بواكير ترجمة المصطلح النّقدي المعاصر عند عبد الملك مرتاض
بقلم: د. سيدي محمّد بن مالك-
لم يكتفِ النّاقد الجزائريّ بمُقارَبة أجناس الكتابة الأدبيّة الجزائريّة وأنواعها، بل حاول التّقعيدَ لبعض الأفكار والمقولات النّقدية. وقد اتّخذت تلك المحاولات شكلَ مُساجَلات أدبيّة ونقديّة، مثل مُساجَلات محمّد مصايف وأبي القاسم سعد الله وأبي القاسم خمّار وعبد الله ركيبي حول ثنائيّة الالتزام والإلزام في الفنّ والأدب. وإذا كان النّقاش والجدل قد استظلاّ بظلّ العقيدة وأفرزتهما عوامل غير محايِثةٍ للإبداع، وهي، لا شكّ، عوامل سابقة على النّص ومنتِجة له وفاعِلة فيه ومُتلبِّسة به (العوامل الأيديولوجية والسياسيّة والاجتماعية والنّفسيّة والثّقافية)، فإنّ عبد الملك مرتاض قد تفرّد، في بدايات ثمانينيات القرن العشرين، وهي المرحلة الّتي لم يكن قد تخلّص فيها الدّارسون بعدُ من هيمنة النّقد الاجتماعي تنظيراً وتطبيقاً، برؤية نقديّة جرّبت الاستدلال بمصطلحاتٍ إجرائيةٍ معاصرةٍ لم يأْلفْها النّقد الأدبيّ الجزائريّ، جعلها مدخلاً لطرح مفاهيم وتصوّرات نقدية جديدة لم ينتبه إليها مُعاصِروه من النّقاد الجزائريّين أو تغافلوا عنها، مثل تصوّريْ (الفنّ) و(الجمال) اللّذيْن يقول بشأنهما في كتابه "النّص الأدبيّ؛ من أين؟ وإلى أين؟"، وهو عبارة عن محاضرات كان قد ألقاها النّاقد على طلبة الماجستير في الأدب العربي سنتيْ 1980 و1981: "الفنّ والجمال لفظان كبيران كلاهما يحمل عالماً ضخماً مُتشعِّباً من المفاهيم والدّلالات الّتي تتّخذ تأويلها تبعاً لما ركب في الشّخص المُتحدِّث أو الدّارس أو المُهتمّ من عناصر ثقافيّة وعرقيّة وحضاريّة... والحقّ، إنّ اللّفظيْن كليهِما لم يُعرَف لدى العرب تحت الاسم المُتداوَل عليه إلاّ في العصر الحديث؛ فـ (الفنّ) كان يُعرَف لديْهم، فيما يبدو، تحت مصطلح (الصّناعة). ويؤيّد هذا ذلك العنوان الّذي اختاره أبو هلال العسكري (توفي بعد سنة 1005 م) لكتابه الشّهير (كتاب الصّناعتيْن)؛ فالصّناعتان، هنا، هما (فنّ الشّعر) و(فنّ النّثر). وحتّى لفظ الصّناعة بالمفهوم التّقني لعملية الإبداع الأدبي لم يُعرَف إلاّ في أوجّ العصر العباسي. على حين إنّ (الجمال) ونشأ عنه، من بعدُ، لفظ (الجمالية) أو (الإستتيكية) لم يُعرَف تحت هذا الاسم، قطّ، بمعناهُ النّقديّ المُتداوَل على عهدِنا هذا، وإنّما كانوا أوجدوا بديلاً له هو (علم البلاغة) الّذي كان يبحث في دقائقِ الأسلوب العربيّ، وكانت غايته استكشاف الأسرار الجماليّة والأسلوبيّة الّتي اندسّت في نصوص الآثار العربية شعراً ونثراً"(1).
