عمر راسم: شعلة أطفأتها أعاصير النسيان

بقلم: عبد الرحمان دويب-

إنَّ مصادر التَّعريف بشخصينا هذا شحيحة وضنينة بأخباره وتقلُّباته، فهي وإن أعطتنا صورة عن بداية مسيرة الرَّجل، فإنَّ النِّصف الثَّاني من حياته لم تتناوله إلاَّ بإشارات وإلماعات يجدها القارئ متفرِّقة ومنثورة في بعض الكتب والمراجع.

ثمَّ إنَّ صاحب "تقويم الأخلاق" الأستاذ محمد العابد الجلاَّلي الذي نشر كتابه سنة 1927م يعدُّ هو الوحيد الذي انفرد بترجمته، ويظهر من خلال كتابه أنَّه كان يعرفه شخصيا، فقد ذكر تنقُّلاته وعمله في الصَّحافة وسجنه وكذا بعض آرائه.

وكلُّ مَن كتب عنه بعد ذلك فهم عيال على هذا الكتاب، وقد أشار الدكتور سعد الله إلى أنَّ هناك ثغرتان في هذه التَّرجمة:

الأولى: أنها ترجمة مبكّرة لحياته، إذ تقع في منتصف عمره.

والثانية: أنَّ هناك جوانب خفية لا يمكن للمعاصر الاطِّلاع عليها عادة إلاَّ بعد وفاة الشَّخص، وهذا بدراسة الوثائق والتَّجارب الأخرى.

فالنِّصف الثَّاني مِن حياته ما يزال مجهولا، ولا شكَّ أنَّ لدى مصالح الأمن الفرنسي معلومات غزيرة عنه.

زِد على هذا التَّقصير أنَّ جلَّ مَن يعرفه مِن قُرَّاء عصرنا، فإنَّهم لا يعرفونه إلاَّ باشتغاله بالفنِّ والزَّخرفة والمنمنمات، والرَّجل كان أديبا وصحافيا ومفسرا ومؤرِّخا ووطنيا مِن الطِّراز الأوَّل.

اسمه ونسبه:

هو عمر بن علي راسم بن سعيد بن محمد، كان والده علي راسم المتوفي سنة 1917م، مِن كبار الرَّسَّامين والخطَّاطين.

وُلِدَ سنة 1302هـ؛ أي حوالي سنة 1883 أو 1884م بالجزائر العاصمة، وهو أصيل مدينة بجاية، ويذهب بعضهم إلى أنَّ أصول عائلته تركية، وفيه نظر، إذ كان يمضي جلَ مقالاته بـ: الصَّنهاجي.

محطَّات مِن مسيرة حياته:

1) حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنوات.

2) عمِل حزَّابا في (جامع سفير) وهو ابن اثنتي عشر سنة، وفي هذا المسجد قرأ النَّحو على يد الشَّيخ الكمال ابن الخوجة.

3) درس في المدرسة الشَّرعية الفرنسية (الثعالبية بالجزائر) سنة واحدة، ثمَّ أخرِجَ منها بسبب فكره الإصلاحي الذي كان متأثِّرا به وبالشَّيخ محمد عبده الذي كان يُمثِّل وينظِّر لهذا الفكر، فطرده أحد الأساتذة الجامدين المتعصِّبين.

4) فهو عِصاميُّ الطَّلب، كوَّنته الأحداث والوقائع، وصقلت مواهبه الظُّروف والتَّجارب.

أهمُّ نشاطاته:

1) وقف هو وجمعٌ مِن العلماء وقفةَ رجلٍ واحدٍ في وجه قانون فرض التَّجنيد الإجباري على الجزائريين سنة 1911/1912م، والذي كانت سترمي به فرنسا شبابَ الجزائر في جحيم الحرب العالمية الأولى.

2) اهتم بالسِّياسة مبكّرا، وهو ما دفعه إلى الكتابة في الصَّحافة لنشر أفكاره وآرائه، فكتب في جرائد تونسية مثل: (التَّقدم)، و(مرشد الأمَّة)، و(المرشد)، وهذا منذ 1907م، فهو أوَّل الجزائريين الذين شاركوا في تحرير الصُّحف بتونس.

3) أنشأ سنة 1908م صحيفة (الجزائر)، وهي نصف شهرية، صدر منها ثلاثة أعداد إضافة إلى العدد التَّجريبي ثمَّ اختفت لأسبابٍ مالية.

4) سافر إلى مصر سنة 1912م، ربَّما للتَّعرُّف على أحوال المسلمين أو لغرض آخر، وهذه السَّفرية ما تزال ظروفها غامضة، فلعلَّ المستقبل القريب يهيِّئ مَن يكشف عن حقيقتها، ويزيل كذلك السِّتار عن كثير من الجوانب الغامضة في مسيرة هذا الرَّجل.

