الجمعية كقوة إحياء… مثال من الماضي
بقلم: حسن خليفة-
من يتتبّع بدقة منهجية عمل الجمعية، منذ تأسيسها يلحظ ذلك الملمح المهمّ والدور المركزي المتمثل في «الإحياء» ولعلّ ذلك أبرز أدوارها ـ ماضيا وحاضرا ـ وأهم ما قامت به، كما عبّر عن ذلك الدارسون والمؤرخون المنصفون لحركتها المباركة في الانبعاث والنهضة.
والمقصود بالإحياء هاهنا هو العمل الدعوي/الإصلاحي الميداني أساسا؛ حيث اعتمدت التهذيب والأخلقَة، ودعوة الناس إلى الدين وإحياء القيم والمبادئ، بل حتى إيقاظ النخوة والرجولة والوطنية في نفوسهم…
ويمكن اعتداد ذلك جزءا غير يسير من عملها الإصلاحي العام الشامل.
المبتغى هاهنا ـ في هذه السطورـ هو الإشارة القوية الواضحة إلى أهمية هذا المنهج العملي الميداني على طريق الإصلاح والسعي للتغيير الحقيقي، وأن الجمعية في ماضيها نهجت هذا النهج وحققت فيه نتائج ضخمة رائعة، وينبغي أن يكون ذلك في حاضرها ومستقبلها أيضا؛ لأنه أجدى وأنفع، وأكثر مردودية وأثقل في ميزان العمل التغييري.
دعنا نضرب هذا المثال من ماضي الجمعية الناصع؛ حيث كانت قيادة الجمعية تبتعث الدعاة والمشايخ والأساتذة إلى مختلف الجهات، وترسم لهم خطط العمل وآفاقه وتحاسب على تحقيق الأهداف، وتدفع في اتجاه تحقيق ذلك التغيير الملموس القابل للقياس، وهو ما عبّر عنه الشيخ البشير الإبراهيمي في كثير من كتاباته إذ يربط دائما بين الأفكار والبرامج وما تحقق في الميدان، سواء كان ذلك في فتح عشرات المدارس والنوادي في عدد قليل من السنين، وهي التي هيأت ما وصفه بـ «جيوش» العلم والتربية والتعليم، وقد وصلوا إلى سبعين ألفا أو أكثر، ممّن خرجتهم الجمعية على مدار سنوات ..فكان منهم الخطيب، والأديب الشاعر، والزعيم، والصحفي، والمعلم والمربي الخ …ولكن ليس الأمر كذلك فحسبُ، بل تعداه إلى أفق آخر، وهو اقتحام المقاهي والأسواق والفضاءات والجهر بالدعوة والإصلاح في الميدان.
وهذا هو الذي يستوقفنا ويشدّنا فيما حصل مع ابتعاث الاستاذ الفضيل الورتلاني إلى فرنسا في «مهمة مستحيلة» وهي إحياء ما اندرس من القيم وما طُمس من النفوس، وما مات من ضمائر الجزائريين المغتربين هناك.
يحكي الشيخ محمد الصالح بن عتيق عن ذلك حكاية طريفة مهمة ضمن بعض ما كان يقوم به الفضيل، في مهمته الإيمانية الدينية الثقافية ..قال الشيخ ابن عتيق:
«ّإن الفضيل كان أعجوبة من الأعاجيب.. لم تلد أمّ مثله، كان فصيح اللسان بالعربية والقبائلية والفرنسية، وقد اتفق مرة مع صاحب مقهى قبائلي يتردد عنده كثير من المهاجرين على عقد اجتماع هناك (في المقهى) للاتصال بأولئك المهاجرين المشرّدين» ثم يقول: «وعندما ذهبنا إلى ذلك المقهى وجدنا عددا كبيرا من الناس موّزعين في زوايا المقهى وبجانب كل واحد منهم كأس من الخمر، والبعض منهم كانوا مصحوبين بالنساء والفتيات.
فتوجّه إليهم صاحب المقهى قائلا لهم: إن هناك جماعة تريد الحديث معكم، وكانوا يتصوّرون أننا فرقة من المغنين أو الممثلين في المسرح، فتقدم منهم الفضيل وخاطبهم باللغات الثلاث (الفرنسية والعربية والقائلية)، وأخذ يضرب على الوتر الحسّاس، وذكّرهم بنخوتهم، ورجولتهم، وحذّرهم من ضياع أعمارهم هناك بفرنسا، وذكّرهم لم تتعرّض له أمهاتهم وأخواتهم ونساؤهم في الجزائر من المهانة والإذلال والاعتداء على شرفهن من طرف عسكر الاستعمار الفرنسي، فتأثروا جميعا وبكوا، ولم ينته الاجتماع حتى اتفقوا جميعا على تكوين ناد هناك للجمعية، والالتفاف حوله، والتخلّي عن كل الرذائل، والتفكير في مستقبل أسرهم، وعائلاتهم وبلادهم الجزائر.
وهكذا نجح الفضيل الورتلاني نجاحا عظيما في لم شمل المهاجرين الجزائريين بباريس، وكل أنحاء فرنسا، وفي إيقاظهم من سُباتهم، ودفعهم للعمل الجاد، فأخذوا يلتحقون بنوادي الجمعية …وقد بلغ عدد النوادي التي فتحها الفضيل في باريس وأحوازها نحو سبعة عشرناديا في بضعة أشهر» (شهادة الدكتور يحي بوعزيز عن الفضيل الورتلاني ـ ضمن كتاب» أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، دار الغرب الاسلامي،1995).
ومما يجب ذكره هنا أن هذه الحركة في الإحياء والايقاظ التي بدأها الورتلاني وتوسعت شيئا فشيئا، فمـا لبث أن طلب من الجمعية (وهنا الشاهد على دور الجمعية ) ..طلب من الجمعية أن تمدّه بعلماء، فأمدته قيادة الجمعية بالشيوخ: السعيد الصالحي، محمد الزاهي الميلي، وحمزة بوكوشة، وفرحات الدراجي، ومحمد الهادي السنوسي، وغيرهم من المعلمين؛ حيث شكلوا «كتيبة» إنقاذ للجالية الجزائرية مما كان يهددهم في عقيدتهم وأخلاقهم الإسلامية ووطنيتهم، فعاد الكثير إلى الصواب وإلى رحاب دينهم وتحقق فيهم الصلاح الذي امتد إلى أسرهم وعائلاتهم وأبنائهم وبناتهم ..وكان ضمن برنامج العمل: الدروس والمحاضرات، والعمل الميداني ـكما أشرنا من قبلُ ـ في المقاهي والنوادي والفضاءات التي يقصدها هؤلاء المغتربون، بل شمل ذلك حتى الأبناء؛ حيث فُتحت أبواب التعليم بشكل منظم للابتدائي والمتوسط والثانوي . وقد بدا الحضور بعد أشهر قليلة مشجعا والتردد كبيرا على تلك النوادي فأيقظت الجمعية بذلك المنهج العملي وأحيت ما أحيت من النفوس والقلوب والعقول…ببركة الإخلاص ومنهج العمل الميداني الواقعي الحقيقي.
ولذلك فإنه حريّ بنا اليوم أن نحييّ هذا المنهج في الأسواق والمقاهي ومختلف الفضاءات فضلا عن الجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية …فذلك أبلغ في إيصال صوت الإسلام إلى الناس بمقاربتهم مقاربة واقعية ميدانية، وحثّهم على الصلاح والإصلاح. وإنما التوفيق من الله تبارك وتعالى .