ابن باديس المشروع.. وفوضى المشاريع!
بقلم: صالح عوض-
كلما تعود ذكرى رحيل السيد الإمام أعيد قراءته وتأمله، فازداد إدراكا بأنه كان استثنائيا وازداد يقينا بأنه وفي اللحظة التي يظنها الأعداء قد ماتت يكون بإمكان الأمة إبداع رد حضاري متوازن.. بعد أن أعلن الوالي الفرنسي في الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر موت الإسلام في الجزائر انبعث ابن باديس بمشروعة بالمنوفسيت التاريخي:
شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُــسْــلِــمٌ ..... وَإِلىَ الْـعُـرُوبَةِ يَـنْتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ ..... أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ
أَوْ رَامَ إِدْمَــــــاجًـــــا لَــــهُ ..... رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
كان بيانا كاملا يرسم ملامح الرؤية والمشروع.. لقد اجتمعت في ابن باديس المناقبية العليا، والوعي التاريخي، والوعي بالرسالة، والوعي الاجتماعي، وعلى أرضية ذلك الرؤية وعمقها وترتيب الأولويات بمنهجية علمية دقيقة وأنزل ذلك كله ميدان الكفاح فأنجز خطواته مرحلة بعد مرحلة بنجاح مذهل.. في حضور مشروع ابن باديس المنهجي الجاد تظهر فوضى المناهج التي أصابها الخلل عندما تخلت عن أحد أبعاد النهضة في مجتمع له خصائصه وانتماؤه وهويته "لقد حاول الإمام أن يكون هو الحزائر" كما وصفه رفيق دربه القائد الشهيد العربي التبسي.. ولا زال المشروع مفتوحا على المستقبل في انتظار من يكمل حلقاته.
إنني أشفق على من يحاول كتابة مقال عن ابن باديس إذ كيف له إن يحيط بالمرحلة والتحدي والمشروع في حيز لا يتسع لبعض ذلك؟ ولكن ما العمل والواجب يقتضي أن ندق على خزان الذاكرة استحقاق وفاء نحو الإمام الرئيس.. سأحاول الاقتراب من ابن باديس المشروع القائد.
إبن باديس والتحدي:
إن دراسة المشاريع تلتزم السياق العام والأحداث الكبرى ومفاصل الأفكار والمشاهد وتطورها والمعيار فيها.. ومن هنا نكتشف القيمة الحضارية الكبرى لمشروع ابن باديس النهضوي التحرري وكيف وضع ركائز الدور الحضاري لجزائر المستقبل بجعل القيم الحضارية مرجعية للمجتمع الجزائري وكان ذلك مكثفا كما قال: لمن أعيش؟ وأجاب: إنني أعيش للإسلام والجزائر.
على طول ربع قرن، كانت دروس الإمام وشروحه في القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب الفقه والتاريخ القديم والحديث بما فيه تاريخ الجزائر وعلماء الجزائر تؤسس لمرحلة كفاح واسعة، وهو يدرك أن ليس المطلوب إبراز بطل، إنما المطلوب صنع جيل قادر لخوض معركة خلع الاستعمار وإلقائه خارج الوطن.
ابن باديس ثورة قيمية ومفاهيمية على أفهام واعتقادات كانت سائدة في المجتمع متخلفة مشوهة، وثورة على الأمِّية والجهل والتوحُّش، وثورة على شروط القابلية للاستعمار، وكانت هذه القيم والمفاهيم والممارسات منضبطة في برنامج ثوري تصاعدي بدأ من كلمة السر “اقرأ” إلى إعلان عن مطالب الجزائر كاملة والمتلخِّصة بالحرية والسيادة والاستقلال، لأن الجزائر ليست فرنسا ولن تكون فرنسا..وان الشعب قرر الحرية وان “عليه خطوات فبعد هذه الوثبة وثبات فإما حياة وإما ممات”.