ويستثمر عبد الملك مرتاض، في سياق طرحه لمفهوميْ (الفنّ) و(الجمال)، مصطلحات لسانيّة تنتسب إلى الدّرس البنيويّ الّذي وضع لبِناتِه الأولى فرديناند دو سوسير في اللّسانيّات والّذي شكّل رافداً للمنهجيْن البنيوي والسّيميائي في النّقد أو علم الأدب، حيث نُلفيه يستخدم مصطلحات communication وtransmission وlangageوdestinataire وsystème وsigne وstructure وsémiotique وmessage... ويحيل إلى فلاديمير بروب ورومان جاكبسون ويوري لوتمان وجون كوهين وجيرار جينيت ورولان بارت وسواهم من الباحثين الّذين يمثّلون مرحلة جديدة في تاريخ النّقد الأدبي تحْتفي بشعريّة النّص من حيث هي طرائق وصيغ وأشكال تقديمِ المضمون. وكدأْبه دائماً، يجتهد عبد الملك مرتاض في ترجمة المصطلح النّقدي ذي الجذر اللّساني؛ فهو لا يرضى بالتّرجمات الّتي يَضعُها بعض النّقاد والدّارسين العرب مثل عبد السّلام المسدي؛ إذ يترجِم المصطلحات السّابقة، مثلاً، إلى: تبليغ وربط صلة وكلام أدبي ومُرسَل إليه ونظام وشفرة وبنية وإشاريّة ورسالة. وبما أنّ النّاقدَ حديثُ العهد بالمنهج البنيويّ ومقولاته وتطبيقاته، فإنّه يتذبذب في نقل بعض تلك المصطلحات؛ فنجده يترجم langage إلى كلام أدبي تارةً وإلى لغة أدبيّة تارةً أخرى، ويقابل مصطلحيْن مختلفيْن هما signe وcode بمفردة عربيّة واحدة هي شفرة، مع تواتر مصطلح الإشارة كمقابِلٍ للمصطلح الأوّل، ويميل إلى الاقتراض؛ فيستعمل مفردة قرافيمات مُقابِلاً لمصطلح graphèmes ومفردة مونيمات مُقابِلاً لمصطلح monèmes ومفردة سانطاقمات مُقابِلاً لمصطلح syntagmes ومفردة ليكسيمات مُقابِلاً لمصطلح lexèmes ومفردة بويتيك مُقابِلاً لمصطلح poétique الّذي لا تفي مفردتا إنشائيّة وشعريّة، في نظره، بغرضِ الدّلالة عليه، حيث يقول: "...
وهذا المفهوم هو ما يُمكِن أن يُعرَف، على عهدنا الحاضر، تحت اسم (la poétique). هو مصطلحٌ ألسنيٌّ جديدٌ لم تجد له العربيّة بعدُ مُعادِلاً مقبولاً. إنّ ترجمتَه بالإنشائية أو (الشعريّة) لا يعني كبيرَ شيءٍ؛ فـ (البويتيك) عند جاكبسون (R. JAKOBSON) هو وظيفة اللّغة الفنيّة للكتابة الّتي بواسطتها يُمكِن أن تكون (رسالة) (message) عملاً فنيّاً، على الرّغم من أنّ (البويتيك) لا يقتصر على دراسة مشاكل اللّغة الفنية للكتابة أو (le langage)، وإنّما يُجاوِز هذا المجالَ الضّيِّقَ إلى نـظرية الإشارات (théorie de la littérature)"(2).
ولعلّ أهمّ ميزةٍ يتّصف بها عبد الملك مرتاض هي حرصه الدؤوب على التّأصيل لبعض المصطلحات الدّخيلة في التّراث النّقدي العربي، وتتبّع مصادر بعضها الآخر في الفكر النّقدي الغربيّ المعاصر، ابتغاء الاستقرار على مصطلحٍ بعينِه وتوظيفه باستمرار، مثل ما يفعل مع مصطلح الحيّز الّذي لا يَعدِلُ عن استخدامه، في ما نعلم، منذ سنة 1980، وهي السّنة الّتي ألّف فيها كتابه "النّص الأدبيّ؛ من أين ؟ وإلى أين ؟"؛ فهو يفضّل استعماله كمُقابِلٍ لـ espace بدل مصطلح الامتداد مجاراةً للنّقاد الغربيّين. يقول النّاقد عن صورة الرّبيع بوصفها مظهراً حيزياً: "فـ (الرّبيع)، هنا، يُغلِّف مجموعةً من الظّواهر الحيزية المنسجمة أو المتجانسة فيما بينها؛ فليس الرّبيع شيئاً منعزلاً عن العالم الخارجيّ، والعالم المحسوس، بل هو شيءٌ منتمٍ، حتماً، إلى هذا العالم. وهو، أثناء ذلك، مجموعةٌ من الخطوط إذا انصرف وهمُنا إلى الحقول وأطرافها، والنّباتات وامتداداتها؛ منها ما هو أفقيّ، ومنها ما هو عموديّ، ومنها ما هو مُنْحنٍ، ومنها ما هو منكسرٌ، ومنها ما هو مستديرٌ، ومنها ما هو غير ذلك إلى ما لا نهاية من هذه الخطوط المختلفة في امتداداتها والتواءاتها وانكساراتها واستداراتها...
