صورة الأمير عبد القادر في كتابات الألمان (موريتس فاغنر وكارل بيرنت أنموذجا)
بقلم: أ.د. حمودي محمد-
الأمير عبد القادر من الشخصيات التاريخية التي لاقت استئثارا من لدن العرب والمسلمين والأوروبيين عموما، بما عرف عنه من علم ودراية وتصوّف، وفروسية وشجاعة، وسماحة وعفة، وثقافة ومثاقفة وحوار، وفلسفة اختلاف. فقد مثّل عشيرته الأقربين وقومه ومجتمعه، وسعى سعي أبائه ونظرائه حسبما تقتضيه الظروف والتقاليد السائدة، يطلب الأمن والعلم والعمل والجهاد والعمران والبناء والحجّ، ويفيد من الرحلات- هنا وهناك لاسيما المشرقية منها- فوائد دينية ودنيوية … ويقتبس ما يناسب من العادات … ولم يشعر قط أن الصراع الثقافي بين الشرق والغرب يؤذن بالانتهاء يوما فقد ظل يقرر ويكرر منهجه في تدريس الحديث والتوحيد للخاصة والعامة طول مراحله التعليمية في الإمارة والمنفى والمهجر(1).
ولعلّ ما يعنينا هاهنا احتفاء الرحالين والكتاب الألمان بعد أن دبّج فيه بعض الفرنسيين والإنجليز كتابات تأرجحت بين الموضوعية والنزاهة حينا، وبين التطرف والتشويه والطمس أحايين أخر. ومن بين الكتاب والرحّالين الألمان ممّن عُنُوا بالأمير، وكلّ ما له علاقة بشخصيته ماديا ومعنويا، وذكروه في رحلاتهم، وصوّروه في كتاباتهم، موريتس فاغنر Moritz Wagner ويوهان كارل بيرنتJohann Carl Berndt .
ومن القول النافل أن كلا من فاغنر وبيرنت تنقلا إلى الجزائر في الفترة نفسها، أي بين 1835 و 1836، غير أنهما لم يلتقيا، ففاغنر يذكر في كتابه: (Reisen in der Regentschaft Algier in den jahren 1836, 1837 , 1838 ) المترجم إلى العربية: “رحلات في إيالة الجزائر في سنوات 1836، 1837، 1838“ أن أحد الألمان كان قد التقى به في بيت القنصل الفرنسي في مدينة معسكر، وكان ذلك في الفترة التي كان فيها بيرنت موجودا في مدينة تلمسان أو نواحيها، ولكنه لم يتحدث عن بيرنت، وأغلب الظن أنه لم يسمع بوجوده عند الأمير عبد القادر إطلاقا(2).
موريتس فاغنر عالم طبيعي ورحّال ألماني (1813-1887) نظم أشعارا وكتب مقالات وقصصا، التحق بوظيفة تجارية في مدينة مرسيليا مكنته من زيارة الجزائر عام 1835، ثم العودة إليها مرة أخرى في أكتوبر 1836. زار مدينة معسكر تحت حماية الأمير عبد القادر، وتطرّق في كتابه السّالف الذّكر إلى شخصية الأمير عبد القادر، وهو في معرض
حديثه عن “الوجه الآخر لمقابلة التافنة“ التي جرت بين الأمير والجنرال الفرنسي بيجو، بطلب من هذا الأخير، وههنا نلفي حقائق تاريخية ساقها فاغنر تتضارب والتي كنا اطّلعنا عليها من ذي قبل كتب التاريخ المدرسية والعامة. ولعل مردّ الأمر يعود إلى المصادر الفرنسية التي اعتمدها مؤرخونا في هذا المجال، والتي كانت ميزتها في الغالب، التدليس والتزييف والمغالطة، والأجدر(أن يرجع الباحثون، عندما يتصدون لكتابة تاريخ الجزائر، إلى مصادر غير فرنسية، قد تساعدهم بشكل من الأشكال على الوصول إلى معرفة حقيقية هذه الأحداث أو تلك، أو هي تطلعهم على الأقل على أفكار وآراء جديرة بالدرس والمناقشة. ومعروف أن فترة الأمير عبد القادر أحفل فترات تاريخنا بالبطولات وأبعدها أثرا، ومن ثم فإن معرفة الوجه الآخر لتلك المقابلة التاريخية من شأنها أن تلقي ضوءً على جانب من هذه البطولات أكثر ألقا وأبعد أنفة وشمما في حياة الأمير على الأخص)(3).
لقد نقل إلينا فاغنر صورة الأمير عبد القادر الفيزيولوجية والمعنوية، فهو في الثانية والثلاثين من عمره، أي في عام 1838، نحيف الجسم، جميل المظهر، شديد بياض البشرة، له لحية وشارب شديدا السّواد غير أنّهما ليس كثيفين، وقد كسر أحد أسنانه الأمامية، أمّا الباقية فليست جميلة كما هو الحال عند أغلب العرب(4). على أنّ الكاتب يصدر هذا الحكم من باب التّعالي التي يمارسه الأوروبيون في علاقاتهم مع غيرهم من الأمم الأخرى، فبعض الألمان لم يشذوا عن غيرهم من الأوروبيين، إذ نلفي كتاباتهم لا تخلو من إظهار العداء للجزائر.(5)
ويؤكد فاغنر أنّ الأمير اتّسم أيضا بالبساطة والتّواضع في مظهره وملبسه، لدرجة أنه يعتاص على الرّائي له من أن يصل إلى معرفته بين جمع غفير من أهله العرب. وهو أيضا بسيط في مسكنه الذي هو عبارة عن خيمة عادية، كما أنّ طعامه زهيد، وفضلا عن ذلك كان ليّن الجانب، طيّب المعاملة، عالي الهمّة، فارسا مغوارا، بل يُعدّ من أحسن الفرسان في الجزائر قاطبة(6). إنها أخلاق الفرسان العظام في الحرب والسلم، في الشدّة والرخاء، وصفات المؤمنين الذين عاهدوا الله ما صدقوا، فالأمير عاش بهذه الخصال حتى بعد كسرت شوكته، وانتهى به المطاف خارج دائرة الإمارة، وشهادة الكولونيل الفرنسي دوماس Dumas في رسالة بعث بها إلى أسقف الجزائر في عهد الأمير دوبيش Dupuche يرغِّبه فيها بزيارة الأمير في منفاه الثاني في “بوpau ” دليل على صدق ما أكّده فاغنر سالفا. يقول دوماس:(إنّك أيّها الأسقف ذاهب لترى الأمير، وحقا سفرك هذا لا يذهب عبثا. ولا يخفى أنّك عرفت الأمير عبد القادر عندما كانت بلاد الجزائر كلّها تعترف بسيادته وسطوته وسنجده الآن من حيث عزّة النفس وقوة الجأش أعظم وأكثر مما كان، وستجده ودودا بشوشا في وجه من يزوره حازما لا يظهر الضجر، عاذرا لأعدائه متغافلا عن إساءتهم، لا يفكّر في نفسه لأنه مشغول بآلام غيره).(7)
ومن مزايا العرب الأقحاح التي تزيّت بها شخصية الأمير، الأنفة والعزّة، ومن أمارات ذلك – مثلما يورد فاغنر- تأخّر الأمير عن مقابلة الجنرال بيجو الذي كان قد استخفّ بالأمير وبجيشه، يقول فاغنر:(ولعلّ سبب تأخر الأمير عبد القادر لم يكن يرجع إلى عدم الثقة أصلا، وإنما الأنفة والشمم. فقد أدرك أنه لا يستطيع أن يظهر أمام جبهة العدو بصفته سلطانا، وإنما الذي يستطيعه هو أنه سيقف مع الجنرال الفرنسي على قدم المساواة. فحاول أن يتجنّب هذا بدافع الأنفة التي جبل عليها بقدر ما هو بدافع الفطنة وأصالة الرأي، لأنه لم يكن يريد أن يتنازل عن شيء من كرامته أمام نظر عربه)(8).
