العالم الكبير والفقيه الشهير الشيخ الطاهر العبيدي 1885 ـ 1968

بقلم :أ .محمدرميلات

فضيلة الشيخ الطاهر العُبيدي كوكب دُريّ من كواكب العلم التي سطعت في سماء الجزائر فاهتدى به السائرون إلى الله على بصيرة وهدى ، وانتفع بعلمه الجم الغفير من سكان المنطقة السهبية وشمال الصحراء والجنوب الغربي ... نال شهرة واسعة في هذه المناطق فلقبوه بـ " مالك الصغير " نسبة للإمام مالك رضي الله عنه ...

تخرج في حلقات درسه جِلّة من العلماء الأعلام ، نذكر منهم عبدالقادر بن ابراهيم المسعدي الذي ترجمنا له منذ أيام في منشور سابق ، والشيخ خليل القاسمي الذي ذكرنا سيرته العطرة في مقال فائت ، والشيخ مدني بن موسى وهونجل شيخه محمد العربي بن موسى ، وهو أحد أقطاب العلم بتڨرت ، والشيخ حفناوي بابا عربي ، والشيخ الطاهر بلحسن ، والشيخ أحمد العبيدي وهو شقيقه ، والشيخ الحشاني بن العمري ، والشيخ الفقيه العالم الطاهر بن دومة ، وغيرهم من أهل الفضل والعلم ... ألف الشيخ الطاهر العبيدي ثلاثين عنوانًا لا يزال جلها مخطوطًا أذكر منها : منظومة قوامها 856 بيتًا وَسَمَهَا بـ " جريان المدد ، في الاعتصام برجال السند " والمقصود من السند هنا ، سند التلقين لا سند الحديث ، وألف رسالة عنوانها " الستر " ، أثنى عليها الشيخ عبدالحميد بن باديس كما ذكر ذلك الشيخ عبدالسلام سليماني حفيد وتلميذ الشيخ الطاهر العبيدي ، قال لمّا قرأ بن باديس رسالة " الستر " للعبيدي ، قال : " ذي درر حسنة التنضيد ، سالمة من وصمة التعقيد ، جامعة للقصد والمزيد ، تُدني الجَنَى لكل مستفيد ، من نظم زين العلماء العبيدي ، جازاه رب الناس بالمفيد ، من العلم والعمل والتأييد " ، كما ألف الشيخ العبيدي رسالة التيمم ، ورسالة في الرد على الطبيعيين ، وكتاب عنوانه رفع الإبهام عن مسائل الصيام ، و كتاب بعنوان النصيحة العزوزية في نصرة الأولياء والصوفية ، ومرشد الخلائق إلى اتحاد الطرائق وهو نظم من 343 بيتًا ، ورسالة بعنوان " التخويف والتخوّف ، على إيمان منكري الصوفية والتصوف " ، وله رسائل فقهية معتبرة جديرة بالدراسة والشرح والتحقيق ...