وهو مجموعةٌ، أثناء ذلك، من الألوان إذا انصرف وهمُنا إلى ما ينشأ عن ذكرِ هذا اللّفظ من تصوّر لزهورٍ مُتفتّحةٍ؛ إمّا صفراء فاقعة اللّون، وإمّا حمراء قانيته، وإمّا بيضاء ناصعة، وإمّا سوى ذلك من هذه الألوان الفرعيّة الّتي لا يكادُ الحصْرُ يأتي عليها كالزّرقاء، والبنفسجيّة، والبُنيّة، والقمحيّة، والبرتقاليّة... ويُمكِن تمثُّلُ هذه الصّورة متكاملةً في حقلٍ زاهٍ لم تعثْ فيه السّوائمُ ارتعاءً ودَوْساً ونهْشاً"(3). ويأبى عبد الملك مرتاض، على الرّغم من تأثّره بالنّقد الأدبي الغربي واعتماده مقولاته أو بعضها، على الأقلّ، بعد تطويعها في قراءة النّص الأدبي العربي نحو نصّ (الإشارات الإلهية) لأبي حيان التّوحيدي، إلاّ أن يُبديَ، كعادته، موقفَه من المدارس النّقدية المعاصرة؛ فهو لا يقبل كلّ ما يصدر عن أعلامها ومُمثّليها من آراء نظريّة ونتائج بحثيّة، حيث يُنكِر على الدّارس أن يُغاليَ، أثناء تشريح الإبداع، في سلوك الموضوعيّة الّتي يتطلّبها المنهج البنيويّ، مثلاً، مُتجاهِلاً أنّ عمليّةَ التّشريح نفسَها هي إبداعٌ، أيضاً، من حيث إنّها نقدٌ يجنح إلى الذّاتية وإن كان محكوماً بالعلميّة، حيث يقول: "هَبْ دارسيْن اثنيْن يعتزيان إلى المدرسة البنيوية، فنياً ومنهجياً، وشاءا نقدَ نصّ قصيدة شعريّة؛ فماذا يحدث لهما؟ إنّهما، لا ريب، على اتّفاقِهما في المنهج العامّ والرؤية الفلسفية، فإنّ الطّابع الشّخصي سيطغى على عمل كلّ واحدٍ منهما .
– ولكنْ في إطار الموضوعيّة الإيديولوجيّة أو الفنيّة الّتي تستند إلى مقاييس فنيّة مُعيَّنة تضطرب في مجالها ولا تعدوه
– ممّا يجعلنا نعتقد أنّ دراسةَ النّص وتشريحَه تشريحاً كلينيكياً، مهما استندا، في منهج التّناول وسبيل التّعامل، إلى الموضوعية الفنية والمعايير النقديّة الجاهزة، فإنّها تظلّ، مع ذلك، متّسمةً بالذّاتية؛ فتشريح النّص إبداعٌ حتماً؛ فإن لم يَرْقَ إلى هذه المنزلة، فهو مجرَّدُ شرحٍ مدرسيٍّ عقيمٍ. والنّقد، في مدلوله العالي، إبداعٌ فنيٌّ ثانٍ، وأيّ نقدٍ لا يرقى إلى هذه المكانة فهو مجرَّد لغوٍ ومحضُ باطلٍ وفضولٍ.
