدون : يفْضيان بصاحبِهما إلى الحقِّ ، و ينكـُبان بهِ عن الزّلاّتِ والمَغالِط " .
ومِمّا جاءَ في كتابِهِ عنْ أوْصافِ البرْبر ، قوْلُهُ :
" يمتازُ البربَري الأهْلي الجزائري عنْ عُموم البرْبرِ بأنّهُ مُسْتطيلُ الدّماغ، مُعتدلُ القامةِ والوجهِ، بارزُ الخدّيْن، غيْرُ ناتئِ العينيْن، أسْودِهما، متوسِّطُ العرْض، واسعُ الفم، عريضُ الصّدْر والأكتافِ، ضيّْقُ الخصْر، أسْودُ الشّعْر، أسْمرُ البشْرة، قويُّ البنْيَة، وهناك صنْفٌ أشقرُ أزْرقُ العينيْن، مع رقّةٍ في الأنفِ والشّفتيْن، مُسطّـَّحُ الجبْهة . وهذا الصّنفُ هو أقدَمُ العُنصُر البرْبري بهذه البلاد، وتوجدُ منه قِلّةٌ بجبال جرْجرة والأوْراس وريفِ المغرب الأقْصى. وهو بجبال الأوراسِ أكثرُ منه في سائر بلادِ البربر ".
وفي تعريفِهِ لمشاهير أعْلام الجزائر، يقولُ الشيْخ الجيلالي عن القائد والمَلِك ماسِنيسا:
" هو منْ أشهَرِ مُلوكِ البربر الجزائريّينَ البارزين، ومنْ أعظمِ زُعمائِهم على الإطْلاق... نشأ ماسنيسا هذا مُحبّا لوطنِه غيورًا عليْه مُدافِعا عنه، وقدْ شارك في مُحاربةِ خصْم والدِه ومُنافسِه الملِك صيفاقيس"، أكبرِ رئيسٍ عرفه التّاريخُ بنوميديا الغربيّة، وسِنُّهُ حينذاك لم يتجاوزْ سبْعَ عشْرة سنة .
ومنْ ذلكَ الحينِ تألّقَ نجمُه في السّماء بين أبْطال التّاريخ الجزائري، فخلَف أباهُ بعد وفاتِه على العرْش... وإلى هذا الملِكِ يعودُ الفضْلُ في اخْتِراع لغة... وهو الذي عمِلَ على اسْتقرارِ البدْو في نواحيهم بالبادية واتّخاذِهم الزّراعةَ حِرْفةً لهم بدَلَ الرّعْي... وجمَّل مدينة سيرْتا بما أنْشأهُ فيها من المباني الفخْمة، كما أنّه عُنيَ كثيرا بالاقتصاد والتّجارة. وكان منْ تيقُّظِهِ الحرْبي وشدّةِ حَذرِه إنْشاؤه لأسْطولٍ ضخْمٍ وجيْشٍ مُنظّم. وضربَ السِّكّةَ باسْمِهِ ، وكثيرا ما عمل على توْحيدِ الشمال الإفريقي وجمعِهِ على دوْلةٍ واحدةٍ، وإبْعادِ الأجْنبيّ عنه. وبالجملة فلقدْ أجمَع أهلُ التاريخ على مدْحِه والثّناءِ على أخلاقِه وسجاياه. تُوفّيَ سنة 149ق.م عنْ سِنٍّ عاليَةٍ تنيف على المائة عام، ودُفِن في قبرِه المعروفِ به إلى الآن بالخروب... بالجنوب الشّرْقي منْ قسنطينة ..." .
ومِنْ أجملِ الشّهداتِ في شأن هذا العالِم الموْسوعي، ما قالَهُ الشيْخ عبد الرّحمن شيبان :
" هوشخصيّةٌ متعدٍّدةُ الكمالاتِ والفضائل في شتّى المجالاتِ: فهو من النّاحيةِ الثقافيّة أديبٌ ومُؤرِّخٌ وفقيهٌ. وهو من الناحية الاجتماعيّةِ معلِّمٌ وواعِظٌ ومُرشِدٌ. وهو من الناحيةِ الدينيّةِ مُتّقٍ لله تعالى وعامِلٌ بكتابه وسُنّة رسولِهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم. نَصوحٌ للأمّةِ، صالحٌ مُصلحٌ، يُؤيِّدُ الحقّ ويُنبِّهُ إلى الخطإ، أيًّا كان مصدَرُهُ .
