ابن العنابي المنفي الأول

بقلم: محمد الهادي الحسني-

تعودنا في “يوم العلم” من كل عام أن نُرَكِّز في مقالاتنا ومحاضراتنا وندواتنا على الإمام عبد الحميد ابن باديس، وهو أهل لكل ذلك وأكثر من ذلك، تقديرا من نخبة الجزائر للجهود الكبيرة والكثيرة التي قام بها هذا “المفردُ العَلَم” لوحده ومع إخوانه العلماء وتلاميذه الأصفياء.. فقد نذر نفسه أن يعيش للإسلام وللجزائر، وقد وفّى. لقد “أيقظ الضمائر”، وأنار العقول، وحرّر الأرواح، وحرّك الجامدين، ونبّه الغافلين، وأنذر الخائنين، وعلم شعبه أن له حقا إمّا أن يُعطاه أو يأخذه من اللص غلابا، بعد أن يُعِدّ ويستعدّ. ولم تلتحق روح الإمام بعالمها الأسمى حتى كان قد اطمأنّ إلى أنّ شعبه قد رشد، وأنه قد غيّر ما بنفسه فليوشكنّ أن يغيِّر الله ـ عز وجل ـ ما به، وكذلك كان الأمر. وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الفحل محمد العيد في قوله مخاطبا الإمام:

نم هانئا فالشعب بعدك راشد             يَخْتَطُّ نهجك في الهدى ويسيرُ

في هذا العام، وقد حبسنا “السيد كورونا” لم نقم بما كنا نقوم به من قيل في مثل هذا اليوم، فاغتنمت الفرصة لقراءة ما لم أقرأ من كتب، أو لإعادة قراءة بعض ما سبق لي أن قرأته. ومما أعدت قراءته كتاب أستاذي أبي القاسم سعد الله ـ رحمه الله ـ عمن سماه “رائد التجديد الإسلامي محمد بن محمود ابن العنابي”، صاحب كتاب “السعي المحمود في نظام الجنود”، الذي حققه ونشره الدكتور محمد ابن عبد الكريم الجزائري، وكتاب “صيانة الرياسة ببيان القضاء والسياسة”.

لم يكن الإمام محمد ابن العنابي كأحد من الأئمة، بل كان ذا اهتمامات بما يجري حوله ومشاركا في بعضها وكانت له آراء طيبة في قضايا عصره، حتى لكأن الإمام الإبراهيمي قد عناه في قوله:

لا نرتضي إِمامنا في الصف             ما لم يكن أَمامنا في الصف

ولذلك فهو كما يقول الدكتور سعد الله: “يحق للجزائر الحديثة أن تفتخر به وبأمثاله كحمدان خوجة الذين سبقوا علماء العربية والإسلام في طرح قضية التجديد والإصلاح الاجتماعي والسياسي قبل أن يطرحها أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده” (سعد الله: رائد التجديد الإسلامي. ص17.ط.دار الغرب الإسلامي).

كان هذا العالم يعلم أن الله ـ عزوجل ـ سائله عمّا عمِل فيما علِم، فسعى بما استطاع أن ينصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

لقد قام ابن العنابي بعدة مهمات سياسية، ومنها ما ذُكِر من أن الداي حسين قلّدَهُ سيفا لقيادة “الجيش” أو المجاهدين الجزائريين بعد الهزيمة الأولى في سطاوالي أمام الجيش الفرنسي، ولكن الحوادث داهمت الجميع فلم يقع ما كان يُرجى من ابن العنابي.

لقد كان ابن العنابي مُراقَبا ومرصودا من الفرنسيين من أول غزوهم للجزائر، خاصة بعد اعتراضه عليهم لاستيلائهم على المساجد  والأوقاف الإسلامية، فأسرّها الجنرال الصليبي كلوزال في نفسه، ودبّر مكيدة لابن العنابي، واتهمه بتدبير عمل ضد الاحتلال الفرنسي فنفاه في آخر سنة 1830 إلى الإسكندرية بمصر، التي اعترفت بقيمته العلمية فعُيّن مفتيا في المذهب الحنفي مدةً، ثم توفاه الله ـ عزوجل ـ في سنة 1850. فكان ابن العنابي ـ فيما نعلم ـ أول من نفتهم فرنسا المجرمة من وطنهم الجزائر.

لقد دعوت عدة مرات في أماكن عامة وفي جلسات خاصة إلى إطلاق اسمي الإمامين ابن العنابي وابن الكبابطي، لعلمهما ووطنيتهما، على مؤسسات دينية أو تعليمية فلم أجد آذانا مصغيةً وقلوبا واعيةً وعقولاً راشدةً، فعسى الله ـ عزوجل ـ أن يؤتيَ من بيدهم الأمر في العهد الجديد “صيانة الرياسة” كما قال ابن العنابي، ويطهّرها ممّا شانها، وينزّهها عمّا كان يقع في دهاليزها.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.