إنّ تكوين الأمير الدّيني، وتشبّعه بالثّقافة القرآنية(الإسلامية)، وتعدّد ثقافاته- كما يذكر فاغنر- جعله معتدلا في أحكامه، تقيًّا وورعًا، ومتحمسا لدينه، متعففا ووفيا، حيث ظلّ مخلصا لزوجته ولم يفكّر في الزواج بغيرها، كما فعل أبوه محي الدّين، وغيره من الشّخصيات البارزة، رغم إلحاح أقربائه عليه. ويذكر فاغنر كذلك، إنّ الأمير أبطل أحكام الإعدام المترتّبة عن الخيانة الزّوجية، وإن ظلّ يعاقب عليها بشّدة.(9) ولعلّ هذا الأمر يحتاج إلى إثبات تاريخي، وتحرّ علميّ دقيق، إذ لا يمكن للأمير أن يتجاوز حدّا من حدود الله، ثم إن النص الشرعي كما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ، لم ينعته بالإعدام، وإنما هو رجم حتى الموت بالنسبة للرجل والمرأة المحصّنين المبتعلين، والجلد بالنسبة لمن دون ذلك.
ولا غرو في أن يتّصف الأمير بالصّبر عند الشّدائد، والتجلّد والمنعة والعفّة، وهو الذي (أشبع نهمه من القرآن والحديث، وأحاط بأسباب تطلّعه وتحقّقه من وراثة ودراسة كلّ ما تشتهيه الأنفس، وتطمح إليه الرغاب).(10) وممّا يشي إلى صبره عند النّكبات والأرزاء، ما نقله فاغنر، من أنّه لم يفتتن ولم يقنط من رحمة الله بعد أن خطف منه المنون، ابنه الوحيد وقرّة عينه محمّد، وهو في الرّابعة من عمره، بل قال عند نعيه بموته وهو في منطقة تاقدامت: “هذه مشيئة الله”، ثم صلَّى عليه ونسي آلامه. ولعلّه أشاد بصبره حين اشتداد الخطوب والرَّزايا، قائلا(11):
وَمِن عَجَبٍ صَبرِي لِكلِّ كَريهَــــة * وحَملِي أَثقَــــالاً تُجَــــلُّ عَنِ العَـــــدِّ
إن تكوين الأمير الدّيني الواعي والعّميق، وتشبّعه بالثّقافة الإسلامية الثرّة، وامتاحه من المرجعيات الإسلامية الوارفة الظّلال(صنعت منه إنسانا استثنائيا حربا وسلما(12) فنلفيه متسامحا مع شعبه، ومع الفرنسيين في المواقف التي تستدعي التسامح واللّين. وغير متعصّب لرأيه، دون روية أو إعمال فكر، يقول فاغنر:(وبرهن أكثر من مرة على أنه يريد مسالمة الكفار، فاستضاف من زاره من الرّسل الفرنسيين والرّحالين وأكرمهم وعاملهم بلطف، ولم يكن يرى ما يحول بينه وبين أن يتحدّث معهم في كلّ شيء حتى في المواضيع الدينية. وكان يتكلّم بحيوية، ولكنه لم يكن يحتدّ أبدا)(13)
إنها النزعة الإنسانية التي سعى الأمير إلى تأكيدها للأنا والآخر على السّواء، دون النظر إلى الفروقات الجغرافية أو العرقية أو العقدية، ذلك أن (أساس الديانة، وأصولها، خلاف فيها، بين الأنبياء، من آدم إلى محمد عليه الصّلاة والسّلام, فكلّهم يدعون الخلق إلى: توحيد الإله وتعظيمه).(14) ولعلّ ما يعزز ما نذهب إليه من تسامح الأمير واعتداله في الرأي، وعالمية فكره وبعده عن العنصرية، قوله:(لو أصغى إلي المسلمون والنصارى؛ لرفعت الخلاف بينهم. ولصاروا إخوانا، ظاهرا وباطنا. ولكن لا يصغون إلىّ).(15)
هذا وليس غريبا أن يتّفق موريتس فاغنر الألماني مع شارل هنري تشرشل الإنجليزي على إنسانية الأمير وسماحته، حيث شهد تشرشل بأنه (كلّما كان عبد القادر حاضرا كان الفرنسيون الواقعون في قبضته يعاملون كضيوف لا كأسرى حرب. فقد كان كثيرا ما يرسل إليهم سريا كميات من النقود، تختلف قيمتها من خمسة إلى عشرين دولارا، من جيبه الخاص. وكان يوصي بهم أن يكسوا ويطعموا جيدا. بل لقد ذهب عبد القادر إلى أبعد من ذلك فمكنهم من تلبية حاجاتهم الروحية … إن عبد القادر، بإنسانيته، قد فعل أكثر من مجرد افتتاح عهد جديد في معاملة الأسرى بين العرب، فهو الذي بفضله أصبحت حياة الجنود تنقذ في الميدان ويؤسرون بدل أن يُقتَلوا).(16) هذه شهادة أخرى تشي بعظمة الأمير عبد القادر الدينية، ونزعته الإنسانية العالمية.