وكلّ دراسة تُقام حول نصٍّ على أصولها المنهجيّة المُستنِدة إلى العلم والموضوعيّة الصّارمة لا ترقى، في إطار مفهومها، إلى منزلة الإبداع الثّاني لا يجوز أن تُسمّى دراسةً؛ فالنّقد على أصوله الموضوعية الصّارمة أو الّتي يجب أن تكون صارمة شديدةَ الصّرامة، على الرّغم من ذلك، إذن، يظلّ ضرباً من الإبداع الفنيّ؛ فإن رضِيَ لنفسِه أن يكون ابتذالاً لمعاييرَ جاهزةٍ، وقواعدَ مُكرَّرةٍ، وأحكامٍ باليةٍ
– ولو ادّعى لنفسِه صفتيْ الجِدّة والحداثة
– فهو مجرَّد كلام ممجوج يُرْصَفُ حول كلام تُفترَض فيه الإبداعيّة والشّعريّة"(4).
لقد انصرف عبد الملك مرتاض، في باكورة كتاباته النّقدية ذات النّزوع الحداثيّ، إذاً، إلى ترجمة المصطلح النّقدي المعاصر تارةً، وإلى اقتراضه تارةً أخرى، مُستعيناً بأهليّته اللّسانية وبجراءته على اقتحام مجال التّرجمة المصطلحية، حتّى وإن ناءت بعض المُعادِلات الّتي ارتضاها للمصطلحات الدّخيلة عن ما هو مُتعارَفٌ عليه، اليوم، من مصطلحات نقديّة مُتّفَق عليها، إلى حدٍّ ما، من لدن النّقاد العرب، وتميّز بترجمة مصطلحات لم يَحِدْ عنها طوال مسيرته النّقدية، نظير مصطلح الحيّز الّذي يكاد يمثّل محور دراساته الّتي ألّفها على امتداد خمسٍ وثلاثين سنةً (بدءاً من تاريخ صدور كتاب ""النّص الأدبيّ؛ من أين ؟ وإلى أين ؟"؛ فناقدُنا قد مارَس النّقد الاجتماعيّ ذا الصّبغة الأيديولوجية قبل هذا التّاريخ بكثير، وهو ما جعله ناقداً مُخضرَماً يجمع بين حقبتيْن نقديتيْن، هما الحقبة الكلاسيكية والحقبة المعاصرة)، حيث لا يخلو، أو يكاد، أيّ كتاب نقديّ يضطلع فيه بتحليل قصيدة أو قصّة أو رواية أو حكاية أو أسطورة أو مثَل من مبحث الحيّز؛ فقد ألفيْنا هذا المبحث حاضراً، على مستويَيْ النّظرية والممارسة، في معظم تلك الدّراسات، نحو "السّبع المُعلَّقات؛ تحليل أنتروبولوجي / سيمائي لشعريّة نصوصها" و"القصّة الجزائرية المعاصرة" و"تحليل الخطاب السّردي؛ معالجة تفكيكية سيمائية مُركَّبة لرواية (زقاق المدق)" و"الميثولوجيا عند العرب؛ دراسة لمجموعة من الأساطير والمعتقدات العربيّة القديمة" و"الأمثال الشّعبية الجزائرية". إنّنا نعتقد أنّه إذا كان لعبد الملك مرتاض نظريّةً يتفرّد بها، فهي، من دون شكّ، نظريّة الحيّز الّتي ينبغي تأمّلها مليّاً ابتغاء وصفها وتفسيرها وتحليل شروطها ومُكوِّناتها(5).
الهوامش:
(1)- عبد الملك مرتاض: "النّص الأدبي؛ من أين ؟ وإلى أين ؟"، ديوان المطبوعات الجامعيّة، الجزائر، د. ط، 1983، ص 11.
(2) - المرجع نفسه، ص 26، 27.
(3) - المرجع نفسه، ص 102.
(4) - المرجع نفسه، ص 50، 51.
(5) - لقد حاولنا القيام بعمليّة وصف هذه النّظرية وتفسيرها وتحليلها، ووجدنا أنّ تصوّر الحيّز، لدى عبد الملك مرتاض، ينهض على ثلاثة أسس، هي: الحيّز بنية لغوية، وانتقاء الأوصاف، والحيّز والزّمن. يُنظَر: "النّص الرّوائي العربي بين الإيهام والإيحاء؛ سلطة المكان الرّوائي وشعريّة الفضاء"، في "كتابات معاصرة"، العدد 76، المجلّد 19، نيسان / أيّار 2010.
د. سيدي محمّد بن مالك - جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان (الجزائر)