محمد كتو الشيخ الإعلامي الفقيه

بقلم: محمد الطيب-

عالم ومقرئ وفقيه مفتي، ومدرس واعظ وداعية جزائري، إبن الشيخ أحمد بن محمد بن الحاج السعيد من تفريت ناث الحاج بأزفون، هاجر والده لاجئا إلى تونس في 1890 فرارا من التجنيد العسكري للاحتلال الفرنسي، فاستقر بقرية باجة بضواحي تونس، ولد محمد بتونس في 15 ديسمبر 1915 (1333هـ).

تلقى تعليمه الأولي عند والده الشيخ حتى حفظ عليه القرآن الكريم وبعض المتون وعمره 11 سنة، وأخذ منه مبادئ اللغة والفقه، ثم التحق بجامع الزيتونة ليواصل دراسته في تخصص "القراءات والتجويد" الذي ولع بهما، عند شيوخه هناك منهم "عبد الواحد المرغني، الشاذلي النيفر، البيجاني زفزون، علي التريكي، صالح الكسراوي والشيخ الطاهر بن عاشور.."، وقد اجازه علماء أجلاء من تونس والجزائر بعد أن خبروه وامتحنوه في كل مروياته، أجيز في القراءات السبع من جامع الزيتونة، فأجازه علي بن خوجة مفتي الديار التونسية برواية صحيح البخاري، وبالجزائر أجازه أهم شيوخه محمد بابا عمر مفتي الجزائر بالصحيحين وموطأ الإمام مالك عام 1972.

رغم إستقرار الأسرة في تونس آثر أن يعود إلى مسقط رأسه، وقد لقى إقبالا بعد تقديمه درسا بزاوية القرية باللغة العربية الفصحى، وأسس عائلته الصغيرة أنجب 10 أولاد منهم 7 بنات علمهن أحسن تعليم، ودخل الإذاعة سنة 1946، وكان مذيعا يقرأ ويجود القرآن الكريم، صباحا ومساء، وبقي فيها بعد الاستقلال إلى غاية أيامه الأخيرة، حيث كان ينتظره عشاقه مباشرة بعد صوت فلسطين، وبعد سنوات انتقل للقراءة الصباحية فقط، فارتبط اسمه بالنشيد الوطني كل صباح على الساعة السابعة، ولم يرتبط اسمه بالإذاعة فقط، حيث كان يقدم كل يوم اثنين وجمعة نفس برنامجه الإذاعي بالتلفزيون الجزائري في نصف ساعة بعنوان "الحديث الديني"، بأسلوب جذاب، وبسيط وبلغة يفهما العامة، فكان من القلة التي حافظ عليها الجزائريون للتفقه والتزود بأمور دينهم ودنياهم، فكان يفيد بعلمه داخل هاتين المؤسستين، يصحح لبعضهم الجانب الديني في حصصهم المختلفة ويعطي لهم نصائح وإرشادات، ويجيب على تساؤلات يتلقاها من مقدمي البرامج، فقد تنوعت اهتماماته لكن جلها انحصر في مجال النشاط الديني من افتاء ووعظ وإرشاد وتدريس في المساجد والمصليات عبر الجزائر، ودرس علم القراءات والتجويد بمعهد تكوين الأئمة بمفتاح أنذاك، كما كان يتنقل بين مساجد الوطن كل صلاة جمعة ليؤم مصليها، وهي السنة التي مشى عليها طيلة حياته، وكانت خطبه منقولة على المباشر في الإذاعة الوطنية، والتي تميزت حسب مقربيه ومن عاصروه بالبسيطة والمتوغلة في عمق المجتمع وبصراحته فيما يقول وينصح به المصلين، كما أكدت عائلته أنه فتح بيته لطلبة العلم من ربوع الوطن، ليصل أحيانا حتى 60 طالبا، يدرسهم ويسهر على تعليمهم فن القراءات وتحفيظهم القرآن بالمجان.

