الأمير عبد القادر القائد المؤسس
بقلم: محمد الطيب-
كاتب وشاعر وفيلسوف ورائد سياسي، عسكري وفارس مقاوم رمز قاد مقاومة شعبية خمسة عشر عاما، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، اشتهر بمناهضته للاحتلال الفرنسي، ابن محي الدين المعروف بـ "عبد القادر الجزائري".
ولد في القيطنة بمعسكر في 6 سبتمبر 1808 (1223 هـ)، وقد ذُكر أنه قال: "أنا عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القاضي بن أحمد بن محمد بن عبد القوى بن علي بن أحمد بن عبد القوى بن خالد بن يوسف بن بشار بن محمد بن مسعود بن طاوس بن يعقوب بن عبد القوى بن أحمد بن محمد بن إدريس أحد أبناء عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن حفيد النبي محمد (صل الله عليه وسلم) وابن علي وفاطمة وحفيد أبي طالب بن هاشم، بن محمد الدين وسليل النبي (صل الله عليه وسلم)، إن أسالفي من الجانبين من الأشراف ساكني المدينة تفضيلا"، الابن الثالث لمحي الدين شيخ الطريقة الصوفية القادرية، ومؤلف "كتاب ارشاد المريدين" الموجه للمبتدئين وأمه الزهرة السيدة المثقفة بنت الشيخ بودومة شيخ زاوية حمام بوحجر، كانت تقطن أسرته بوادي الحمام غربا من معسكر، وتعيش من الزراعة، ومن العوائد التي يقدمها الأتباع والأنصار، كما تقدم الضيافة لعابري السبيل والمساعدة للمعوزين، فاشتهرت بالكرم إلى جانب شهرتها بالعلم والتقوى في قبيلة بني هاشم وخارجها، يقصدونها لفض نزاعاتهم وللتحكيم في خصوصياتهم، وقد كان والده متزوجا بأربع نساء وهن وريدة ولدت له "محمد السعيد ومصطفى" والزهراء "عبد القادر وخديجة"، وفاطمة "حسين"، وخيرة أنجبت له "المرتضى".
كان تعليم عبد القادر الديني صوفياً سنياً، أجاد القراءة والكتابة وهو في الخامسة، كما نال الإجازة في تفسير القرآن والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة ليحمل بعد ذلك لقب حافظ، وبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته في مختلف المواد الفقهية، كما شجعه والده على الفروسية وركوب الخيل ومقارعة الأنداد فأظهر تفوقا مدهشا، ثم رسله إلى وهران لطلب العلم من علمائها، منهم الشيخ أحمد بن الخوجة فتعمق في الفقه والفلسفة، وتعلم الحساب والجغرافيا على يد الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي قاضي أرزيو، وقد دامت رحلته العلمية ما بين (1821-1823)، وبعد عودته للقيطنة زوجوه بإبنة عمه "لالة خيرة".
وبعد تحديد إقامة والده في بيته، لاصطدامه مع الحاكم العثماني لوهران، فاختار الأخير السفر لأداء الحج في 1825، فاصطحب ابنه معه وهو في الثامنة عشرة، فكانت الرحلة إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى القيطنة بالجزائر عام 1828، وبهذا اكتمل له العلم الشرعي، والعقلي، والرحلة والمشاهدة، ليُدرس بعدها، حينها الحملة العسكرية الفرنسية احتلت العاصمة في 5 جويلية 1830، واستسلم الحاكم العثماني الداي حسين، وللشعب كلمة أخرى، آنذاك بحث أهالي وعلماء غريس عن زعيم يأخذ اللواء ضد المستدمر، فأستقر رأيهم على "محيي الدين" لكنه اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد، وبعد مبايعة "محمد بن زعموم" مع "علي ولد سي سعدي" في المتيجة، انتقلت المقاومة إلى الغرب الجزائري أين التفت حوله الجموع بعد انتصاراته، وقد كان ابنه "عبد القادر" على رأس الجيش في كثير منها، فاقترحه للمنصب وتمت مبايعته في 27 نوفمبر 1832 وهو ابن 24 سنة، تحت شجرة "الدردار" ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واختار هو لقب "الأمير" بدل سلطان، توجه بعد البيعة إلى معسكر ووقف خطيبا في مسجدها فحث الناس على الانضباط والالتزام ودعاهم إلى الجهاد والعمل، ثم أرسل الرسل والرسائل إلى بقية القبائل والأعيان الذين لم يحضروا البيعة لإبلاغهم بذلك، ودعوتهم إلى مبايعته، ولما ذاع خبره تمت المبايعة الثانية في 04 فيفري 1833 بـ مسجد "سيدي الحسان" بمعسكر وممن حضر من "القبائل الشرقية والأحياء الغربية من معسكر كقلعة هوارة وبني شقران وبني غدوا وسجرارة وغريس وأعيان القبائل الشرقية كالعطاف وسنجاس وبني القصير ومرابطي مجاجة وصبيح وبني خويدم وبني العباس وعكرمة والمحال وفليته والمكاحلية وأحلافهم وأعيان مجاهر والبرجيه والدوائر والزمالة والغرابة وكافة قبائل اليعقوبية والجعافرة والحساسنة وبني خالد وبني إبراهيم ثم القبائل القبلية كأولاد شريف وأولاد الأكرد وصدامة وخلافة وغيرهم"، وقد وجه خطابه قائلاً ".. وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت بالمنصب مع عدم ميلي إليه".