وفضلا عمّا سبق ذكره، اشتهر الأمير بالنّزاهة والنّقاء، ونبذ كل أشكال الرّشوة، ومن أمارات ذلك، أن صوريون حمل إلى الأمير هدايا ملك فرنسا، وتقدّر بأكثر من مائة ألف. فاستقبله الأمير بحضور عدد كبير من رجاله من رؤساء القبائل، ولعلّه بذلك أن يحملهم على الظّن بأن ملك فرنسا يدفع له الجزية. إنّها درس في النّزاهة والوطنية، فهو لا يُسترشى على أغلى ما يملك، أرضه وأرض أجداده. وبعد أسبوع من تسلمها قدّم الأمير هذه الهدايا للآخرين باستثناء زهرية وبندقية فضّية، احتفظ بها لنفسه. أمّا الباقي فقد انتقل بعضه إلى ملكية سلطان المغرب وكبرائه والبعض الآخر إلى المشايخ والمرابطين في منطقته وهران والتيطري.(17)
إنّ قُرب فاغنر من الأمير بحكم تنقّله إلى مدينة معسكر لأداء مهمته، بمساعدة رجال الأمير وبالأخص حاكمها الحاج بخاري، جعله يكتشف السّياسة الرّشيدة التي يسوس بها الأمير رعيّته، سياسة قائمة على العدل والإنصاف، سياسة
عمريّة، مبدؤها: “لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف”. يقول الأمير عبد القادر(18)
وَقَد سِـــــــرتُ فيهم سِيــــَرةً عُمـــــــريَّة * واسْقَيتُ ظَامِيهَا الهِدَايـَــــــــة فارتـــــَــــوَى
وإنّي لأَرجُو أن أكُــــــــــــون أنَا الذي * يُنــــــــيرُ الدَيَاجي بالسَّنَـا بَعدَ مَا لَــــــــــوَى
ويضيف فاغنر، بأن عدل الأمير وحِلمَهُ وإنصَافَهُ عمّ أرجاء البلاد، ولذلك قلّت عمليات الإعدام في أيامه، ولم يتعرض إلى أي محاولة اغتيال حتّى في عزّ المحن والأزمات التي تغرّض لها. في حين أنّ أغلب الدّايات كانت نهايتهم دموية مأساوية، فالدّاي حسين على نفسه انكفأ، ولم يستطع فِكَاكًا من القصبة، ولم يكن هو وغيره من دايات الجزائر باستطاعتهم التنزُّه بين النّاس في الأماكن العامة دون حراسة خاصة. وأمّا الأمير فكان يعيش في خيمة مفتوحة يسكنها مع أهله، وظلّ يتنقل بمفرده بين القرى من غير سلاح، بلا حرس مدجّج وبلا بروتوكولات كما يفعل غيره من القادة. بل إنه كان يستقبل بحفاوة منقطة النظير في حلّه وترحاله.(19)
لقد هال فاغنر موقف الأمير الحليم الشّهم من قبيلة الحشم التي خدعته وخانته، ولم تراعي لذلك حرمة أو عهدا، إذ عفا عنها بالرغم من نهبهم لقصره واستلاءهم على مُلكِهِ، وخاطبهم:(أمضوا في سبيلكمǃ لقد عفوت عنكم ونسيت ما مضى. لقد أراد الله أن يعلمكم نظامي مرة أخرى. احتفظوا على كلّ حال بما سلبتموه منّي إذا كان لا يُعذّبكم ما تأكلون من مال حرام. ولكن إيّاكم أن تعُودوا إلى ذلك مرّة أخرى)(20)
هكذا كانت صورة الأمير عبد القادر في متصوّر الرحالة الألماني فاغنر، من حيث أنّه عاش فترة زمنية في حماية الأمير في بعض المناطق التابعة له، وسمع عن خصاله من أصدقائه، وقرأ عنه الكثير. وعموما كانت صورة حقيقية وليست سرابية Mirage كما عهدناها لدى بعض المستشرقين، أو بعض الغربيين كتابا كانوا أو رحالة أو عسكريين. فالأمير سحر هؤلاء بأخلاقه العالية وبفروسيته وعلمه وتصوّفه، وجهاده المستميت في سبيل الله لتحرير بلاده، ورفع راية الإسلام عاليا، ودحر الظلمة والطغاة المستدمرين، ممّن عزموا على استلاب أراضي المسلمين الأحرار، واستغلال خيراتهم، وإبادة أبنائها. ولا عجب في ذلك فَلاَإنسَانِية الغرب تجعله يحسد البشر عن أي تقدّم يتهيّأ لهم، إذ أن تقدم البشرية من خارج نطاق المجموعة الغربية يعني عند الغرب إفلاس سوقه(21).
وإذا كنّا نعضد رؤية الناقد الخنذيذ عبد المالك مرتاض من أنّ الذين كتبوا عن الأمير، إلاّ ما يُستثنى، هم إمّا مُؤرّخ متحيّز، شأن كثير من الأجانب، وإمّا قاصر مستخذ شأن كثير من كتّابنا المبتدئين، ومن مؤرخينا الناشئين(22). فإننا – من جانب آخر- نلفي لفيفا من الكُتاب الأجانب صَنعُوا الاستثناء، وبالأخص الألمان منهم. ويعدّ يوهان كارل بيرنت واحد من هؤلاء الألمان. فقد قدم إلى الجزائر مع مطلع القرن التاسع عشر(1835)، حيث التحق بجيش الأمير عبد القادر، وعمل تحت إمرة بعض خلفائه. عُرِفَ باسم عبد الله. نشر كارل بيرنت كتابه بعنوانه الأصلي: Abdelkader order drei jahr eines Deutschen unter den Mauren “ثلاث سنوات من حياة ألماني بين العرب”. ويشير المترجم أبو العيد دودو إلى أنه أضاف كلمة (الأمير) التي أصبحت صفة ملازمة لعبد القادر بن محي الدّين بدل لقب (السلطان) التي كانت لازمة له(23).