يؤكد كل من كان له نصيب من دراسة لأثار العلامة ابن باديس انه رجل علمي منهجي.. وكان قائدا سياسيا وزعيما شعبيا يجيد مخاطبة الناس وخطيبا مبينا.. وهنا كانت القضية الجزائرية والملف الجزائري حاضران بكل تفاصيلهما دون تشتيت.. فكما أنه تزود بالعلم الشرعي والمنهج القرآني في التحليل والرؤية وضبط منظومة القيم والمفاهيم فقد تزود كذلك بمعرفة تفصيلية عميقة للشأن الجزائري ثقافية واجتماعية وسياسية ورتبها الأولى فالأولى، وعلى أرضية ذلك جميعه حدّد مشروعه.
مشروع ابن باديس:
منذ البداية؛ بداية عمله الدءوب في نشر الوعي والمعرفة وتعليم اللغة وحتى سنة 1940، كانت الطريق واضحة أمامه كما أشار بذلك الشيخ البشير الإبراهيمي في حديثه عن الأشهر الثلاثة التي جمعته مع الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة درسا فيها وضع الجزائر كأنها كتاب مفتوح كما يقول، ووضعا لها الخطط والتصوُّرات والاحتمالات للنهوض بالجزائر وطرد الاستعمار وثقافته ووجوده.
من هنا يمكن النظر إلى مشروع ابن باديس الاستراتيجي انطلاقا من العام نحو الخاص او العكس.. بمعنى واضح ان ابن باديس ربط تحركه كله بمبادئ سياسية تربط الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي والتوازن والاتزان والتطور المنهجي في إطار قيمي ملتزم بالنبل والصدق والوضوح.. فلم يلجأ إلى انتهازية الساسة وشطحاتهم، ولم تصرفه الرغبة او الرهبة عن منهجه الواضح المبين.
برنامج المشروع:
وبقراءة حركة ابن باديس وخطاباته يمكننا ان نرتب مشروعه من العام الى الخاص.. ولأنه عالم مسلم مسؤول وإمام قائد لشعبه معني برسالته الإنسانية فكان عليه ان ينطلق من اللحظة والمكان الخاصين لتكون حركته نحو هدفه الأبعد منطقية وحقيقية.. فكانت إستراتيجية مشروعه كالآتي:
1- لابد أن تسود الحرية والكرامة الإنسانية العالم بأسره.
2- لا يمكن انجاز ذلك إلا بنهوض الأمة الإسلامية بقيمها ومسؤولياتها لتكون شاهدة على العالمين آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.. أي لابد من تحرر الأمة من القيود التي تحول دون قيامها بمهمتها كل أبناء قطر بقطرهم..
3- لابد ان تنهض الجزائر وتحطم قيود الاستعمار وتسترد حريتها وسيادتها وكرامتها لتقوم بواجبها نحو الأقرب فالأقرب من أبناء الأمة بل نحو الأسرة البشرية كلها.. يروي الشيخ علي بن محمد بن الطيب أن الشيخ بن باديس كان كلما نظر إلى جبال لأوراس وإلى الأرض المترامية يقول: “إن الجزائر لا تحصل على حقها إلا بالدم” كان ذلك قبل نهاية 1929.
4- لا يمكن تحقيق ذلك إلا بشعب ثائر يشعر بقيمته ويفهم رسالته ويؤمن بهويته الخاصة
5- لا يمكن تحقيق ذلك إلا بتآلف الشعب وتوحّده حول أهدافه.
6- لا يمكن تحقيق ذلك إلا بقيام طليعة في الأمة تحرض وتعبئ وتبعث التفاؤل والأمل وترسم معالم الطريق للنهضة وتتحلى بمناقبية أخلاقية تكون القدوة وبوعي قراني للحياة والدين.
7- لا يمكن تحقيق ذلك إلا بإنشاء ثقافة أصيلة وتعليم حقيقي ووعي بجوهر القضايا لصناعة طليعة تقود الأمة تبدد المناخ المسمم بثقافة الغرب ومفاهيمه كي تتم التنشئة في محضن مستقل.
8- ومن أجل ذلك لابد من بناء المدارس ونشر التعليم وتربية النشء تربية خاصة.
