الشيخ العباس بن الشيخ الحسين (1912-1989)

بقلم: أ.د. مولود عويمر-

بدأت حياة الشيخ العباس في بلدة سيدي خليفة قرب مدينة ميلة بالشرق الجزائري حيث ولد في عام 1912. حفظ القرآن الكريم صغيرا في الزاوية التي كانت تشرف عليها عائلة بن الشيخ الحسين. وقد أشار الدكتور عمار الطالبي في مداخلته إلى الدور العلمي لهذه الزاوية التي زارها واستفاد من بعض مخطوطاتها النادرة.

واصل الطالب العباس دراسته في زاوية سيدي منصور بضواحي مدينة دلس. ثم سافر إلى المغرب لإكمال تحصيله العلمي في جامع القرويين بفاس. وتساءل الأستاذ محمد الهادي الحسني لماذا اختار الشيخ العباس هذا الجامع بدلا من جامع الزيتونة على عادة سكان الشرق الجزائري؟ ورجح أنه قد سافر إليه من قبل لكنه لم يجد فيه ضالته العلمية فاتجه نحو المغرب.

عاد الشيخ العباس من المغرب بعد حصوله على شهادة العالمية، وانخرط بسرعة في بيئته الطبيعية وهي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي رحبت به وعينته معلما في بني صاف. ونجح في مهنته التعليمية ورسالته الوعظية بين الجزائريين وكذلك بين العمال المغاربة الذين كانوا يشتغلون في هذه البلدة. ثم كلفته الجمعية في عام 1939 بالإشراف على العمل الإصلاحي في عنابة، والدعوة في المدن المجاورة لها كالقالة، عزابة، سكيكدة، قالمة وسوق أهراس.

وفي صيف 1946 عادت جمعية العلماء إلى نشاطها بعد تعطيله من طرف سلطة الاحتلال منذ عام 1940، فعين الشيخ العباس عضوا في مكتبها الإداري، واستمر عضوا في هذا المنصب لعدة سنوات. ولما فتح معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بقسنطينة في عام 1947، اختير أستاذا فيه، وتخرج عليه العديد من الطلبة، ومنهم الدكتور عبد الرزاق قسوم والأستاذ سعدي بزيان والأستاذ عبد الله عثامنية الذين حرصوا في هذه الندوة على تقديم شهاداتهم على ذلك العصر الجميل.

لم يقتصر نشاط الشيخ العباس على التعليم والعمل الإصلاحي، فقد شارك أيضا في النضال السياسي. وذكر الدكتور مولود عويمر أن الشيخ العباس كان يتميز بمواصفات القيادة والدهاء والحنكة، وكان يكلّف بالمهمات الصعبة من طرف قيادة جمعية العلماء سواء في الداخل أو خارج الجزائر خاصة بعد سفر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي واستقراره في القاهرة بين 1952و1962.

وقد أحسن الأستاذ أحمد رضا حوحو وصف الشيخ العباس حينما قال في مقال نشره في جريدة “البصائر” في عام 1954 بعنوان “رفع الالتباس في الشيخ العباس” أن هذا الأخير: «فيه استعداد طبيعي للقيادة لأن في نفسه مواهبها وهي قوة الشخصية من جهة، ومن جهة أخرى هذه الجوانب الغامضة المحفوفة بالخفاء والأسرار في خططه ووسائله التي حسبها الناس غموضا أصيلا في شخصيته لا ينفصل عنها».

وهكذا انخرط مبكرا في النضال السياسي في حزب الشعب الجزائري ثم انضم إلى حركة أحباب الحرية والبيان. وقد اعتقل بسبب هذا النشاط قبيل مجازر 8 ماي 1945. كما أنه انخرط في الثورة التحريرية وصار ممثلا للحكومة الجزائرية المؤقتة في المملكة العربية السعودية، وقد قام بدوره أحسن أداء.

وبعد الاستقلال، ثُبّت الشيخ العباس رسميا كأول سفير للجزائر المستقلة في المملكة العربية السعودية، لكنه ما لبث أن استقال من منصبه الدبلوماسي بعد أن تغيرت طبيعة العلاقات بين الجزائر الاشتراكية والمملكة السعودية.