لقد أشَاد المؤرّخون الجزائريون والمشتغلون في حقل السّياسة والأدب، بكتاب كارل بيرنت هذا، من حيث إنّه تفرّد بمعلومات عن الوجود الفرنسي في الجزائر عموما، وعن الأمير عبد القادر ومعاركه مع الفرنسيين خصوصا. وتميّزه بالموضوعية في نقل الحقائق التّاريخية، ورصدها بتفصيل دقيق. والمزيّة في هذا، أنّه كان شاهد عيان، سجّل كل ما حفظته ذاكرته من وقائع وأحداث، كما كان أحد المشاركين في صنع هذه الأحداث. فالفرنسيون الذين يملكون عن الأمير (أكثر من غيرهم وثائق سياسية عن حياته وعلاقاته ومجالات تفكيره، لم يكتبوا عنه إلاّ أشياء متفرقة موجّهة ترمي في الغالب إلى إثبات تفوّقهم من ناحية وتخدير الجزائريين بإثبات صداقة الأمير للفرنسيين بعد حربه لهم من ناحية أخرى)(24).
يستهلّ بيرنت الحديث عن الأمير عبد القادر في مؤلفه السّالف الذّكر، بداية من الفصل الخامس، حيث يصوّر ملامح شخصيته ويعدّد خِلاَله التي جسّدت روح الدين الإسلامي الذي تشرّب من ينابيعه العذبة، وعكست قيم ومبادئ الإنسان العربي الأصيل. يقول بيرنت:(لقد جمع الأمير بين الدّهاء العربي والشّجاعة الحربية والطّموح، ولكنه كان يتّسم بالحِلم والعدل على قدر ما تسمح به مواقفه وتطلّعاته. وهو يحيا من الوِجهة الدّينية حَياةً وَرِعة، مُتمَسِّكا بالعادات والشّرائع الظاهرية، على أنه كان يستعمل ذلك فيما يبدو سِتارا لمشاريعه. فلو أنّ حماسه الدّيني هو الذي كان يوجه أعماله السّياسية، لكان من المستحيل ألاّ يظهر ذلك في الجوانب الأخرى من طبيعته. على أن الأمر ليس كذلك، إذ يؤكّد سلوكه في كلّ مناسبة مدى تسامحه وخلوّه التّام من الأحكام المسبقة على من يخالفه في الرأي. وهو مُتمكّن من الكتابة العربية واللّغة العربية، ومتمكّن كذلك من الأدب العربي، ويخصّص أوقات راحته لقراءة الأدباء والشعراء العرب، ويعرف تاريخ الخلفاء، وكان يشعر في نفسه، على ما يظهر، القدرة على أن يعيد للهلال ما كان له من غلبة وعظمة)(25).
لعلّ النّاظر في قول كارل بيرنت يستكشف صورة الأمير عبد القادر الواقعية، فكريا وفنّيا وسّياسيا واجتماعيا. رسمها بيرنت بدقة متناهية، بحيادية وبنزاهة وإخلاص، دفعه إلى ذلك، إعجابه بالأمير، بعلمه وتواضعه، وعدله وحلمه، وبسالته. والحقّ أن هذه الخصال التي تميّزت بها شخصية الأمير جعلت الآخر يكنّ له كلّ الإعجاب والاحترام، على اختلاف جنسه وعرقه ومنبته، وعلى مرّ العصور والأزمان. فهذا الرّحالة الإنجليزي ليدر يشيد بالأمير، قائلا:(كان رجلا عظيما وقد أجمع على عظمته أصدقاؤه وأعداؤه على حدّ سواء…).(26) وهذا سيناتور أمريكي يدّعى شارل إي غراسلي- كما ينقل عبد المالك مرتاض عن جريدة الرأي الصّادرة في الحادي عشر يونيو عام 2002- ينوّه بالأمير عبد القادر، قَائلاً:(الأمير عبد القادر رجل حقيق بالإعجاب لالتزامه لصالح الحرّية والعدالة …[وأنّ] دفاعه المستميت على [كذا] بلادِه ونِضاله من أجل الحرّية قرابة عقدين جعلا منه أكبر بطل عرفته الجزائر).(27)
ويعرّج بيرنت في حديثه عن الأمير إلى الجوانب الاجتماعية والدّينية والانتروبولوجية المتعلّقة بوصفه إنسانًا من جهة، وقائدًا متميّزًا عن الرعيّة من جهة أخرى، وحقيق بالتّنويه، أنّ الصّفات التي خلعها بيرنت على الأمير ليست ممارسة ذهنية لكتابة تخييلية فنّية، وإنّما هي حقيقة معيشة ذلك أنّ بيرنت عاش بالقرب من الأمير باعتباره جنديا من جنوده، ومن ثمّ رصد كلّ ما له وشيجة بشخصه. على الرغم من أنّ الصّورة التي بلورها الآخر حول الأنا العربية المسلمة المتمثّلة في(الأمير) ترتبط بوعي خاص، مستلهم من واقع ثقافي أجنبي يكشف عبره الفرد أو الجماعة المـُكَوِّنة له، أو التي تروّجه وتتقاسمه، عن الفضاء الإيديولوجي الذي يتموضع داخله(28).
ولعلّ ما يؤكّده بيرنت ركحا على ما سلف، تمسّك الأمير عبد القادر بعادات عشيرته، حيث تميّزت عيشته بالبساطة والتّواضع، في ملبسه ومأكله، فهو لا يرتدي أبدا ألبسة مُذهّبة أو مُفضفضة، ولا يأكل أكل الملوك أو الأمراء بل يتقاسم اللّقمة مع إخوته أو بعض خلفائه، دون غلو أو إسراف، يأكل بالملاعق الخشبية أو بيده، مع أن الفرنسيين أهدوه الفناجين والأواني الخزفية، ولكنّه لم يستعملها وإنّما كان يوزّعها على خاصته. وحسب بيرنت فغالبا ما كان يُلفيه يتناول السُّويقَ بالماء في المعارك. وأمّا بالنسبة لحياته الخاصّة، يضيف بيرنت، فهو لم يتزوّج إلاّ امرأة واحدة، ولم يكن يراها إلاّ مرتين في العام، ولا يقيم عندها أكثر من عشرة أو خمسة عشر يوما. ومع ذلك كان عفيفا طاهرا، مُتجنِّبا النّزوات، وما يُفسد الرُّوح الإنسانية ويُلوِّثَها(29).
