الجزائر بين مشروع ابن باديس ومشروع باريس

بقلم: جمال غول-

مرّت الـجزائر عبـر تاريـخها الطّويل بنكباتٍ قاصمةٍ، وأمواجِ مـحنٍ متلاطمةٍ، ولكن كانت بـحمد الله تـخرجُ منها منتصرة قويّة، وصَدَقَ مَن قال:

إنَّ الجزائر فـي أحـوالها عجب *** ولا يدوم بها للنّاس مكروه

ما حلّ عُسر بها أو ضاق متّسع ***  إلّا ويُسْرٌ مِن الرّحمن يتلوه

فقد قيّض الله لتلك النّكبات والـمحن رجالًا مـخلصين، وأبطالًا مُلْهَمين، قادوا الـجزائر إلـى مرافئ الـمجد والعـزِّ.

وفـي هذا الشّهر - شهر أفريل- تستذكرُ الـجزائر واحداً من هؤلاء البـررة، الذي كان منارة وناراً، منارة للشّعب، وناراً على أعداءه وخصومه، إنّه الشّيخ العلّامة عبد الـحميد ابن باديس، مفخرة الـجزائر، وبانـي نـهضتها الدِّينيّة والعلميّة.

لقد أدرك ابن باديس أنّ فرنسا – التي جثمت على قلوب الـجزائريّيـن، وسامتهم سوء العذاب- تـحملُ مشروعاً استعماريّاً متكاملًا، يستهدفُ تـحويلَ الـجزائر إلـى مقاطعة فرنسيّة، أرضاً، وثقافةً، ولغةً، وديناً، وأنّه لا يـمكن مواجهَته وإجهاضَه إلّا بـمشروع آخر يكون أقوى وأمتـن.

فعملَ -رحمه الله- مع ثلّة من إخوانه في جـمعيّة العلماء الـمسلميـن الـجزائريّيـن على تـحصين الشّخصيّة الـجزائريّـة، وإكسابـها الـمناعةَ اللّازمة، فعمل على تغييـر العقول بالعودة إلـى العقيدة الإسلامية الصّافية، وتصحيح الـمفاهيم الـخاطئة، ومـحاربة البدع الشِّركيّة التي غرستها فرنسا بواسطة خدّامها الذين باعوا دينهم وأنفسهم لـها، كما سعى إلـى تغييـر النّفوس بغرس القيم والفضائل، ومـحاربة الرّذائل والـمنكرات الاجتماعيّة.

وكافح -رحمه الله- الكفاح الـمرير من أجل أن لا يُسلب من الـجزائريّيـن لسانـُهم العربـيّ الـمبيـن، فبنى الـمساجد والـمدارس لتكون مـحضناً لتربيّة النّفوس وتقويـم اللِّسان، وشنّ هجوماً على القوانيـن الاستعماريّة الفرنسيّة الـمحاصرة والـمحاربة للّغة العربيّة والتّعليم الـحـرِّ.

وامتدّ كفاح ابن باديس إلـى الـجانب السِّياسيّ من خلال مقالاته وبياناته، ودروسه ومواعظه، فكان يبثُّ الوعيَ السِّياسيَ بدهاء وحِكمة من خلال دروسه فـي التّفسير، فتكلّم عن القوميّة من خلال موقف نـملة سليمان التي لـم تنجو بنفسها بل أنذرت قومها، فقال -رحمه الله-:(فهذا يُعلِّمنا أن لا حياة للشّخص إلاّ بـحياة قومه، ولا نـجاة لهم إلاّ بنجاتـهم، وأن لا خيـر لـهم فيه إلّا إذا شعـر بأنّه جزء منهم).

وتكلّم عن الوطنيّة عند ذكره لـحديث النّبي e في باب الرُّقى، حيث كان عليه الصّلاة والسّلام إذا اشتكى إليه إنسان من مرض أو جرح وضع أصبعه على الأرض ثـمّ رفعها، وقال:(بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)، بعد رواية ابن باديس لـهذا الـحديث، سكت لـحظة كمن يستجمع خواطره، ثـمّ اندفع فقال: (.. فقد علّم النّاسَ – أي النّبي صلى الله عليه وسلم– من قَبْل أربعة عشر قرناً أنّ تربة الوطن معجونةٌ بريق أبنائه، تشفي من القروح والجروح، ليربطَ بين تربته وبين قلوبهم عقداً من المحبّة والإخلاص له، وليؤكِّد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به، وليقرِّر لهم من مِنَنِ الوطن منّة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أنّ تربة الوطن تُغذِّي وتروي، فجاءهم من علم النّبوة أنّها تشفي، فليس هذا الحديث إرشاداً لمعنًى طبٍّي، ولكنّه درسٌ في الوطنيّة عظيم).

