اكتشاف مقال مخطوط للعلاّمة ابن العابد الجَلاّلي حول وفاة الأمير شكيب أرسلان كتبه بطلب من العلاّمة الإبراهيمي ..
بقلم: فوزي مصمودي-
بتاريخ الاثنين 15 محرّم 1366 هـ الموافق 9 ديسمبر 1946 م اهتزت الأمة العربية والإسلامية وأصيبت في العمق لفقدان رجل من عظمائها الكبار وقامة سامقة من قاماتها السامية ، ومناضل من مناضليها الشرفاء الوطني الصميم وأميرالبيان العربي النابغة شكيب أرسلان، الذي أفنى عمره في الدفاع عن فكرة الوحدة العربية و الإسلامية وسخّر كل فكره وجهده و وقته وكل كيانه لخدمة العروبة والإسلام وبني قومه، وتحرير الشعوب الإسلامية و أوطانها «سورية، فلسطين، لبنان، المغرب، ليبيا، تونس، الجزائر ... » من براثن الاحتلال الأوروبي الصليبي المعاصر .
كما أثّر في الأفكار النضالية والمبادئ الوطنية و التوجّهات الأيديولوجية لكثير من الزعماء و الساسة المسلمين، كان من بينهم أبو الحركة الوطنية الجزائرية السيد مصالي الحاج زعيم حزب نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب، والذي التقى به في سويسرا بداية ثلاثينيات القرن الماضي، إضافة إلى مراسلاته مع علماء الجزائر ؛ كالأديب البحّاثة أحمد توفيق المدني والشيخ الطيب العُقبي... وعلاقته الصحفية مع الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ أبي اليقظان والأديب الصحفي محمد السعيد الزّاهري... وقبل ذلك علاقته المتميزة مع الأمير علي بن الأمير عبد القادر الجزائري الذي التقى به في دمشق، والشيخ طاهر الجزائري ...
صدى وفاة الأمير أرسلان بالمشرق العربي
وبالرغم من الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بها الأقطار العربية والإسلامية في ظل الاحتلال الأوروبي الفرنسي والانجليزي بالخصوص وخروجها منهكة القوى جرّاء الحرب العالمية الثانية التي لم تكن طرفا فيها، بل فُرضت عليها فرضا، إلا أنها لم تنس فقيدها وأحد حاملي لواء نهضتها المعاصرة الأمير شكيب أرسلان، حيث قامت الكثير من الدوائر السياسية العربية والمجامع اللغوية والنوادي الثقافية بتنظيم تأبينيات ولقاءات بهذه المناسبة الأليمة، تبارى فيها الخطباء والسياسيون والأدباء والشعراء وذكروا خصال الفقيد ومناقبه ونضاله الكبير في سبيل الوحدة العربية والإسلامية، ومواجهة الاحتلال بشتى أنواعه، وتأثيره البالغ في مسار حركة التحرّر العربي، كما احتلت صوره الصفحات الأولى في الكثير من الجرائد و المجلات العربية في بلاد المشرق، و أعيدت طباعة عديد مؤلفات.
جمعية العلماء بالجزائر تؤبّنه وطنيا
لم تتخلف الجزائر عن هذا الحدث الأليم، بالرّغم من أنها مازالت تجمع طاقاتها و تلملم شتاتها وتداوي جراحاتها عقب مجازر 8 ماي 1945، حيث قام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي خرج لتوّه من السجن بالإعلان عن تنظيم تأبينية ضخمة بمناسبة أربعينية فقيد الأمة الأمير شكيب أرسلان، فأرسل إلى الكثير من السياسيين والعلماء والأدباء والشعراء في كافة القطر الجزائري يستحثهم للمشاركة في هذه الوقفة الوطنية، سواء بالكلمة والمقالة والقصيدة والشهادة أو بالحضور، أما الذين تعذّرت عليهم المشاركة الشخصية فقد طلب منهم كتابة ما جادت به قرائحهم شعرا أو نثرا وإرسالها على عجل، ليتكفل بقراءتها نيابة عنهم بعض علماء الجمعية أمام الجمهور .