هذا وقد أشاد كارل بيرنت بتسامي الأمير وعفّته ودهائه، فهو لم ينشغل في حياته بحُبّ النّساء، ولم يلتفت إليهن، بل اهتمّ بالمجد وتحقيق البُطولة، ونهج سمت الشُّعراء والفرسان العرب الكبار. فَحِلمه ولَباقته ولُطفه جعلته يلقى استئثارا وحبّا واحتراما من شعبه، ومن الأعداء سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين. والبيّنة على ذلك، تمكّنه من كسب (مودة حاكم وهران في ذلك الحين، وهو الجنرال ديميشيل، بحيث راح هذا يفعل كلّ ما في وسعه ليرفع من شأن الأمير. فلم يبع له البارود والرّصاص والبنادق فقط، وإنّما قدّم له هدايا مهمّة، مكنته من إخضاع معظم القبائل العربية التي تقيم فيما بين المدية ووجدة المغربية)(30).
ولمـّا كان بيرنت شاهد عيان حصيف، فإنه سجّل كلّ الأحداث التي تعلّقت بالأمير، من معارك ووقائع جرت بينه وبين الفرنسيين من جهة، وبعض القبائل العربية في الجزائر التي كانت موالية وعميلة للاحتلال الفرنسي، من جهة أخرى، وتواطأت معه لسحق وجود الأمير ودحر كيانه على بكرة أبيه. وقد رصد بيرنت تّفصيلات تلك الوقائع والأحداث عن الأمير وجيشه وحاشيته، بشكل دقيق، لكونه خاض هذه المعارك شخصيا، ودافع عن الدّين الإسلامي ضد المسيحيين كما أورد في أحاديثه.(31). كما تحدّث عن مصير الأنفال التي غنمها الأمير بعد إلحاق الهزيمة بالقبائل الموالية للفرنسيين، والتي كانت خمسا وعشرين امرأة وجارية، واثنا عشر جملا، وعددا من الأغنام والأبقار، حيث قدم السّبايا من النّساء هدايا للرّؤساء من أتباعه، وباع العبيد والجمال والقسم الأكبر من قطعان الماشية لمن يدفع أكثر من غيره، ودفع المتأخِّر من رواتب جنوده(32). وهاهنا تبدو شخصية الأمير عبد القادر ذات البُعد الدِّيني في تعامله مع تلك النِّفال التي غنمها في معاركه، وقد فضٍّل بها المسلمون على سائر الأمم الأخرى، وإلاّ دخلت في باب حكم آخر.
وفضلا عمّا سبق، ثمّة صورة أخرى للأمير عبد القادر يلتفت إليها بيرنت، وهي غضب الأمير من موقف سلطان المغرب المخزي بعد أن ألمـّت به أزمة خانقة، حيث نقصت له الذخيرة، من بارود ورصاص، وكذا المواد الغذائية والألبسة والأفراد. وبعد طول انتظار، لم يتلق عبد القادر من السلطان غير التأكيدات الأخوية، والاعتذار له عن عجزه في تقديم أية مساعدة. يقول بيرنت:(كنت معه ومع أحد إخوته في خيمته عندما وصلته رسائل سلطان المغرب، فكانت لي ملاحظته بدقّة. لقد فتح الرّسائل بلهفة، وراح يقرؤها، فارتسم الغضب على وجهه، وعند الانتهاء منها رمى بها إلى أخيه. وتناقشا بعد ذلك قليلا في مضمون الرسائل، ثم قال الأمير عن سلطان المغرب “يخاف كي الشماتةǃ”، ومسح لحيته بيده، والتفت إلي بكلّ هدوء وطلب منّي أن أحدّثه عن مضمون الرسائل التي كنّا قد استولينا عليها).33) وهكذا فعلى الرّغم من أنّ الأمر مستفحل والأزمة أعسر، إلى أنّ الأمير كان مُتجلّدا(نهض بمهمة الجهاد على أقدر ما يكون بطولة واستماتة وعزما، وفاعل المحتلّ المستعمر بسلاح النّار وقاومه بالصّبر، ونازله بالكلمة والموثق).(34)
والواقع أن الخيانات المتّعاقبة التي تعرّض لها الأمير عبد القادر من لدن القبائل العربية، كقبيلة الدوائر نواحي وهران، وقبيلة البرجية الواقعة بين معسكر ومستغانم، وبعض القبائل الصّحراوية، قصمت ظهره وهدّته، وتوالت حتّى تكسّرت النّصال على النّصال، ولكم هي الخيانة أكثر وقعا، وأشدّ مضاضة إذا كانت من ذوي القربى. فما أشبه حاله بحال الشّاعر العربي:(35)
فَلَو كَانَ رُمحــــــــاً وَاحِـــدًا لاتَقَيتُــه * ولَكِنّــه رُمــــحٌ وثَــــــــانٍ وَثَــالـِــــــــــــــــــثُ
هكذا تجرّع الأمير مرارة الانسحاب من ساحة الوغى التي صال وجال فيها، مُكَبِّدا جيش فرنسا خسائر فادحة. وهو القائل:(36)
سَلُـــــــــوا تُخبِرُكُـــم عنّــا فَرَنسَـــــا * ويَصــــدُقُ إن حَكَـــت مِنهــا المقَـــــــالُ
فَكَم لـــي فِيهم من يَـــومِ حَـــــــــربٍ * بِهِ افتَخَـــرَ الزَمَــــــــــانُ وَلا يـــــَـــــزَالُ
والحقّ أنّ الأمير كان عزيز النّفس، أبيّها، لا يرضى من الغنيمة بالإياب، إذ وطّن نفسه على مقارعة الأعداء، وهزم الأبطال، ولم يستنكف أن يخَلِّص بلاده من براثن المحتلّ. ومن أجل ذلك لم يقوَ على الانكسار والخيبة لأنه لم يعتد على الاستخذاء والاستكانة يقول بيرنت: (وترك مع عدد من رجاله المخلصين الجبل وميدان المعركة، الذي كان فيه قبل فترة قصيرة يقود جيشا قويا، كسب به احترام الأعداء والأصدقاء. وكان يبدو أن زغردة نساء القبائل، اللّواتي اجتمعن على طريقه، كانت تعبّر عن الفرحة بانسحابه أكثر ممّا تعبّر عن الفرحة برؤيته. لقد خامرته هو نفسه على الأقل مثل هذه الأفكار. كان شاحب اللّون، وكانت هناك ابتسامة مريرة تحوم حول فمه).(37) على أنّه في واقع الأمر كان يستشعر نهاية مقاومته في كل مرّة، فتجربته الحربية وتمرّسه الجهادي أوحيا له أن الفشل المحتوم سيكون يوما ما، نتيجة خذلان القبائل له، وهو ما يتبدّى في الرسالة التي بعث بها إلى دويش:(كنت أحارب الفرنسيس. وليس لي أمل أن أرى نهاية حميدة لي في هذه الحرب التي ابتدأت من سبتمبر سنة ثلاث وثلاثين. مع أنني كنت أعتقد أني أقوم بالواجب الديني ، وحفظ بلادي.