بل زاد على ذلك فقال: (لو أنصفَ المُحدِّثون لما وضعوه في باب الرُّقى والطِّبّ، فإنّه بباب “حبّ الوطن” أشبه).

كما لـم تـَخْلُ دروسه فـي النّحو من الـمعانـي والإشارات السِّياسيّة، فقد سأل تلاميذه يوماً: (لماذا يكون الفاعل مرفوعاً؟) فأجابوه على ما يُرفع به الفاعل من جهة النّحو، فأجابـهم بإجابة نقلتهم من عالـم النّحو إلـى عالـم الواقع الذي يعيشونه, فقال لهم: (الفاعل يكون مرفوعاً لأنّه فاعل, أمّا المفعول به يكون منصوباً, فإذا أردت أن تكون مرفوعاً فكن فاعلًا، افعلْ تُرفع, وفعلُك يكون عن طريق العلم, لا عن طريق الجهل، حاول أن تصنع قطع الغيار لا تركيبَها، حاول أن تصنع الدّواء لا تخليط الدّواء، حاول أن تكون صانعاً للقرار لا أن تكون آلة يُصنع بها القرار).

أدرك ابن باديس أنّ الاستعمار يعيش على تفرّقنا، ويبني وجوده على تشتّتنا، فأكّد على قيمة وَحدة الشّعب الـجزائريّ، فقال -رحـمه الله-:(إنّ أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرناً، ثمّ دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشِّدة والرَّخاء، وتؤلِّف بينهم في العُسر واليُسر، وتوحِّدُهم في السّراء والضّرّاء، حتّى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلماً جزائرياً، أمُّه الجزائر وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتِّحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشّرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدّرس لخدمة العلم).

نقف أمام هذه القامة الكبيرة فـي ذكرى وفاته بالتّحيّة والإجلال، والتّـرحم والتّرضي عليه، ولنتعلّم منه الكثيـر.. الإخلاصَ للدِّين، وحبَّ الوطن، والتّفانـي فـي خدمة الأمّة وثوابتها، وصراحته وشجاعته فـي قول الـحقِّ.

اللّهم ارحم ابن باديس وارضَ عنه، وعن إخوانه من العلماء والشّهداء والصّالـحين، وحسن أولئك رفيقا.

***

لقد بارك الله فـي جهود ابن باديس وجهود إخوانه ومن بعده، فأينع مشروعه الإصلاحي ثورة مسلحة، قادها شباب يعتـزُّ بدينه، وتاريـخه، ووطنه، ولغته العربيّة، بهم انتصرت الـجزائر وتـحرّرت، إلّا أن فرنسا لـم تيئس من التّمكين لـمشروعها، فهي وإن خرجت بـجيوشها من أرض الـجزائر ذليلة، فقد تركت من يـخدم مشروعها من الـجزائريّيـن، ولـم يـخب ظنُّها فيهم، فحاربوا بكلِّ ما يستطيعون كلّ ثوابت الأمّة الـجزائريّـة، ونـهبوا أموال ومقدّرات الشّعب الـجزائريّ، وها هي روحُ ابن باديس تـحيا من جديد فـي نفوس شباب الـجزائر ليستكملوا مشروعه الإصلاحيّ، وليجتثوا مشروع باريس.

إنّ ما يعيشه الشّعب الـجزائريّ اليوم من ثورة مباركة، فرصة لاستكمال التّحرُّر من عصابات وأذيال فرنسا، وتطهيـر الـجزائر منهم، لـهذا واجبنا جميعاً أن نكون يداً واحدة ضدّ مشروع باريس، وأن نـجتهد أن نكون كما قال الشّيخ العربـي التّبسي فـي خطبة تأبين ابن باديس: (لقد كان الشّيخ ابن باديس الجزائر، فلتجتهد الجزائر اليوم أن تكون ابن باديس).

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.