5) تعاون مع عمر بن قدُّور (رائد الصَّحافة الجزائرية) على إصدار جريدة (الفاروق) سنة 1913م.

6) في سنة 1913م أصدر جريدته (ذو الفقار)، وكان ينشر فيها مقالاته باسم مستعار: (ابن المنصور الصَّنهاجي)، وكانت هذه الجريدة مثالا في التَّضحية، وهي بِدعا في تاريخ الصَّحافة، إذ كان يتحمَّل عبء تحرير فصولها، ورسم صورها، وطبعها على المطبعة الحجرية، وتوزيعها، وتمويلها، ثمَّ أوقف صدورها الاستعمار، متعلِّلا بالحرب العالمية الأولى، وزجَّ بصاحبها في السِّجن بتهمة التَّواطؤ مع الأعداء، ليذوق بعد ذلك ألوانا من العذاب النَّفسي، والذي سيؤثِّر فيه وفي منهجه وفكره الثَّوري.

7) بقِيَ في سجن (بربروس) زنزانة رقم: 40، إلى غاية سنة 1921م، فكانت تلك الفترة من حياته هي الأكثر صعوبة على نفسه، كما عبَّر هو عنها في رسالة أرسلَ بها إلى أخيه محمد، وفيها يصف حاله: "حتى البكاء الذي سيخفِّف عنِّي لا أستطيعه، لأنَّ ذلك يجِبُ أن يكون بعد إذْن".

8) في هذه الفترة جادت قريحته بعطاء ما يزالُ إلى يومنا هذا مجهولا، فقد كتب وهو في سجنه تفسيرا لكتاب الله، نشرت جريدة (الشهاب) مقدِّمته سنة 1926م.

9) بعد خروجه من السِّجن تغيَّر فكره، وأصيب بداء اليأس القنوط، واستبدَّت به نزعة تشاؤمية، فانقطع للفنِّ والرَّسم، وبرز فيهما، حتى صار أستاذا سنة 1931م في مدرسة تعليم فنِّ التَّصوير والزَّخرفة العربية، وتخرَّج على يديه نخبة مِن كبار الرَّسَّامين.

10) اشتهر بعد خروجه من السِّجن بتثبيط العلماء عن الإصلاح، فكان يكاتبهم ويستشهد لهم بأحداث ووقائع تقذف في قلوبهم مذهب اليأس والقنوط، وتدعوهم إلى الخمول.

11) كما عمل مُذيعا في الإذاعة الفرنسية بالجزائر إلى توفَّاه الأجل سنة 1959م، ودفن بمقبرة سيدي عبد الرَّحمن بالجزائر العاصمة.

مؤلَّفاته:
1) تفسير القرآن الكريم:

ألَّفه ب (سجن بربروس)، ونقلت مقدِّمته جريدة (الشِّهاب)، وهو بهذا العمل يصحُّ أن ندرج اسمه ضمن قائمة مَن فسَّر كتاب الله من علماء الجزائر، زيادة على هذا فقد فسَّره وهو في السِّجن تماما كما فعل سيد قطب، وهذه مزية أخرى.

2) تراجم علماء الجزائر:

من المؤلَّفات النَّادرة التي تناولت التَّعريف بعلماء الجزائر، نقل عنه الأستاذ محمد علي دبوز في كتابه: تاريخ النَّهضة في الجزائر، وأشار إليه الدكتور عمار طالبي في مقدِّمة كتابه: (آثار الإمام ابن باديس وحياته).
مقالاته:
لقد ترك الأستاذ عمر راسم مجموعة من المقالات، وتراثا من الإنتاج الفكري، يحتاج إلى مَن يوليه اهتماما وعناية، فهو جزء من تاريخ هذه الأمَّة، ونبضة من نبضات حياة فكرها ونهضتها الحديثة، وهذه جملة مختارة من عناوين تلك المقالات التي كان يحلِّي بها صدور الجرائد في الجزائر وخارجها.

مقالته في الصُّحف الأجنبية:

1) رأيٌ حرٌّ: التَّقدُّم التونسية، عدد/ 26 ديسمبر 1907م: وهي في الواقع رسالة موجَّهة إلى رئيس وزراء فرنسا ووزير حربيَّتها وواليها العام على الجزائر، فضح مِن خلالها أساليب الاستعمار، وناشد النُّخبة الجزائرية بالقيام بواجبها في المطالبة بحقوق أبناء ملَّتهم.