وأخشى أن أتلقّى شبه الملامة من قومي الذين وثقوا بي. وحلفوا ألاّ يتركوني. وفي هذه المدة عرضت على الحكومة الفرنسية مقدمات كثيرة. وهي ترك السلاح مقابل شروط. وزيادة على ذلك، كان قد عرض الماريشال بيجو مليونا لأضع السلاح فلم أقبل ذلك منه. محافظة على عهدي)(38)
وهذا لا يعني أنّ السّخط لحق الأمير من النّاس جميعا، فثمّة من أخذ منهم الحزن والكمد كلّ مأخذ، و(صاروا آسفين تتصعّد زفراتهم وتنسكب عبراتهم لاسيما شيعته وأهل محبته كيف لا وقد طار من بينهم من كانوا يستمطرون خيره ويقيهم اعتداء العدوّ وشرّه ويحيطهم من كلّ مكروه وينيل كلّ واحد منهم ما يؤمّله ويرجوه).(39) بل إنّ العظيمة تفاقمت أكثر، حين شاع تسليمه عند أهل الجزائر، حيث اشتغلت المنادب في المدن والقرى والبوادي، وكثُر النّواح من النّساء في ولاية وهران، فاخبر الحاكم وطلب منه منع ذلك فأجاب الجنرال دعهم يبكون فإنّ هذا عِزُّنا وعِزُّهم قد ذهب.(40) وها هنا تتبدّى مكانة الأمير عبد القادر العالية حتّى عند أعدائه من الفرنسيين، بما تمتع به من رجولة وإخلاص وسماحة.
لقد أسهمت إنسانية الأمير عبد القادر واحترامه وتقديره لغيره من الغربيين المسيحيين في تغيير صورة العربي المسلم لدى الآخر، وكسب ثقته. فهذا بيرنت وهو ألماني مسيحي لطالما ظلّ يكنّ احتراما خاصا له، بالرغم من أنه سعى سعيا حثيثا أكثر من مرة الفرار من مُعسكَرِه. يقول بيرنت: (إلاّ انّه من واجبي أن أعترف أيضا أن شخصية الأمير عبد القادر وحضوره كانا يحدثان أثرا في نفسي، بحيث إنّني لم يكن من السّهل عليّ أن أتخلّى عنه فأشركت محمّدو في مشروعي وشرعنا في تنفيذه … ولمـّا كنت لا أفكّر إلاّ في مصلحة الأمير، كما يعرف ذلك هو نفسه، فقد أشار عليه أن يدفع لي أيضا نفس الرّاتب الذي يتقاضاه العُمّال).(41) ولبيان إنسانية الأمير في أكثر من موقف وموطن، يذكر بيرنت وهو خير شاهد على ذلك، لأنه حضر وبصر، وأكّد وأصر، موقفين يشيان إلى هاتيك الخصال. وأمّا الأوّل، فحين قام بيرنت بإنقاذ طفل من النار التي أشعلها في قرية البرجيين العميلة لفرنسا بأمر من الأمير، يقول:(وهذا الطفل البريء، الذي لم يفعل ما يستوجب غضبك، فحملته إليك، وهو الغنيمة الوحيدة التي غنمتها من هذه المعركة. نظر إلي طويلا نظرة جدّ رهيب، تصوّرت معه في البداية أنه يعبّر به عن استنكاره لمحافظتي على حياة ذلك الطّفل. وأخيرا قال لي. أشكرك وحق سيدي بومدين، لقد أصبت وتصرفت كما يتصرف المؤمنǃ).(42) وأمّا الموقف الثاني، فتجلّى عندما فوّض الأمير عبد القادر لبيرنت ومن معه بقطع الأخشاب من أفضل أشجار البساتين كلّها، ولم يفعلوا، لكونها لم تفِ بالغرض أولاً، وثانيا، وهذا ما يعنينا هنا، أنهم أرادوا أن يسلكوا سلوكا يتّسم بالإنسانية والرّحمة حتى لا يحرموا التُّعساء من الأتراك والكراغلة، الذين كان عليهم أن يدفعوا ضرائب مرتفعة، من أشجارهم المثمرة بالقضاء عليها دون مراعاة لأي شيء.(43)
وبالمقابل، وبالرغم من أنّ كارل بيرنت قدّم صورة مُعقلنة وواقعية للأمير عبد القادر في مَواقف كثيرة، إلاّ أن أحكامه لم تنسلخ من الرؤى النّابعة من الإحساس المخيالي. وهذا يعني أن آخره الحضاري مترسّب أبدا في لاوعيه، الذي هو في الواقع صورته، (والصّورة بناء في المِخيال، فيها تمثُّل واختراع. ولأنها كذلك فهي تُحيل إلى واقعُ بَانِيهَا أكثر ممّا تُحيل إلى واقع آخر).(44) فَالنَّاظر في بعض خِطاباته يُلفيها تحمل بين طيّاتها نوعا من الاستعلائية الصَّارخة، تنمُّ عن عِدَائية مُنغَرِسَة ومُتَجَذِّرة في جيناته كبقية الغَربيين عُموما، والأوروبيين خُصوصا. فلطالما أثنى هو على شخص الأمير وجعله في مصاف الأبطال العِظام في العَالَم، انطلاقا من أنّ البشر (هم صنائع لأفكارهم، وأنّ أفعالهم لا تتحدَّد بوساطة اختياراتهم وقراراتهم، بل هي نتيجة (البنية الكاملة) في أفكارهم، أي في منطق تلك الأفكار).