9- لكي يتحقق ذلك لابد من البداية بالقراءة والكتابة لمحو الأمية فكانت البداية هي عملية “اقرأ”.
هذا هو مشروع ابن باديس يبدأ ب“اقرأ ” وينتهي إلى كرامة الإنسان كل الإنسان، في الأرض كل الأرض، وبهذا يؤكد طبيعة الرسالة، وفي الطريق لابد من الانطلاق بحرّية الجزائر ونهضتها لتقوم بواجباتها.. فالجزائر ونهضتها هي الهدف القريب، وهذا في ذاته نصرة للعرب والمسلمين الأقرب فالأقرب مبرزا دوما نصرة قيم الحرية والكرامة الإنسانية.. وبدون ذلك يكون كل كلام عن القيام بنصرة شعوب العرب والمسلمين من باب الأماني الخادعة.. إنها مهمة منهجية متدرجة واعية.. ولهذا رفع شعاره “أعيش للجزائر والإسلام”.
المرأة في المشروع:
لقد توسع الإمام في المدارس وارتقى بمستوياتها وصولا الى المعهد الباديسي بمدينة قسنطينة وكان حرصه بالغا على تعليم البنت الجزائرية وترقيها في مدارج المعرفة لحمايتها من هجومات التخريب التغريبي وإنقاذها من الجهل والأمية وقد وجه رسائلا عديدة للمرأة الجزائرية في صحفه وندواته ومحاضراته يدعوها للاهتمام بنفسها تعلما وتهذبا، وأعرب عن يقينه بان أساليب المستعمر وتلامذته في تخريب المرأة إنما تقصد لتدمير المجتمع الجزائري والقضاء على قيمه الحضارية، واصدر فتواه: “إن أولياء المرأة والعلماء إن فرطوا في تعليم المرأة فهم آثمون إثما عظيما” وطالب برفع حجاب الجهل عن المرأة، وقال ان كنا نريد ان نكوّن رجالا فعلينا أن نكوّن أمهات ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات” وتصدى ابن باديس لإفهام الناس وعاداتهم في عدم خروج المرأة من بيتها فقام الإمام بحملة توعية هزت الأفهام الجامدة وتصدى لكل من أرد تثبيطه عن ذلك وقال: ان علمت ولدا فقد علمت فردا وان علمت امرأة فقد علمت امة.. وقد خصص دروسا للنساء في مسجده وبعد مدة يسيرة أحدث انقلابا في حياة المجتمع، وقد جعل تعليم البنات مجانا لتشجيعهن على الدراسة ويحث المواطنين على إرسال بناتهم إلى المدارس، لقد كانت المرأة في صلب مشروع ابن باديس.. واعتبر مواجهة هذا الموضوع جزءا أصيلا من إيمانه بالإسلام، وجزءا أصيلا في مواجهته لمخططات المخربين التغريبيين ولمخططات الاستعمار بتجهيل المرأة الجزائرية.
واجتهد ان يرسل العديد من الطلبة إلى الجامعات العربية في تونس والعراق ومصر وسورية ولم يستثني الفتيات من البعثات التعليمية كما تشير الأستاذة “زهور لونيسي” خريجة المعهد الباديسي في أكثر من مداخلة..
خصائص المشروع:
=الدرس الكبير في ذكرى وفاة الإمام ابن باديس يدور حول فاعلية عالم الدين المسلم ودوره في المجتمع عندما يكون يقظا ونابها ومتجردا لرسالته.. وهنا يطرح السؤال الكبير حول أس نهضة الأمة ومحركها الحضاري وهل تستطيع الحركات الإسلامية أن تمتلك هذا المحرك؟ المقام هنا ليس مقام النقد لواقع الحركة الإسلامية وفضلا عن قناعتي إن وظيفة الحركة الإسلامية استنفذت، وأن هناك خلل جوهري في فكرة التنظيم والحزب الإسلامي، لأنه مخالف لطبيعة حركية الإسلام ورسالته ومهماته وينتهي بأفراده الى التحزب المفرق وتستبدل فيه القيم والولاءات.. لقد سألني الشيخ الصديق المرحوم محفوظ نحناح عن رأيي في واقع الحركة الإسلامية فأجبته بلا تردد: الأولى هو حل الحركة الإسلامية تماما.. فسألني: وما البديل؟ فقلت له: أن تستأنف مشروع إبن باديس لأن منهجه نبوي والأقرب لطبيعة الأمة والدين.