عيّن الشيخ العباس رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في عهد وزير الشؤون الدينية الشيخ العربي سعدوني، ثم استقال في عهد الوزير مولود قاسم نايت بلقاسم ليتفرغ للدعوة والإرشاد، فعمل مدرسا وخطيبا متطوّعا في الجامع الكبير بالجزائر العاصمة. كما ساهم في العديد من المشاريع الخيرية وخاصة في بناء المساجد والمدارس القرآنية. وفي هذا السياق، ذكر الباحث أحمد رواجية في كتابه: ” الإخوان والمساجد” أن الشيخ العباس كان له دور حاسم في بناء مسجد الأمير عبد القادر الكبير بقسنطينة.

وفي عام 1982 عيّن الشيخ العباس عميدا للمعهد الإسلامي لمسجد باريس الكبير، خلفا للشيخ حمزة بوبكر، وبقي في هذا المنصب الحساس 7 سنوات بذل خلالها جهدا كبيرا في لم شمل المسلمين والدفاع عن حقوقهم. وقد قدم الأساتذة قسوم والحسني وبزيان -الذين كانوا من مساعديه في هذه المؤسسة في تلك الفترة- أمثلة عديدة في هذا الشأن.

وكذلك اعتبر العديد من الباحثين المختصين في تاريخ الوجود الإسلامي في فرنسا أن مسجد باريس عرف في عصره أزهى أيامه نظرا للنشاطات الكثيرة التي قامت به هذه المؤسسة الدينية عبر التراب الفرنسي، وامتدت كذلك إلى بلجيكا حيث أشرف هو على فتح مسجد في عاصمتها بروكسل.

ولعل أبرز نشاط قدمه في هذا المجال، كان يتمثل في تنظيمه لأكبر مؤتمر للمسلمين المقيمين في فرنسا وأوروبا، وكان ذلك في عام 1985 في مدينة ليون. وقد ذكر الدكتور سعيد شيبان في مداخلته أنه كان مدعوا مع الدكتور أحمد عروة للمشاركة في أشغاله. وحضر إليه أيضا المفكر الفرنسي المسلم المعروف رجاء غارودي.

وهكذا واصل الشيخ العباس نشاطه إلى أن وافته المنية في 3 ماي 1989 وهو يحضر إلى حفل استقبال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في باريس. وقد نقلت وسائل الإعلام الجزائرية والأجنبية خبر وفاته وكتبت عنه الصحف العربية والفرنسية. وأكتفي هنا بالإشارة إلى مقالين.

قال الكاتب المغربي وزميله في الدراسة بجامع القرويين بفاس أحمد بن سودة في حوار في “جريدة الشرق الأوسط” الصادرة بلندن مستحضرا ذكرياته القديمة: «كان اسمه لامعا في القرويين … وكان أنبغ التلاميذ يتمتع بقامة طويلة وجسم رياضي. كما كان خطيبا بليغا. عمل معنا في الخلايا الوطنية كأي مواطن مغربي رغم أنه جزائري».

وكتب عنه أيضا الشيخ أحمد حماني في جريدة “الشعب” مقالا عنوانه: “الشيخ العباس شخصية وطنية وتاريخ جهاد”، تحدث فيه عن بعض محطات من حياته وذكر خصاله، وقد قال في هذا الشأن: « وقد كان الشيخ عباس –كما أعرفه- متين التكوين، غزير المادة، فصيح اللسان، جيد البيان، جرئ القلب، فاحتل مكانه في صفوف العلماء عن جدارة واستحقاق، وقام بمهمته أحسن قيام، كان عضوا مسيرا في المجلس الإداري لجمعية العلماء، وأستاذا بمعهد عبد الحميد بن باديس، وعضوا في لجنة التعليم … وكان أثناء العهد الأخير الذي سبق قيام الثورة عن السنة الجمعية والناطقة باسمها بتفويض من إخوانه توكل إليه المهمات، وقد صدحت هذه النظرة في كفاءته الأحداث من بعد عندما كان عضوا في جبهة التحرير الوطني وأسندت إليه قيادتها تمثيل بلاده وهي ثائرة في المملكة العربية السعودية، وتعيينه سفيرا هناك بعد الاستقلال، ثم إسناد مهمته الأخيرة في باريس فنجح فيها أيما نجاح».

رحم الله الشيخ العباس بن الشيخ الحسين وجزاه على ما قدم لدينه ووطنه جنة الفردوس مع الصديقين والشهداء والعلماء العاملين المخلصين.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.