أمّا الشيْخ عبد الرّحمن الجيلالي، من الناحية لسُّلوكيّةِ، فهو لطيفُ المعْشرِ، يألَفُ ويُؤلَفُ، يُقدِّرُ أهلَ العِلم والفضْل، على عكْسِ ما عليهِ الحالُ في كثيرٍ منَ الأحْيان، حيثُ يُكرَّمُ الخاذلون ويُهمَّش العامِلون .
فاللهَ تعالى نسألُ أنْ يرزقَه الدّرجاتِ العُلى، مع الصّدّقين والشّهداءِ والأبْرار، ويجعلَ أعمالَه منارةً للمعرفةِ ، وزهرَةً للمجالِسِ، ومجْدا للوطن والعُروبةِ والإسْلام " .
كلماتٌ شاهِدةٌ مُقْـتبسَةٌ منْ مُحاضرةٍ للدُّكتور مولود عويمر :
أدْركَ الشيخُ الجيلالي قيمة الإعِلام مُبكِّرًا، فالْتحقَ بالقسمِ العربي لإذاعة الجزائر، وارْتبط بهذه المؤسّسة لمُدّةٍ طويلة، ولم ينفصِلْ عنها إلاّ في نهايةِ الثّمانيناتِ من القرْن الماضي ، وقدّمَ خلالها أحاديثَ كثيرةً، حتّى انتشَرَ اسمُهُ في كلِّ أرْجاءِ الجزائر... عمِلَ الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بعد الاسْتقلال باحثا بالمتْحفِ الوطني للآثارِ، بداية منْ عام 1965م، وفي عام 1970م عُيِّن أُستاذا للفِقْهِ المالكي بمعهدِ تكوين الأئمّةِ بمفتاح، ثمَّ التَحقَ بجامعةِ الجزائر سنة 1983م كأستاذٍ لعِلم الحديث. وتفرّغَ كذلك للدّعوَةِ وإلقاءِ المُحاضراتِ، في عِدّةِ مُلتقياتٍ دينيّةٍ وتاريخيّةِ عبر التّرابِ الوطني ..." .
وفي مقالٍ في جريدة الشُّروق بعُنوان " ذو القرْن " كتبَ الأستاذ محمَّد الهادي الحسَني يقولُ "
" لا أقصُد بالقرْن ذلك النُّتوء العظْمي الذي يوجدُ على رؤوس بعض الحيواناتِ ، ولكنّني أعْني ذلك المَدى الزّمني الذي يبلُغُ مائةَ عام . وأمّا صاحبُ القرْن الذي أعْنيهِ فهو فضيلة الشيْخ عبد الرّحمن الجيلالي ...
إنّ أعجَبَ ما في الشيْخ عبد الرحمن الجيلالي هو هذه الذّاكرةُ الحيّةُ ، التّي تسْتعصي على النّسْيان، وتتحَدّى الزّمان ، وتأْبى أنْ تُفرِّط فيما وعَتْهُ منْ كنوزٍ معرفيّةٍ ، ومنْ حوادثَ تاريخيّة ، ومَنْ عرَفتْهم منْ شخصيّاتٍ علميّةٍ ... " "
وقدْ ختمَ الأستاذ الحسَني مقالهُ بأبْياتٍ للشّاعر الكبير محمَّد العيد آل خليفة ، يُشيد بها بالخصال العلميّة للشيْخ :
إنَّ الجَـــزائــرَ أنْـجـبـَتْـكَ مُحـقِّـــقًا
مُـتـحلِّيًا بالصِّـــــدْقِ فــي الأقــوالِ
عزّتْ بمِثْلِكَ في الشّبابِ فأصْبحَتْ
مِــثـــلَ اللُّــبـــاةِ تـــعِــزُّ بالأشْــبالِ
إنّـــي لأشهَــدُ ، والشّـهادةُ وَعْرةٌ
وعَلى الرِّقــابِ ثـقـيلــةُ الأحْـــمالِ
أجهَدْتَ فكْــرَك فــي شـبابِكَ باحِثًا
وعمَّــرْتَ وقــتَـكَ فـيـهِ بالأشْــغالِ
مُـتـحَمِّــلا عِـبْءَ الدّراسةِ مُعْرضًا
عــنْ كــلِّ لـهْــوٍ شاغِـــلٍ للــبــالِ