ومما يدل دلالة واضحة أن الشيخ العبيدي علم من أعلام المسلمين ، رسالة الشيخ عبد الحميد بن باديس التي بعثها إليه ، يقول فيها : "إلى حضرة عَلَم العلم والفضل ، ومُعلم الكَرم والنبل ، التّقي الطاهر الأثواب ، السَّري البارع الآداب ، مستحق الشكر منّا بما له علينا من سابق الأيدي ، العلامة الشيخ سيدي أبي الطيب الطاهر العبيدي ، أدامه الله بدرًا طالعًا في هَالة دَرسه ، وغيثَا هامعاً يُحي رَبعَ العلم من بعد طمسه ، حتى يُبدّلَ وحشة قَطرِهِ بأنسه ، ويجني من بساتين تلاميذه ثمرات غرسه ، آمين " ، وهذه الرسالة تدحض أقوال المرجفين الذين يدّعون أن باديس كان ضد الصوفية والطرقية على طول الخط ، بينما الحقيقة غيرذلك ... العلامّة الكبير ، والعالم النحرير ، سيدي الطاهر العبيدي دَرَّسَ في الجامع الكبير بتڨرت زهاء ستين عامًا في علوم ومعارف شتى ، وكان في كل يوم يُفسر آيتين أو ثلاث من كتاب الله ، يبدأ بإعربها إعرابًا قرآنيًا جميلا جليلا ، ثم يذكر أقوال المفسرين المستقدمين منهم والمستأخرين ، ولا يفوته أن يذكر أسباب النزول ، ثم يطوف طواف الخبير المتمكن على معاني المفردات ومقاصدها وأحكامها ... وهو ما يستغرق منه زهاء ساعتين أو ثلاث ، واستمر الشيخ رحمه الله على هذا النسق والمنوال ، إلى أن ختم تفسير القرآن الكريم " إلقاءًا " في 28 سنة ، وكان ذلك يوم 18 أفريل سنة 1934 ، بدأ التفسير في عمر الحادية والعشرين وختمه وقد بلغ من العمر 49 سنة ...

ولمّا حضر الشيخ سي عطية مسعودي أحد دروس التفسير للشيخ الطاهر العبيدي قال : " ومما ظل عالقا في ذهني درسه في تفسير سورة الزلزلة كان رائعًا حقًا ، فقد طوّف بنا في معظم التفاسير ، وذكر أساليب هؤلاء المفسرين في التعامل مع النصوص القرآنية ، وأبان معاني الآيات إبانة مستفيضة ... بما يملك من فهم دقيق لمقاصد القرآن ومراميه " والشيخ سي عطية مسعودي هو أحد علماء الجزائر الأعلام ، وحينما يقف مبهورًا أمام تفسير الشيخ العبيدي فهذا يعني أن الرجل كان آية من آيات الله في فهم كتابه المجيد ... كان الشيخ الطاهر العبيدي يشد الرحال في كل صيف إلى الزاوية القاسمية بمدينة الهامل قرب بوسعادة فيُدرس هناك للعامة من الناس بالأسلوب السهل الممتنع وبصوته الجهوري العالي ، أما طلبة العلم فيدرس لهم بأسلوب بلاغي متميز عن العامة ، وهنالك التقى بقاضي الآستانة في تركيا الشيخ محمد المكي بن عزوز ، وقد كان يومئذ أحد شيوخ الزاوية القاسمية ، فأجازه بعدما عرفه عنه من علم وفضل ...

حفظ الشيخ الطاهر العبيدي القرآن الكريم في مسقط رأسه بولاية الوادي وهو في التاسعة من العمر ، وظهرت عليه علامات النجابة وبوادر الذكاء وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد ، وبعد حفظه لكتاب الله ، جلس في حلقات العلاّمة الشيخ عبد الرحمن العمودي بحي المصاعبة في الوادي ، فأخذ عنه علم القراءات ، والفقه ، والنحو ، والتوحيد ، وشيء من الحديث ، ثم انتقل إلى زاوية سيدي سالم لكونها قريبة من مقر سكناه في حي أولاد أحمد ، وكان طاقم تدريسها يتألف من علماء أجلاء أذكر منهم الشيخ الصادق العقبي بن سالم ، والشيخ صالح بن موسى ، والقاضي عمارة ... فأخذ عن هؤلاء جميعًا ، غير أن الشيخ محمد العربي بن موسى كان هو الأب الروحي للشيخ العبيدي ، فقد لازمه سبع سنين متتالية دون انقطاع ، وأخذ عنه علومًا عديدة ، ومعارف فريدة ، ونال من أنفاسه بركات شريفة...