2) مقال آخر نُشر في: التَّقدُّم، ع/27 فبراير 1908م، هاجم فيه منح النَّياشين للجزائريِّين مقابل الولاء، وهذا على حساب الشَّعب، كما هاجم فيه مساوئ الحضارة الغربية، وانتقد الفئة المندمجة التي ولَّت وجهها شطر المتسلِّط (فرنسا) على البلاد والعباد.

3) نصيحة الأخ: التَّقدُّم، ع/30 نوفمبر 1908م.

4) استعمار فلسطين: مرشد الأمَّة، ع/23 جويلية 1909م

5) صناعة جديدة للسَّلب: مرشد الأمَّة، ع/06 أوت 1909م

6) استعمار فلسطين: مرشد الأمَّة، ع/27 أوت 1909م

7) النِّزاع الإنكليزي الألماني: مرشد الأمَّة، ع/09 سبتمبر 1909م

8) الجزاء من جنس العمل: مرشد الأمَّة، ع/05 ديسمبر 1909م

9) تهنئة المشير: المشير، ع/08 جانفي 1911م

10) الموسيقى الأندلسية: المباحث، ع/13 أفريل 1945م.

بين اليأس والتَّدجين:

إنَّ مَن يقرأ مسيرة الرَّجل ليدرك الهوَّة السَّاحقة بين كمال البداية وتدنِّي نهايتها، وكأنَّ الزَّمان قد استدار، فبينما كان الرَّجل يحلِّق في أجواء العظمة، فإذا به يهوي إلى حضيض اليأس، ليدفن نفسه قبل موته.

كان في بدايته يكتب عن الاستعمار وظلمه، وينقِم على المندمجين مِن بني جنسه، ويحذِّر قومه مِن اليهود ومكائدهم، وينبِّه الغافلين إلى أطماع الصَّهاينة في فلسطين، فكان يكتب المناشير ويلصقها على الجدران خفية بـ(ساحة العود) و(القصبة) ليستنهِضَ بها الهمم الفاترة، ويحرِّض الشَّعب على الوقوف في وجه العتاة.

ثمَّ صار يُعنىَ بالرَّسم والمنمنمات، ويدعى إلى حضور المهرجانات، ويكتب عن الموسيقى الأندلسية التي سلِبنا أرضها، ولم يبق لنا مِن إرثها إلاَّ النُّوبات والمصدَّرات والتُّوشيات، فكانت على الأمَّة نوائب ومصدر همٍّ وشتات.

فالرَّجل كان شعلة نار يستهين بالعظائم، وينتقد أهل عصره ويثور ولا يبالي بصهيل مَن عذَلَ أو لام.

فهل السِّجن، الذي هو ضريبة الإمامة في الدِّين والدُّنيا، وجِسرٌ بين المرء والعظمة، ومدرسة يتعلَّم فيها الضَّعيف كيف يقهر الاستبداد، هو الذي سلب منه الفكر الثَّوري ودجَّن سلوكاته؟ أم أنَّ التَّجربة غير المثمرة على زعمه التي خاضها في محاولة بعث الجزائريين، هي التي حوَّلت عطاءاته إلى ميدان السِّلم مع الأعداء؟

تساؤلات تحتاج إلى إمعان النظر في الظُّروف القاسية التي قضاها في السِّجن، وتتطلَّب إعمال الفكر في التَّدهور السَّحيق الذي وصل إليه الشَّعب الجزائري في ذلك العصر، والذي خلص فيه فكر راسم إلى نتيجة حكَم فيها على هذا الشَّعب بفقدان عناصر الحياة، وأنَّه مصاب بداء القابلية للذُّلِّ والهوان، وأنَّ أيَّ عَرَقٍ يُصبُّ مِن أجل إنقاذه، إنَّما هو ضربٌ مِن الجنون، وأنَّ أفضل مَنهج في تغييره هو أن نتربَّص بهذا الجيل ريب المنون.

وبهذا الفكر المصاب بداء التَّثاؤب يكون الأستاذ راسم قد خرج مِن مَسرح الأحداث وميدان الخطوب وجلائل الأعمال، ليدخل في عالم غريب عن طموحاته، فأخذ يسطِّر لنفسه مستقبلا، لا علاقة له بماضيه، فدخل في عزلة نفسية، غطَّت عنه منافذ الأمل، حتى أضحى ينقِم على كلِّ مصلح، ويهزأ بكلِّ جهد يُبذَل، بل أمسى مِن دعاة اليأس والتَّثبيط، كما جاء في كتاب: (حياة كفاح) للأستاذ أحمد توفيق المدني.

