جمعية علماء المسلمين وقافلة الإصلاح
زهية حويشي

جمعية علماء المسلمين وقافلة الإصلاح

بقلم: زهية حويشي-

يروي أحدهم قصة ارتباطه بمسجد عتيق، فيقول أنه كان يجمع بعض إخوانه الدعاة بعدد قليل دون العشرين كل أسبوع لقيام الليل وتلاوة القرآن مع درس دعوي وموعظة مناسبة، فكانوا يتجاوزون المساجد الظاهرة أو العامرة إلى مسجد عتيق رطب عريض الجدران واطئ الطاقات والأقواس بالي الفراش في زقاق قديم، هذا المسجد عمره أكثر من أربعة مائة سنة تقريبا لم تمتد إليه يد الصيانة فكان التلف ظاهرا عليه في أكثر أرجائه والجبس قد سقط من بعض حيطانه.

لكن أجمع رواد ذلك المسجد إجماعا جازما أنهم لم يروا مكانا تتجلى فيه البركة الربانية ظاهرة كمثل حرم ذلك المسجد، وكان كل من يرتاده من أولئك يستشعر روحانية عميقة تحت تلك الأقواس حيث يجد في نفسه وهو بين تلك الجدران الهرمة شعورا خاصا يفوق تأثير الموعظة ويضاعف إخبات القلوب الذي يولده التهجد والتغني بالآي.

وحين يصدع الفجر يتصدى لرفع الآذان شيخ أجمع راود المسجد أيضا أنهم لم يسمعوا أبدا آذانا آسرا كمثل آذانه، ثم يختم الراوي قوله أنه بعد سنوات طوال ما تلذذ بسماع نغمات آذان تدق أبواب القلب دقا كنغمات ذلك الآذان ولا أثرا يعدل أثره الذي يعدل أثر التلاوة والتهجد.

يعزو الراوي هذه المشاعر إلى أمرين:

- الأول: إخلاص النية في بناء المسجد فحباه الله بتلك البركة، وكذا إخلاص المؤذن فأودع الله في صوته تلك العذوبة وقوة التأثير.

-الثاني: تتابع أجيال المؤمنين على المسجد.

هكذا يصور الراوي ارتباطه بذلك المسجد العتيق.

إنها المشاعر ذاتها التي تنتابنا حين الحديث عن جمعية العلماء المسلمين، بمؤسسها الأول الإمام عبد الحميد بن باديس مع من رافقه في نضاله وبأهداف الجمعية ومبادئها وإنجازاتها.  فالإخلاص وقدم الفكرة وتعاقب المؤمنين العاملين عليها كل ذلك جعل للجمعية طابعا خاصا مختلفا عن غيرها ربما هي تلك البركة نفسها التي خص بها المسجد العتيق الذي تحدث عنه الراوي وأبقى في نفسه كل ذلك الأثر.

بيد أن للجمعية امتدادا أفقيا في الزمن وعموديا مرتبطا بسنة إنسانية فارقة باقية إنها سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل الذي يأخذ صورا مختلفة بحسب المراحل الإنسانية والتاريخية، فتقف الجمعية صادحة بالحق شاقة طريق الإصلاح لتعلن بذلك انتماءها -بكل استحقاق وجدارة- إلى قافلة الإصلاح الإنساني التي تضم الأنبياء والمصلحين والدعاة منذ أوجد الله الخليقة إلى يومنا هذا، باعتبار أن الإصلاح هو المهمة الأسمى للإنسان من أجل تحقيق غاية وجوده وهي أمانة الاستخلاف تمكينا للدين في هذه الأرض.

إن جمعية العلماء المسلمين تعد تجسيدا لهذا الدور العظيم الذي اضطلعت به من خلال أهدافها ومبادئها المسطرة وغاياتها منذ النشأة إلى يوم الناس هذا.

حيث يمثل هذا الدور القاسم المشترك بينها وبين كل حركات الإصلاح التي شهدتها الإنسانية تجسيدا لسنة التدافع والصراع بين الحق والباطل القائمة إلى قيام الساعة.

والجمعية بأهدافها سواء بناء الإنسان أو المحافظة على الهوية أو مواجهة الاستدمار الفرنسي آنذاك ثم الاستمرار في القيام بهذا الدور إلى وقتنا الحالي، حيث تواصل العمل لتحقيق ما سطرته زمن النشأة تزامنا مع الزمن الحاضر. كل هذا ما هو إلا صورة من صور الصراع تمثل فيه الجمعية الحق في أبهى وأحلى صورة.