جعلته الظروف يتعلم اللغة الفرنسية حتى الإتقان، شارك بصفة شخصية أو ممثلا للجزائر في المحافل الدولية، وكُرّم في العديد منها مؤتمرات وندوات وكذا مسابقات دينية عبر الدول الإسلامية، كما اختير عضو بالرابطة العالمية الإسلامية للقراء والمجودين، وكسفير للجزائر في مسابقات الحفظ الدولية، بماليزيا، ليبيا، مصر، فرنسا، وبلدان أخرى التي كرم بها، كتكريمه من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، كما يحتفظ الشيخ في رصيده تكريمات تليق بمكانته الدولية في الحفظ والقراءة، ما أهله لأن يُختار ضمن أحسن القراء العشرة في الوطن العربي، مسار 60 سنة من العطاء داخل وخارج الوطن، منها 53 سنة عملا إذاعيا وتلفزيونيا، جالس العلماء فاستفاد وأفاد، نشر علمه على أرض الجزائر وكرس بيته لتدريس الطلبة، وعرف ببساطته في التعامل وشفافية رأيه، ويشهد له بأخلاقه الرفيعة، ظل كذلك حتى أقعده المرض فلزم بيته بالمرادية بالعاصمة إلى وفاته في 30 أكتوبر 1999 (1417هـ)، وعمره يناهز 84 سنة، وشيعت جنازته إلى مقبرة سيدي يحي، بحضور عدد كبير من العلماء، تاركا وراءه إرثا وأثرا لن تمحوه السنون، يرحمه الله.

ويُجمع كل من عرفه بسمو أخلاقه، فقد عُرف بحلمه لأبعد الحدود حتى مع من أساؤوا له، بر بعائلته، يحسن التعامل داخل وخارج الوطن، يجيب دعوة أي محتاج لفتوة، أو طلب معرفة، فيقول الجيران "لقد كان أبانا جميعا، وقدوتنا في التعامل، لم يرد أحدا فينا حين يسـأله في أي وقت"، وذكر الوزير الأسبق لمين بشيشي بأنه "كان يشرف على النقل المباشر لصلاة العيد في الإذاعة الوطنية"، وأضاف "أن المسؤولين السعوديين انتبهوا إلى أنه كان أفضل المراسلين الإذاعيين القادمين من البلدان الإسلامية توفيقا في تغطية مناسك الحج، فقرروا أن يكون إمام المراسلين في الصلاة"، وقال الأستاذ محمد كمال التارزي المدير العام للشعائر الدينية بتونس في زمن بورقيبة بأنه "كان يستمد موضوع خطبة ودرس الجمعة من الحديث الديني الصباحي للشيخ بالإذاعة الجزائرية"، وفي إحدى المرات حل وفد مصري من المقرئين بالجزائر وكان من ضمنهم الشيخ الحصري، سجل معهم بالإذاعة، مساء أخذهم إلى المسجد الكبير، فلم ترق لهم قراءة مقرئ المسجد، فقال أحدهم: لماذا لا يغيرونه، فرد عليه آخر: لا داعي فكلهم متشابهون، فأغتاظ الشيخ ورد: "هذه الورقة فيها 22 خطأ ارتكبتها في التلاوة أثناء تسجيلك بالإذاعة"، فغضب المقرئ، فحُكِم الشيخ الحصري الذي أقر بصدق الشيخ، وذكرت ابنة أخته الوزيرة السابقة سعيدة بن حبيلس "في التسعينيات دخل إلى مسجد وإذا بشاب ملتح بعد الصلاة يقول له ارتكبت الكبيرة يا شيخ لأنك لم تطلق لحيتك، فرد عليه أين تعمل؟ قال الشاب: في سوناطراك، رد الشيخ: تتركون أعمالكم التي فيها مصالح الناس، وتتعلقون بما لا يعنيكم، فما كان على الشاب سوى الانصراف"، وذكر ابن أخيه محمد الشريف أستاذ بجامعة تيزي وزو "كان معنا أستاذ في الجامعة من دعاة التعصب والجهوية، لكنه تخلى عن ذلك بعد سماعه لحديث ديني للشيخ"، وذكر الأستاذ بقاسم بودوح أن العقيد معمر القذافي قال ذات مرة لأحد المسؤولين الجزائريين السامين "الحديث الديني الصباحي للشيخ كتو هو قهوتي الصباحية"، وذُكر في إحدى المؤتمرات بماليزيا علقوا إعلانا مفاده أن الذي يريد تمديد إقامته ليومين للتبضع فله ذلك، الكل أعجبهم الاقتراح إلا الشيخ رفض، فقالوا له: أنت إذن خائف من زوجتك، فقال لهم: نعم، خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي.. مسار ومواقف مشرفة لمشوار نموذجي، يرحمه الله.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.