عندما تولى الإمارة كانت الوضعية والظروف صعبة، إضافة إلى قلة الإمكانيات ووجود معارضين لإمارته، ولكنه استمر في الدعوة إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية ونبذ الأغراض الشخصية، كما جعل وحدة الأمة أساس لنهضة دولته واجتهد في ذلك، بالإقناع أو بالسيف ضدّ الخوارج أو من يساعد العدوّ، وقد استصدر فتوى من العلماء لمحاربة اعداء الدّين والوطن، وقام بإصلاحات اجتماعية كثيرة، وعمل على تكوين جيش منظم وتأسيس دولة موحّدة، وبذل وأعوانه جهدًا كبيرا لإستتباب الأمن، وقسّم التراب الوطني إلى 8 مقاطعات بمسؤوليها "معسكر (مصطفى بن أحمد التهامي)، تلمسان (محمد البوحميدي الولهاصي)، مليانة (محيي الدين بن علال القليعي)، المدية (محمد البركاني)، البويرة (أحمد الطيب بن سالم الدبيسي)، برج بوعريريج، سطيف (محمد بن عبد السلام المقداني)، الأغواط بشار (قدور بن عبد الباقي)، وبسكرة (فرحات بن سعيد)"، وكان أحمد بن سالم خليفة على "مقاطعة الجبال" ضمن هذه المقاطعات الثمانية في الدولة، كما أنشأ مصانع للأسلحة وبنى الحصون والقلاع (تاقدمت، معسكر، مليانة وسعيدة)، وشكل حكومته المتكونة من خمس وزارت وجعل معسكر مقرّا لها، واختار أفضل الرجال كفاءة ومهارة وأخلاقا، ونظّم ميزانية الدولة وفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد، كما اختار رموز العلم الوطني وشعار للدولة (نصر من الله وفتح قريب)، ولبطولته اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية "دي ميشيل" للهدنة في 1834، والتي بمقتضاها اعترفت بدولته، فأتجه بتنظيم شؤونها وتعميرها وتطويرها، وقد نجح في تأمينها، كما أنشأ عاصمة متنقلة سميت "الزمالة"، وكان قد أسّس قبلها عاصمة بعد غزو المحتل لمعسكر في حملة "كلوزيل"، وضع بعدها خطة تقضي بالانسحاب إلى أطراف الصحراء لإقامة آخر خطوطه الدفاعية وهناك شيد عاصمة "تاكدمت"، وأقام ثلاث حصون عسكرية، ثم المباني والمرافق المدنية والمساجد وغيرها، وهناك أمن أموال الدولة وجلب إليها سكانا من الكلغوليين وأرزيو ومستغانم ومسرغين والمدية، وقبل أن يمر عام نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره بعض القبائل، فنادى الأمير بالجهاد ونظم صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" التي قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة الحاكم "تريزيل"، وللانتقام أرسلت قوات وقيادة جديدة لدخول عاصمته بمعسكر وأحرقتها، ولكن الأمير حقق انتصارات دفعت لتغييرات أتت بالجنرال "بيجو"، الذي أنتصر عليه في "وادي تافنة" فأجبره على عقد معاهدة هدنة عُرفت بـ "معاهدة تافنة" في 1837، وعاد بعدها للإصلاح وترميم الحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، والقذر "بيجو" يستعد فينقض المعاهدة في 1839، بهجومه الوحشي على المدنيين، وحرق القرى والمدن، محققا عدة انتصارات على الأمير، الذي أضطره للجوء إلى "المولى عبد الرحمن" سلطان المغرب الأقصى، الذي سانده في حركته لاسترداد وطنه، ولكن الفرنسيين ضربوا طنجة وبوغادور بالقنابل من البحر، مما أضطره لتوقيع معاهدة "لالة مغنية" وطرد الأمير.