ومن الذين استكتبهم الشيخ الإبراهيمي، الأديب الشاعر والمربّي المصلح الشيخ محمد بن العابد السّماتي الجَلاّلي الذي استجاب للطلب وسبك مقالة رصينة ومحكمة ذكر فيها بعضا من انجازات الفقيد و ألوانا من نضاله العربي والإسلامي وجهاده المرير ضد الاحتلال، جاءت في «06 صفحات» من القطع المتوسط، عنونها بـ«موت الأمير شكيب.. نهاية العالم» وقد أرّخ لها بـ25 صفر 1366 هـ الموافق 18 كانون ثاني «يناير جانفي» 1947، وقام بإرسالها إلى فضيلة العلاّمة الإبراهيمي، وقد دعاه في رسالته بـ«سيدي الأستاذ البشير الإبراهيمي» وبعد أن خصّه بـ«سلام طيب وتحية مباركة» كتب أنه أرسل إليه ما طلب وفاء بالوعد واستجابة لأمره، حيث كان يوقّره ويُجله ويعتبره بمثابة والده الثاني، رغم أنه لا يصغره إلا بسنة واحدة فقط.
ولم يفُته تذكير شيخه أن كثيرا مما جاء في مقالته جدير بالطرح والمناقشة تواضعا منه لأن ما كتبه حسب الرسالة كان في ظروف غير ملائمة تماما ، وقد عدّد بعضها، ومن ذلك :
الأمراض التي تعرّض لها والتي حالت بينه وبين كتابة هذه المقالة كما كان يتمنّى ويرجو، خاصة إصابته بالنزلة الصدرية والدمامل والحمى .
غياب صديقه وزميله الأديب الكاتب الشيخ المربّي عبد القادر الياجوري لمرض ألمّ بأمّه.
الاشتغال بالدروس وتحضيرها الجيد للتلاميذ، كيف لا وهو المربّي المثالي الذي كان يحثّ زملاءه على التحضير المحكم للدروس، حتى يتغلبوا على جميع الصّعاب و يواجهوا أسئلة التلاميذ المحرجة أحيانا ومطبّاتهم داخل القسم، وحتى لا يصبحوا مدعاة للسخرية و عرضة للازدراء من قبل تلامذتهم.
التحضير العملي لمواد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي اعتادت جميع مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إحياءه بالحفلات الدينية، منذ عهد العلامة ابن باديس الذي كان لا 02 يفرّط في هذه المناسبة، وجرائده وجرائد جمعية العلماء، أو المقرّبة منها توثق ذلك ، مستدركا إياه بقوله «علما أن هذا الأخير أي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بلغني اليوم أنك أزلته فأحسنتَ عملا» رغم أن المتتبع لمسيرة الجمعية وأنشطتها في عهد رئيسها الثاني الشيخ الإبراهيمي ومن خلال أسبوعية «البصائر» يدرك أن الاحتفال بالمولد النبوي بقي سائرا و متبعا في كل المدارس العربية الحرة وشعب جمعية العلماء، وكان ينظم بإشراف شيوخها وعلمائها ومعلميها، حيث كان مناسبة يُقرأ فيها القرآن الكريم وتُلقى خلالها الدروس العلمية والكلمات الإيمانية و القصائد الوطنية وتؤدّى فيها الأناشيد الدينية والوطنية وتُمثل المسرحيات والروايات الهادفة من قبل التلاميذ والتلميذات على السواء، والتي غالبا ما يكون مؤلفوها معلموهم أنفسهم .
وربما يكون هذا الخبر الذي وصل إلى الشيخ ابن العابد مشافهة عارٍ من الصحة، خاصة إذا علمنا أن من تقاليد جمعية العلماء التي حرصت عليها أن جميع قراراتها المُعدّة للتنفيذ ترسل إلى مختلف الشُّعب مكتوبة و مختومة ، أو تنشر على صفحات « البصائر » لسان حالها .
وقبل أن يختتم رسالته طلب منه تبليغ تحياته إلى الأولاد والأصدقاء موقعا إياها بـ«تلميذكم المخلص، محمد العابد الجلالي» مصير مقالة العلامة العابد الجَلاّلي لم يُكتب لهذه المقالة «موت الأمير شكيب.. نهاية العالم» أن ترى النور، فبقيت ضمن مجهولات العلامة ابن العابد، لا سيما أنها كُتبت في زمن كانت فيه السلسلة الأولى من جريدة «البصائر» قد توقفت عند العدد «180» الصادر بتاريخ الجمعة 9 رجب 1358 هـ الموافق 25 أوت 1939، ولم يصدر العدد الأول من السلسلة الثانية في عهد العلاّمة الإبراهيمي «المدير المسؤول وصاحب الامتياز ورئيس التحرير» إلا بعد عقد هذه التأبينية بأشهر معدودات، وبالتحديد يوم الجمعة 7 رمضان 1366 الموافق 25 جويلية 1947. لذلك لم تتم تغطية هذه التأبينية صحفيا ولم تُوثق إعلاميا، والتي قد تكون نُظمت خلال شهر جانفي أو فيفري 1947 وظلت نسيا منسيا حتى سقطت من تاريخ جمعية العلماء .