التعليم العصري عند الشيخ عبد الحميد بن باديس
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
هل تنبّه الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940) مبكرا إلى أهمية التعليم العصري؟ لماذا دعا المؤسسات التعليمية الكبرى في العالم الإسلامي إلى إصلاح مناهج تعليمها لتتطابق مع روح العصر؟ ما هي الملامح العامة للتعليم العصري التي نلمسها في مشروعه التربوي؟ وما هي العلاقة القائمة بين التعليم العصري ورسالة التربية؟ هذه بعض الأسئلة التي أجبت عنها في هذا المقال بالمختصر المفيد.
التوجّه المبكّر نحو التعليم العصري
لقد توجّه عبد الحميد بن باديس مبكرا نحو التعليم العصري، فقد درس في تونس على طريقته الخاصة ولم يلتزم فقط بالطريقة الزيتونية والاكتفاء بالدروس المقررة التي كان يقدمها أساتذتها والذين كان يناقشهم في بعض المسائل العلمية على غير عادة الطلبة الزيتونيين الذين يتعجبون من تلك المناقشات الجريئة "التي تفتح أمامهم آفاقا فسيحة في الفهم والإدراك" حسب ما رواه واحد من زملائه المعروفين.
وكان يقتني باستمرار الكتب الجديدة خاصة المطبوعة بمصر، ويتفرغ تماما لقراءتها بعد الدرس. كما كان يستمع إلى المحاضرات في العلوم الحديثة التي كان يقدمها خيرة الأدباء والشعراء التونسيين في المدرسة الخلدونية الشهيرة.
ولما تخرج ابن باديس من جامع الزيتونة بمرتبة الأول في دفعته في عام 1911، عاد إلى قسنطينة وانطلق في مشروعه التربوي الذي يرتكز على المنهاج العصري وتوظيف أساليب التدريس الجديدة لتحقيق التطوّر الهادف والتغيير الطموح.
الدعوة إلى إصلاح التعليم
إن المدارس والمعاهد الإسلامية مطالبة في نظره وفي نظر زعماء التجديد المعاصرين بإصلاح مناهج التعليم شكلا ومضمونا بما يتناسب مع روح العصر، وخاصة المعاهد الكبرى كجامع الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب من أجل الرقي الاجتماعي والثقافي والديني ليس في هذه الدول الثلاث فقط، وإنما أيضا في العالم الإسلامي برمته نظرا للشهرة الواسعة التي كانت تحظى بها هذه المؤسسات العلمية في الآفاق. لذلك وجّه ابن باديس رسالة إلى المسؤولين على جامع الزيتونة ليشرعوا في إصلاح التعليم في هذه المؤسسة العريقة، مقترحا تدريس العلوم والرياضيات والاستعانة إن اقتضى الأمر بالأساتذة الحداثيين من تونس أو مصر.
كما رحب ابن باديس بإصلاح التعليم في الجامع الأزهر واعتبره انتصارا متأخرا لدعوة الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذي نادى بذلك في بداية القرن العشرين، كتحديث البرامج وتدريس العلوم العصرية وارسال البعثات الطلابية إلى الخارج. وهنا يقول ابن باديس: « مات الشيخ محمد عبده ولكن ما غرسه لم يمت، فقد قامت على العناية به الجماعات من تلاميذه ومريده الذين يتكاثرون على الزمان حتى ألجأوا الحكومة المصرية إلى المبادرة لإجابة مطالبهم، فكان الإصلاح المنشود».
الحاجة إلى التعليم العصري
كان الشيخ ابن باديس مؤمنا إيمانا راسخا بأن الإسلام دين الحقائق والبراهين، لا دين الخرافات والجهالات، وأن العلوم والآداب والفنون ملك للبشرية جمعاء، شاركت في إنتاجها عبر العصور كل الثقافات والحضارات؛ فما الذي يمنع المسلم أن يدرسها في القرن العشرين، ويستفيد منها في مختلف مجالات الحياة؟
إن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تستغني عن العلوم العصرية التي تحتاج إليها لتخرج من التخلف الذي تعيش فيه مجتمعاتها منذ قرون، وتصون بها وحدتها وتسترجع بها سيادتها التي فقدتها جراء الاحتلال الأجنبي لأراضيها واستغلاله لخيراتها وفرضه لسياساته الاستعمارية. فلم يعد الجهل يضر الأفراد فقط، وإنما أصبح يهدد مصير الدول ومستقبل الثقافات والحضارات.
لم تكن اللغة الأجنبية مصدر الخوف عند الشيخ ابن باديس لأنه يدرك أن العربية غير عاجزة عن مواكبة تطوّر العلوم المنتجة باللغات الأخرى، فهي غنية بمعجمها الأدبي والعلمي يستطيع أن ينحت منها أهلها عند الحاجة ما يتطابق مع المصطلحات العلمية الجديدة بمفردات جميلة ودقيقة ووافية، غير أن كل هذه الثقة في ثراء اللغة العربية، لم تمنعه من المطالبة بتعلم اللغات الأوروبية والتفتح على الثقافات الأخرى.
قال في هذا السياق: «نحن اليوم وقد ربطت بيننا وبين أمم أخرى مصالح، علينا أن نعرف لغتهم وخطهم كما عليهم هم أن يعرفوا لغتنا وخطنا». وقال كذلك مخاطبا طلبته وغيرهم: «أرجوكم أيها الشباب الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان، وعن أي شخص وجدتموه، وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الانتفاع المطلوب».