وفي زمن الشيخ الطاهر العبيدي لم تكن في الجزائر لا جامعات ولا معاهد ولا مدارس عليا ، ما عدا الزوايا التي يتخرج فيها طلبة العلم بإجازة مشايخهم ، والإجازة هي شهادة رفيعة القدر عالية المستوى ، وتكمن قيمتها في سندها المتصل بسيدنا رسول الله صل الله عليه وسلم ، و" الزاوية " لغة هي الرُّكن الذي لا يمكن لأي بناء أن يقوم بدونه ، وقد اختار أهل العلم والفضل أن تكون " الزاوية " إسم عَلم لمدارسهم التي تُربي وتُلعم ، والتربية والتعليم هما الركن الأهم في بناء الإنسان والعمران ، والركن الأهم في صلاح الحال والمآل في الدنيا والآخرة ، ولذلك أجد كلمة " الزاوية " أبلغ وأفضل وأدق تسمية من " المدرسة " المشتقة لغويًا من التدريس والمدارسة ، وأبلغ من كلمة " جامعة " المستمدة من الإجتماع على طلب العلم ... وبعد سبع سنين قضاها التلميذ العبيدي بزاوية سيدي سالم في رياض العلم يستروح عبيرها ، ويرتشف رحيقها ، ويقطف من ثمارها الدانية ... طلب الإذن من شيخه ، ومن والده ، ليسافر إلى تونس فأذنا له معًا ، وكان يومئذ شاب غض طري بالكاد يبلغ الثامنة عشرة من العمر ..

وفي جامع الزيتونة المعمور واصل تعليمه العالي هناك لمدة ثلاث سنوات ، فأخذ العلوم الشرعية واللغوية عن أشهر علماء ذلكم العصر ، أذكر منهم الشيخ الطاهر بن عاشور ، والشيخ محمد الأخضر بن الحسين الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد ، وتلقى العلم عن الشيخ أحمد البنزرتي ، وغيرهم من العلماء ، وأثناء تواجد الشيخ الطاهر العبيدي في تونس كان شيخه محمد العربي بن موسى قد تحول من زاوية سيدي سالم بالوادي إلى الجامع الكبير بتڨرت وبقي يُدرس هناك إلى أن وافته المنية سنة 1905 ، سَمع الشيخ العبيدي بوفاة شيخه وهو لمّا يزال في تونس .. فحزن لموته حزنًا عظيمًا ، وتوالت عليه نكبات الدهر وعوادي الزمن ، فقد كان والده فقير الحال يكسب قوت يومه بشق النفس من عمل الحدادة ، وتدهورت صحته من نفخ الكير ودخان الحديد ، وليس له من سند أو معين ، ولا شفيع ، ولا صديق حميم ، سوى ابنه المغترب في تونس ...

عاد الشيخ العبيدي إلى الجزائر ليتكفل بإعالة والديه وإخوته ، ولما سمع الناس بعودته رغبوا إليه في تعليم أبنائهم ، وحط رحاله بالجامع الكبير في تڨرت ، وهو الجامع الذي دَرَّسَ فيه شيخه محمد العربي بن موسى قبل وفاته ... أخذ التلميذ مكان الشيخ ، فكان خير خلف لخير سلف ، وذاع صيته في الآفاق ، واكتسب بين الناس مكانة رفيعة وجاهًا عريضًا ، ولم تُشغله مجالس العلم أن يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم ...

العالم الفاضل ، النبيل الشمائل ، الفقيه النبيه ، الشيخ الطاهر العبيدي العلوي الحسني الشريف ، عاش في دنيانا الفانية هذه ثلاثة وثمانين عامًا .. عاشها ورعًا تقيًا نقيًا ، مُعلمًا الناس الخير ، إلى أن لقي الله وهو على هذا الخير ، ولد سنة 1885 وتوفي يوم الأربعاء 28 فيفري سنة 1968 وأوصى بدفنه في مقبرة تڨرت ، وحضر جنازته خلق كثير ، بل كان يوم موته يومًا مشهودًا ، نسأل الله له الرحمة والرضى والرضوان ، وأن يحشره مع الأنبياء والأولياء والأصفياء والأتقياء والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا .

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.