= القطيعة مع الاستعمار قطيعة نهائية و الوصول إليها بشكل منهجي تنطلق من تعزيز عناصر الهوية المستقلة اللغة والدين والثقافة حتى يصبح التجنيس ردة لا تقبل منها توبة.. والمنافرة مع المستعمر تبلغ ذروتها حتى لو طلب المستعمر منه أن يقول لا إله إلا الله لن يقلها.
= لم يشكل إبن باديس حزبا، و كان الإسلام أباه و الجزائر أمه، كما أحب أن يقول.. فكانت رؤيته: أن الشعب هو حزبه لهذا كان خطابه دوما: ” أيها الشعب الجزائري العربي المسلم الصميم إني احبك كما أنت أحبك بعلمك واحبك بجهلك”..
= برز جيل من العلماء النابهين الأفذاذ في شتى المجالات في الأدب كالبشير الإبراهيمي العملاق، وفي الفقه كالعربي التبسي الشهيد، وفي التاريخ كمبارك الميلي، وفي الشعر كمحمد عيد آل خليفة، وفي الصحافة الطيب العقبي، و في المسرح كحوحو، وفي السياسة كالفضيل الورتلاني، وكذا كل مفصل من النشاط وقف على رأسه عالم فذ، فتجمع للجزائر من نوعية هؤلاء الرجال الكبار في مرحلة معينة ما لم يتجمع لسواها من أقطار العرب والإسلام في مرحلة معينة..
= تميز ابن باديس بوعي استراتيجي لقضايا الأمة بدءا بفلسطين حيث أطلق صرخته المدوية: ”يا عرب إما فلسطين أو الموت”.. وكتب المقالات ورفع الاستنكار تلو الاستنكار مشهدا التاريخ انه باسم الجزائر كلها باسم الأجنة في الأرحام والموتى في القبور يستنكر ما يجري في فلسطين لأبناء القدس الشريف.. ويكتب مفصلا طبيعة الصراع بوعي استراتيجي حضاري. كما أن البصائر تولت باستمرار الدعوة لجمع التبرعات لفلسطين ولم يخل عدد منها عن متابعة الشأن الفلسطيني.
ابن باديس والثورة:
يتحرك الإمام في خط تصاعدي لا ينتقل من مرحلة إلى أخرى إلا بعد أن يستنفدها تماما.. ويجعل لكل مرحلة شعارا يعمل والعلماء معه على انجازه.. فكان يومه خيرا من أمسه، وغده أكبر من يومه، حتى وصل إلى مرحلة النضج لإعلان الثورة فعاجله المرض وتوفي رحمة الله عليه بعد أن هيأ للجزائر رجالا وشعبا يؤمنون بهويتها مخلصين لقضيتها انتشروا في جبهة التحرير وتأسيسها وكان لهم الدور الحاسم في الحفاظ على هويتها العربية الإسلامية.. وكان رئيس الجمعية الشيخ العربي التبسي الشهيد قد منحها بعدها الروحي كما حاول ان يصفها الإعلاميون والسياسيون الفرنسيون عندما قالوا: “إننا نواجه تمردا معمما”.
وفي آخر عمره المبارك كان يطوف بأماكن عديدة، ويروي أصدقاؤه المقربون أنه زار سطيف وطلب منهم أن يأخذوه لمعاينة القاعدة الاستيطانية العسكرية في عين أرنات، ودعا بعضهم إلى تجميع السلاح.. وقال رحمة الله عليه: لو اجتمع لي عشرة من عقلاء الجزائر فإنني سأعلن الثورة.. سأله أحد المقربين في جلسة خاصة: وإلى متى سنظل ننتظر يا شيخ؟ فرد عليه: عندما يحتلّ النازي باريس.. والله غالب على أمره.