كان لتحييد المغرب ووقف مساعداته للمجاهدين الجزائريين دور كبير في إضعاف قواته، الأمر الذي حد من حركة قواته، ورجح كفة القوات الفرنسية، فلما نفذت إمكانياته استسلم حقناً لدماء من تبقى من المجاهدين والأهالي، وتجنيباً لهم من بطش الفرنسيين، وفي ديسمبر 1847 اقتيد إلى أحد السجون بفرنسا، ظل هناك يعاني من الإهانة والتضييق حتى 1852، استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ودُعي ليتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، وفي بداية الخمسينات أفرج عنه شريطة ألا يعود إلى الجزائر، فسافر إلى تركيا ومن اسطنبول إلى دمشق وكانت شهرته قد سبقته فاستقر بها وعائلته وأعوانه من 1856، أسس بها ما عُرف برباط المغاربة في حي السويقة (موجوداً إلى اليوم)، وسرعان ما أصبح ذا مكانة بين علماء ووجهاء الشام، وقام بالتدريس في المدرسة الأشرفية، ثم الجامع الأموي، وعند فتنة الشام في 1860 اندلعت أحداث طائفية دامية، ولعب دورا بفتحه بيوته للاجئين إليه من المسيحيين في دمشق كخطوة رمزية وعملية على احتضانهم، سافر للحج، ثم عاد ليتفرغ للعبادة والعلم والأعمال الخيرية هناك لمدة 27 سنة إلى وفاته في ماي 1883 (1300هـ) عن عمر يناهز 76 عاما، ودفن في سوريا، إلى جانب جهاده ترك العديد من المؤلفات القيمة ترجمت إلى عدة لغات، وعقب الاستقلال تم نقل رفاته في عهد الراحل هواري بومدين إلى الجزائر في 1966 ودفن في مقبرة العالية في مربع الشهداء، بعد حوالي قرن قضاه خارج بلاده.
وفي 3 أفريل 2006 افتتحت المفوضة السامية لحقوق الإنسان بجنيف معرضاً خاصاً له إحياءً لذكراه، كما شرعت سورية في ترميم وإعداد منزله ليكون متحفاً يُجسد تجربته الجهادية لاستقلال بلاده، يكن له الجزائريون كما السوريون والعرب كل التقدير، ليس لكونه مجاهداً ومصلحاً وحسب، بل أيضاً لكونه عالماً وفقيهاً وشاعراً، وداعية دؤوباً للتآخي بين شعوب الشرق، وترك أثرا طيبا ومؤلفات وأقوال في الشعر تبرز إبداعه ورقة إحساسه ومكانته الأدبية والروحية، منها كتاب "المواقف"، و"ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" كرسالة إلى الفرنسيين، و"المقراض الحاد لقطع لسان منتقض دين الإسلام بالباطل والالحاد" يبرز فيه فلسفته في الحياة ونظرته في شتى المجلات والميادين، وهناك العديد من الدراسات والمؤلفات حول شخصه المتعدد الأبعاد، ونال العديد من الجوائز والتكريمات، وفي الولايات المتحدة الأمريكية سميت مدينة بإسمه "قادر"، إلى جانب دول أخرى تعترف بشخصه العالمي المتميز، وتعمل مؤسسة "الأمير" منذ مدة بالجزائر في هذا الاتجاه، وفي انتظار أعمال حوله، يرى الكثير من المثقفين إلى اليوم أنه لم ينل حقه من الإنصاف، رحمه الله.