(45) بيدَ أنّه في الواقع، كان يُضمِر للأمير وعَشيرته من الجزائريين العرب المسلمين السّوء، وينظر إليهم نظرة دونية، فيها كثير من السّخرية والتهكّم، ويصفهم بالقساة الأشدّاء، وينعت الأمير بالمستبد والديكتاتور، المـُتعصّب لرَأيه. والحقّ أنه صاحب فكر حرّ( لا يكلِّف الرّعية شيئا لا تأمر به الشّريعة، ولا يصرف شيئا إلاّ بوجه الحق فضلا عن أنّه يفعل ما يقول ويستجيب لما يرجى منه).(46) يقول كارل بيرنت، وهو يُستَقبَلُ من قِبَل القائد الفرنسي:(لقد اندهش من أمرنا مثلما اندهش الآخرون وعَبَّر عن سروره بالنجاح، الذي حققناه عند العرب. ولم أكتمه أنّنا مع ذلك مشتاقون كل الشّوق إلى العودة إلى مسيحيي أوروبا، وأنّ ما يبدو علينا إنما هو مظهر خادع، فنحن نشعر في أعماقنا بتعاسة كبيرة. فليس هناك من أوروبي سديد الفكر يستطيع الحياة بين أفراد أمة تتّسم بالقسوة وفقدان الرّوح المعنوية، ويسودها حكم مستبد، إرادته هو وحده هي القانون السائد).(47)
هكذا هم الأوروبيون، يُصوّرون العربي بوصفه ذاتا اجتماعية ناقصة،(48) يمارسون العنصرية البغيضة، ويؤكّدون بلا مواربة، أن عنصريتهم هي نتاج حضارتهم المزعومة ومؤسّسيها وموجّهيها.(49) وتطال كل الشّعوب التي تقبع بعيدا عن المركزية الأوروبية، وتستفحل أكثر إذا تعلّق الأمر بالعرب خاصة، والذين اعتبرهم بيرنت(من أبناء الفطرة حقّا، ولكنّهم من أولئك الخُبثاء أيضا … وعندهم ما للمدنية من عيوب وآفات دون نعمها وفضائلها).(50) هذه صورة العرب في منظوره، على الرغم من احتفاءهم به في كُلّ المناسبات، أثناء إقامته في الجزائر، وفي فترة انضمامه إلى جيش الأمير عبد القادر، فضلا عن معرفته الشخصية بخصاله الحميدة ومناقبه السّامية. على أنّ موقف بيرنت هذا يشي إلى أنّ كتابات الألمان لا تخلو من إظهار العداء للجزائر، التي أهانت أوروبا لمدة طويلة، وكان ذكر اسمها مجردا يثير الرّعب في قلوب أبنائها. وفي السّياق ذاته، نلفي ألمانيا آخر يدعى شونبيرغ يعترف بأن اسم الجزائر لا يحمل على التّفكير في جمال سمائها، وصحّية مناخها، وخصوبة أراضيها بقدر ما يحمل على التّفكير في الآلام، التي عرفها العبيد المسيحيون فيها. وهذا أيضا ما جعل كتاباتهم تتّسم بالطابع الصليبي في أغلب الأحيان.(51)
وأخيرا، يمكن الزّعم أن صورة الأمير عبد القادر تأرجحت لدى الآخر الألماني، بين الإعجاب والتّقدير والجاذبية، ففاغنر يذكر أنّ (الأمير قال لغايستينجر عند سفره إلى المغرب: “ابق هناك إذا شئت. أمّا إذا كنت تحبّني، فما بي حاجة إلى أن آمرك بالعودةǃ” وسافر الألماني، وكان قد أسلم في أثناء ذلك، إلى المغرب، واشترى مقهى بالمال الذي زوّده الأمير به، ولكنّه عاد في النّهاية إلى سيّده الأمير).(52) ولعلّ هذا الموقف ينضاف إلى مواقف كثيرة مشابهة، تبرز شدّة الإعجاب بشخصية الأمير عبد القادر من قبل الآخر، والتي استوجبت هذا النّوع من الموضوعية، نظرا لما اتّسمت به سيرته المثالية سواء كصديق أو عدوّ لفرنسا من مواقف إنسانية مشهود لها بالحكمة وحسن التّدبير وبعد النّظر.(53) وبين الجحود والاستخفاف، والتنكّر لها وممارسة التّعالي العقيم، بغية استملاكها لإزاحتها وإبادتها. انطلاقا من فكرةٍ نرجسيةٍ تعكس وجود الآخر كمرآة مصقولة يتأمّل بواسطتها المهيمن قوته وشوكته. والشّكل المرآوي للصّراع الحضاري بقدر ما يفترض وجود وعي مقابل هو دليل الغيرة بمسافتها الثقافية واختلافها الرمزي والقيمي.(54)
إن استنطاق هذه الكتابات وتفكيك مكونات هذه الصّور التي دشّنها الآخر الأوروبي بعامة والألماني بخاصة، عن الذات العربية الجزائرية، تمثّل في الواقع لحظة وعي جماعي يدرك آليات الاستعمار وميكانيزمات قهره. فليس يكفي أن نعرف أننا مقهورون، بل علينا أن نعرف كيف تمّ قهرنا.(55)
الهوامش:
1- محمّد السيد علي الوزير، الأمير عبد القادر الجزائري، ثقافته وأثرها في أدبه، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص229- 230.
2- يوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، تر وتق: أبو العيد دودو، ط2، دار هومة، الجزائر، 1997، ص9- 10.