وهذا الخطاب هو نقيض ما نسمعه أو نقرأه عن علاقة ابن باديس باللغة الفرنسية، وقول بعضهم أنه كان دائما ضد تعليمها بل قالوا بغير حجة أو دليل أنه حاربها بكل ما أوتي من القوة والتأثير والنفوذ !
وسائل البناء التعليمي والتوجيه التربوي
استعان الشيخ ابن باديس بكل الوسائل المتاحة في زمانه لأداء رسالته في مجال التعليم والتربية سواء في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة أو جامع الأخضر ثم تعميمها على مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد تأسيسها في عام 1931 وذلك بتكوين المعلمين والمفتشين، وتوحيد البرامج الدراسية الأدبية والعلمية، وإقرار كتب التراث والإصدارات لجديدة، واعتماد نظام الامتحانات وتقسيم مستويات الطلبة، واحترام رزنامة العطل المدرسية، والاهتمام بالخطابة والشعر والمسرح والأنشودة والرسم ومجلات الأطفال والأشغال الحرفية، وتأسيس نظام العٌراب الفعال، وإنشاء صندوق الطلبة لتسديد النفقات الإدارية والتكفل بمصاريف الخدمات الاجتماعية.
ومما يؤكد أيضا عبقرية البناء عند الشيخ ابن باديس ونشاطه الدؤوب للارتقاء بمشروعه التربوي: إرساله البعثات الطلابية إلى جامع الزيتونة بتونس وترشيدهم إلى تأسيس جمعية نقابية لتدافع عن حقوقهم وتؤطّر نشاطاتهم الثقافية وتسهر على خدماتهم الاجتماعية. وقد تحقق ذلك في عام 1934 بظهور جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين برئاسة الطالب الشاذلي المكي (1912-1988)، وقد زارها ابن باديس عدة مرات في رحلاته إلى تونس.
كما قام بمراسلة شيخ الأزهر الإمام مصطفى المراغي (1881-1945) في عام 1937 ملتمسا منه تخصيص منح مالية للطلبة الجزائريين النجباء الذين كان معظمهم من أبناء الفقراء، من أجل مواصلة دراساتهم العليا في جامع الأزهر. وراسل أيضا رئيسة جمعية دوحة الأدب بدمشق لاستقبال مجموعة من طالبات مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة لمواصلة تحصيلهن العلمي بمدارس هذه الجمعية السورية.
التعليم العصري في خدمة التربية
ما يهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في المقام الأول هو أن يتكوّن الطلبة المسلمون تكوينا علميا رصينا، وفي نفس الوقت يحافظون على مقوّماتهم الحضارية، ويساهمون بقسط وفير في تقدم مجتمعاتهم وازدهار أوطانهم. قال ابن باديس في هذا السياق مؤكدا ما كتبه قبله تلميذه النجيب باعزيز بن عمر (1906-1977)، طالبا من «شبابنا المتعلم باللغة الفرنسية إلى الالتفات لأمتهم ليخدموها فما استفادوا وإلى ماضيهم المجيد ليبنوا عليه مستقبلهم فيجمعوا بين الحسن من مدنيتهم وما أخذوا من مدنية اليوم».
ولم يكن ابن باديس يؤمن وحده بهذه الأفكار التنويرية، فكان العديد من المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لهم نفس الانشغال بتنوير العقول وتحرير الأبدان ومواكبة العصر، والرؤية المشتركة في إصلاح قطاع التعليم والتربية، وتطوير طرق تدريس التراث العربي الإسلامي، والتفتح على المعارف الحديثة وتعلم اللغات الأجنبية. وهذا ما عبّر عنه الشيخ المولود الحافظي (1880-1948) بكل وضوح عندما قال: «ولست أقول إننا نبقى على جمودنا بأن لا نتعلم اللغة الفرنسية وغيرها؛ كلا بدليل أنني قد حرضت على تعليم هذه الألسنة في كثير من مقالاتي بل أقول: يجب أن نتعلم اللغة الفرنسية والعلوم المدرسية ويجب أن نتعلم بجنب ذلك لغتنا العربية الفصيحة لنحافظ على تعاليمنا الدينية ومزايانا التاريخية وآدابنا القومية حتى نأمن من الانسلاخ من جنسيتنا وشعارنا العربي».
ونأمل ظاهرة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن الشيخ إبن باديس لم يشتغل فقط على تعليم الأطفال والشباب وإنما اهتم أيضا بكل فئات المجتمع الجزائري بما كان يقدمه من الدروس في المساجد والمدارس والنوادي، وبما كان يلقيه من المحاضرات على العامة في القطر الجزائري وخارجه. وفضلا عن ذلك، كان يحرص على نشر الثقافة العصرية في مجلته "الشهاب" بنقل للقُراء الجزائريين المقالات العلمية والطبية المقتبسة من المجلات العربية والأوروبية.
وخلاصة القول أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يكن مربيا فقط، يقوم بتلقين المعارف القديمة للطلبة ويحثهم على الالتزام بالفضيلة، بل زيادة عن ذلك كان يجتهد من أجل تفجير الطاقات وتشجيع المواهب وبناء العقل المفكر بدراسة التراث العربي واكتساب المعارف العصرية والانخراط في حركة التطوّر والاستفادة من التقدم الذي حققته البشرية في الثلث الأول من القرن العشرين، غير أن المعوّقات العديدة القائمة آنذاك في البلاد حرمت هذا المشروع الحضاري الرائد من تحقيق كل أهدافه التعليمية الطموحة، وبلوغ غاياته التربوية المنشودة.