من الأنبياء الذين كانت قصصهم  تترى على مر العصور عبرة للناس وذكرى

كذكر نوح : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (59)

أوهود  : { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُون} (65)

أو صالح : { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(73)

ثم شعيبا … ثم موسى وهارون… وعيسى …وإبراهيم

مرورا بمراحل مختلفة مرت بها الأمة الإسلامية…

وصولا الى خاتم النبيين الرحمة المهداة للعالمين …{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(107)

إلى عصرنا أين شهد حركات إصلاح عديدة كلها كانت تهدف إلى الإصلاح والتجديد وإحياء الأمة والدفاع عن الأوطان.

يعد ما قام به  الإمام  ابن باديس جزءا منها، جزءا من محاولات لرد هجمات الاستدمار والذود عن ثوابت الأمة … فتلك قافلة الإصلاح التي تنتمي إليها الجمعية وما قامت وتقوم به يعد صرحا في  جهود عظيمة و نضالات كان ثمنها دماء وأرواح أولائك الذين اختاروا طريق الدعوة وطريق الجهاد وإعلاء كلمة الله. وتلك سنة الله أن ألا يسقى طريق الحق إلا بدماء أصحابه، حيث تزهر أفكاره وتنمو أشجارا وارفة الظلال أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

لقد دفعت جمعية العلماء المسلمين من دماء أبنائها كما هو الحال لكل من اختار هذا الطريق، ومن الأمثلة على ذلك قصة وفاة االعربي التبسي التي تهتز لها النفوس والتي لا تختلف عما ترويه لنا السير من وفاة الأبطال ممن اختاروا الكفاح والتضحية بالأرواح في سبيل دينهم وأوطانهم.  إن قصة استشهاد العربي التبسي الذي أطلق عليه الشهيد الذي لا قبر له، قصة فاقت كل قصص التضحيات بالنفس في سبيل المبادئ والأفكار إذ فاضت روحه مرفرفة مع كل الأرواح التي صعدت من قافلة الإصلاح على مر الإنسانية إلى بارئها.

تبدأ الحكاية عندما علم الاستدمار الفرنسي نشاط العربي التبسي ودوره في الجهاد والتأثير على المجاهدين، فأرسلوا إليه  تارة ترهيبا وأخرى ترغيبا من أجل وقف نشاطه وكان جوابه الثابت في كل مرة الامتناع والتصدي  لما يهدف إليه.

فما كان من المستدمر إلا التفكير في التخلص منه وإنه لديدن الاحتلال الغاشم المتوحش فكان أن اختطفوه خوفا من اعتقاله علنا.

ويروي إبراهيم جوادي البوسعادي حادثة استشهاده الذي كان سببا في التحاقه بالمجاهدين. فيقول: “وقد تكفل بتعذيبه الجنود السنغاليون والشيخ بين أيديهم صامتا صابرا محتسبا لا يتكلم إلى أن نفذ صبر “لاقايارد” -قائد فرقة القبعات الحمر- وبعد عدة أيام من التعذيب جاء يوم الشهادة حيث أعدت للشيخ بقرة كبيرة مليئة بزيت السيارات والشاحنات العسكرية والإسفلت الأسود وأوقدت النيران من تحتها إلى درجة الغليان، والجنود السنغاليون يقومون بتعذيبه دونما رحمة وهو صابر محتسب، ثم طلب منهم لاقايارد حمل الشيخ العربي… فحمله أربعة من الجنود السنغاليين وأوثقوا يديه ورجليه ثم رفعوه فوق وعاء من الزيت المغلي المتأجج وطلبوا منه الاعتراف وقبول التفاوض وتهدئة الثوار والشعب ، والشيخ يردد بصمت وهدوء كلمة الشهادة :لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم وضع قدميه في وعاء الزيت فأغمي عليه… ثم أنزل شيئا فشيئا إلى أن دخل بكامله فاحترق وتبخر وتلاشى…”

مشهد تهتز له النفوس يعكس دور جمعية العلماء المسلمين إبان الثورة ويجعلها في مقدمة ركب الإصلاح والمساهمة في الثورة التحريرية وغيرها من الأدوار الهامة. رحمك الله أيها الشهيد العربي التبسي وجعل مثواك الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

أما أنت يا ابن باديس فقر عينا واهنأ حيث أنت فقد أنجزت وتركت خلفك تاريخا ورجالا وإرثا وتلك سمة العظماء الذين يخطون المسير ويتركون الأثر، أما نحن سنقتفي الأثر ولن نحيد عن قافلة الإصلاح، سنواصل الطريق، سنأخذ للحياة سلاحها ونخوض الخطوب حتى يقترب الصباح ويبزغ الفجر….


المصدر: مجلة الربيئة

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.