- أهدى فاغنر كتابه الذي يقع في ثلاثة أجزاء، والذي صدر في مدينة لايبتسيغ عام 1841 إلى ولي العهد الفرنسي، وقد اعتبره العسكري الألماني كارل ديكر أحسن كتاب ألماني وضع عن الجزائر حتى عام صدور كتابه هو سنة 1844. ولعلّ من بين المصادر التي اعتمدها فاغنر بالإضافة إلى تجاربه الخاصة، كتاب الفرنسي بيصونيل الموسوم:”رحلة في سواحل البلدان البربرية” عام 1838، وكتاب الرحالة الإنجليزي توماس شو، ثم “الحوليات الجزائرية” للفرنسي بيليسي، كما أخذ فاغنر أيضا بعض المعلومات عن المارقين الألمان الذين عاشوا في الجزائر مدة طويلة، ولاسيما المدعو بودوان الذي كان يحسن اللغة العربية، وكذا غايستينجر الذي اتّخذ اسما عربيا له وهو بن حميدو وكان قد حارب إلى جانب الأمير عبد القادر في معركة المقطع المشهورة. للاستزادة أكثر ينظر: أبو العيد دودو، دراسات أدبية مقارنة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991، ص69 وما بعدها. و: لجزائر في مؤلفات الرحّالين الألمان(1830-1855)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989، ص77 وما بعدها.
3- الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان(1830-1855)، ص91 وما بعدها.
4- نفسه، ص103.
5- ينظر: أبو العيد دودو، دراسات أدبية مقارنة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991، ص77 وما بعدها.
6- الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان، ص103.
7- صالح خرفي، في ذكرى الأمير، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، ص43. نقلا عن محمد صالح الصديق، الاستعمار في الجزائر، سلسلة كتب سياسية، القاهرة، 1959، ص17.
8- الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان، ص94.
9- م.س، ص104.
10- محمد السيد علي الوزير، الأمير عبد القادر الجزائري، ثقافته وأثرها في أدبه، ص86.
11- الأمير عبد القادر، الديوان، شر وتح: ممدوح حقيّ، ط3، دار اليقظة العربية، بيروت، 1965، ص77.
12- عشراتي سليمان، الأمير عبد القادر المفكر، مساجلات في قضايا اللّغة والمعرفة وفقه الخطاب القرآني، ط3، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، الجزائر، 2009، ص10.
13- الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان، ص105.
14- الأمير عبد القادر، ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، تح وتق: ممدوح حقي، دار اليقظة العربية، بيروت، 1966، ص101.
15- نفسه، ص107.
16- شارل هنري تشرشل، حياة الأمير عبد القادر، ترج وتق وتع: أبو القاسم سعد الله، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص204- 205.
17- الجزائر في مؤلفات الرّحالين الألمان، ص105- 106.
18- الأمير عبد القادر الجزائري، الديوان، ص60.
19- الجزائر في مؤلفات الرّحالين الألمان، ص106.
20- نفسه، ص106.
21- عشراتي سليمان، الأمير عبد القادر المفكر، ص214.
22- عبد المالك مرتاض، أدب المقاومة الوطنية في الجزائر، 1830-1962، ج1، دار هومة، الجزائر، 2009، ص163.
23- يوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، تر وتق: أبو العيد دودو، ص10-11.
24- شارل هنري تشرشل، حياة الأمير عبد القادر، ترجمة وتقديم وتعليق: أبو القاسم سعد الله، ص7.
25- يوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص73.
26- عبد الله الركيبي، الجزائر في عيون الرحالة الإنجليز، دار الكتاب العربي، الجزائر، 2009، ص16.
27- عبد الملك مرتاض، أدب المقاومة الوطنية في الجزائر، 1830-1962، ج1، ص162.
28- دانيال هنري باجو، الصورة الثقافية من منظور الدراسات الأدبية المقارنة، نقلا عن: سعيد علوش: في الخطاب التداولي، صورة المغرب في المجلة الألمانية “فكر وفن”، مجلة العرب والفكر العالمي، ع7 صيف 1989، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص98.
29- يوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص73- 74.
30- نفسه، ص75.
31- يوهان كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص106.
32- نفسه، ص99.
33- نفسه، ص100.
34- عشراتي سليمان، الأمير عبد القادر الشّاعر، مدخل إلى تحليل الخطاب الشعري في محطة الما بعد، ط3، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، الجزائر، 2009، ص05.
35- ذكره محمد عباس في كتابه: البشير الإبراهيمي أديبا، ديوان المطبوعات الجامعية، وهران، الجزائر، د.ت.(بداية الكتاب).
36- الأمير عبد القادر، الديوان، ص37.
37- كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص104.
38- الأمير عبد القادر، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر، ج2، المطبعة التجارية- عرزوزي وجاويش، الإسكندرية، 1903، ص524.
39- نفسه، ص5.
40- نفسه، الصفحة نفسها.
41-كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص157- 158.
42- كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص127.
43- نفسه، ص158.
44- الطاهر لبيب، صورة الآخر، العربي ناظرا ومنظورا إليه، ط1، من خلال مقالة: جان فارو، الآخر بما هو اختراع تاريخي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص45.
45- الأمير محمد بن الأمير، تحفة الزائر، ج1، ص31.
46- عزّ الدّين المناصرة، الهوّيات والتعدّدية الثّقافية، قراءات في ضوء النقد الثقافي المقارن، ط1، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2004، ص41.
47- كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص170.
48- حفناوي بعلي، مسارات النقد ومدارات ما بعد الحداثة، ط1، دروب للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2011، ص277.
49- نفسه، ص285.
50- كارل بيرنت، الأمير عبد القادر، ص 173.
51- ينظر: أبو العيد دودو، دراسات أدبية مقارنة، ص77.
52- نفسه، ص72- 73.
53- ينظر: عبد القادر شرشار، شخصية الأمير عبد القادر من منظور الآخر، ترجمة كتاب”عبد القادر” لقوستاف دوقا أنموذجا، مجلة إنسانيات،ع19/20، 2003، مركز البحوث الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية، وهران، ص19 وما بعدها.
54- محمد شوقي الزين، سياسات العقل، صدمة الواقع ومستويات القراءة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، 2005، ص62.
55- تزفيتان تودوروف، فتح أمريكا، مسألة الآخر، تر: بشير السباعي، تق: فريال جبوري غزال، ط1، سينا للنشر، القاهرة، 1992، ص7.
أ.د. حمودي محمد/جامعة مستغانم/الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 62 الصفحة 9.