ابن العنابي.. أوَّلُ المنفيين
بقلم: محمد الهادي الحسني-
سرّني تدشينُ نصبٍ تذكاري في واجهة مرفإ مدينة الجزائر، أطلِق عليه اسمُ “المنفيين”، وما أكثرهم في الجزائر في أنحس فترات تاريخنا، وهي فترة ليل فرنسا الأشقى. و”المنفيون” في اصطلاحنا هم أولئك الآباء والأجداد الذين نفاهم الفرنسيون الأشرار إلى مطلع الشمس على بُعد آلاف الأميال بعد ما اقتلعوهم من أرضهم، وأخرجوهم من ديارهم، وفرَّقوا – كالشيطان – بينهم وبين أوليائهم من آباء وأبناء وإخوة وأحباء، لأنهم رفضوا أن يعطوا الدنيَّة في دينهم، وأن يعيشوا عبيدا لفرنسا وقد أكرمهم الله فأخرجهم من بطون أمهاتهم أحرارا، وأن يحيوا حياة أعزّ منها وأشرف حياة الحيوان الأعجم..
ومما يزيد النفس ألما على ألم، وهمًّا على همٍّ، وغمًّا على غمٍّ أن فرنسا المجرمة ما تزال – ولا تزال – إلى الآن تعتبر جرائمها “مِنَّة” منَّت بها علينا، و”مكرمة” تكرّمت بها علينا، فتطلب منا أن نشكرها عليها، فهل سمع الناسُ ورأوا أعجب من هذا؟ ومن يماري في هذا القول فليرجع إلى قانون فبراير 2005، إذ توقَّح أعضاءُ “عشِّ الكلام الفارغ”، كما يقول السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، أي الجمعية الوطنية الفرنسية، وأصدروا “كانونا” زعموا فيه – وما أكثر ما زعموا – أن أيام فرنسا السود في الجزائر هي أنصعُ بياضا من اللبن.. وأنها “عملٌ صالح”، و”إنجازٌ حضاري” يُفتخَر به، وتُرفع به الخسيسة..
عندما كانت عملية التدشين جارية قفزت بي الذاكرة إلى خريف أو شتاء سنة 1830-1831، إذ ارتكبت فرنسا جريمة بقيت ترتكبها طيلة وجودها المشئوم في الجزائر، حيث أقدمت في أحد تلك الأيام على سجن أحد علماء الجزائر مع أسرته، ثم نفته من الجزائر نهائيا، إنه العالمُ القاضي، المفتي، السفير محمد بن محمود ابن العنابي (1775-1851)، الذي اعتبره الأستاذ أبو القاسم سعد الله “رائدَ التجديد الإسلامي”، لا في الجزائر فحسب، ولكن في العالم الإسلامي لما جاء به من آراء قيّمة وأفكار جيّدة في آثاره، خاصة في كتابه المسمى “السعي المحمود في نظام الجنود”، الذي حققه الدكتور محمد ابن عبد الكريم – رحمهم الله جميعا – إن المجرم الذي تولّى نفي ابن العنابي هو كلوزيل، الذي أطلقت فرنسا اسمه على سوق في وسط مدينة الجزائر، ولا يوجد إلى حد الآن – فيما أعلم – مكانٌ أو مؤسسة تحمل اسم محمد ابن العنابي!
إن نفي العالم ابن العنابي هو رمزٌ لنفي العِلم من الجزائر ومطاردة أهله فيها طيلة قرن واثنتين وثلاثين سنة. ألم يكن آخر عمل “حضاري” قام به الفرنسيون في الجزائر هو إحراق مكتبة جامعة الجزائر بما فيها من كنوز علمية في 7 جوان 1962؟
لقد بحَّ صوتي، وجفَّ ريقي وأنا أنادي منذ أربعين سنة لإطلاق اسم ابن العنابي على مسجد أو مؤسسة، ولكن صيحتي كانت ريحا عميقا، ولم تكن رياحا لواقح، فهل من مستمع في هذه المرة؟