فما هي أسباب هذا السُّقوط؟ ومَن وراء هذا اليأس والقنوط؟

هذا ما سنحاول لا أقول قتل البحث فيه، ولكن حسبنا لمس بعض جوانبه ليأتي بعدنا مَن يعركه، والسَّعيد مَن وُعِظ بغيره.

نرى أنَّ سبب اليأس الذي غمر حياة راسم بعد خروجه من السِّجن يرجع إلى أمرين، ذلك أنّ أعظم ما يعاني منه المصلح، هو أن يرى أعماله تذهب أدراج الرِّياح، يعطي نفسه ونفيس ما يملك لإصلاح بني جلدته، وهم في غفلة عنه، بل قد يسعون لإفساد ما يصلحه، ثمَّ إذا أصيب في نفسه، فلا بواكي عليه.

هذا، ثمَّ إنَّ أساليب قتل الهمم، وطرق إخماد نار الثَّائرين في وجه الظُّلم، وترويض أباة الضَّيم على الخضوع للواقع، والرِّضا بالقدر المحتوم لا تعدُّ كثرة، ولا تحصى عددا، وفرنسا التي هي أستاذة في الظُّلم، لا نحسبها تجهل أنَّ السِّجن هو مِن أقدر العوامل في ترويض النُّفوس الثَّائرة وتدجينها، لهذا زجَّت بصاحبنا فيه حتى نُسي ونَسيَ النَّاسُ أمره.

إنَّ الآلام والهموم تحلُّ مِن عرى العزائم، وإنَّ المحن والابتلاءات تقلق مضاجع مَن تجاسر على خَوض أسبابها مِن غير عُدَّة ولا نصير.

وصاحب هذه التَّرجمة دخل في حربٍ مع أقوى دولة في ذلك العصر، فأخذ ينازعها في أطماعها، ويشحذُ همم مَن تعمل هي على تعطيلها، بل ذهب يفضح أسرارها ويشهِّر بمظالمها عن طريق نشر مقالات في جرائد جزائرية وتونسية، فكان السِّجن جزاءه، وهو حسب ما يظهر لنا كان من أعظم الأسباب التي غيَّرت في فكره، فكيف إذا اجتمع معه نكران ونسيان القوم له في أشدِّ فترة عاشها في حياته، وذلك بالجهل الذي ما يزال يغشى عقولهم، والتَّفرُّق الذي مزَّق ثوب وحدتهم، وهو أشدُّ مضاضة على نفسه مِن...

صحيحٌ، إنَّ اليأس مقبرة للدُّعاة وللعلماء...

وثيقة:

من الوثائق النَّادرة التي وقفنا عليها من إنتاج هذا الأستاذ الذي دخل ساحل العظمة ولم يلج بحرها، قصيدة من الشِّعر الملحون بخطِّ يده راسل بها الشَّيخ المهدي البوعبدلي (رحمه الله تعالى) على إثر الحرب العالمية الثَّانية، وكانا يعملان سويا بالإذاعة الفرنسية بالجزائر، إذ كان الشيخ المهدي يلقي سلسلة من المحاضرات حولا لعواصم العلمية المندثرة بالقطر الجزائري، وكان الأستاذ راسم مقرئا ومؤذِّنا بها، وهذه مختارات من أبياتها تنشر لأوَّل مرَّة تنمُّ عن خالته النَّفسية المهبطة، وعن نظرته التَّشاؤمية لإصلاح الشَّباب والأوضاع، قال:

1) جزاير صارت خندق * وْلادها غير تزَّندق * لا حد عليها يشفق * بلاد التايه والغفلان * لا منهم واحد يصدق * لا مَن لْعَرْضُه صان.

2) لا دين لا نيف لا حرمة * شبَّان ما عندهم همَّة * لا منهم يحسن كلمة * جهال حمير خْشان * ما يعرفوا ياكلوا اللقمة * خدَّاعين ما فيهم أمان.

3) نكروا سيرة لجدود * وتعدَوا جميع الحدود * صاروا يسبُّوا المعبود * باش دركهم الحِرمان * هم عراير الوجود * ملعونين بكل لسان.

4) الله ينعل هذا الجيل * ألي ردّْ جنسه ذليل * يعطيه ضربتْ الفيل * مَن المْرار يشرب وِيدان * يجعل كِيدُه في تضليل * ويرميه من الكيفان.

هذه نماذج من أبياتٍ تصوِّر لنا بعضا من الحالة الانهزامية التي أدركت مفاصل فكر الرَّجل، ولا ندري هل استمرَّت معه إلى عهد ثورة التَّحرير، وهل ستبقى معه إلى ما بعد الاستقلال؟

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.