هؤلاء هم الرعيل الأول للصحافة الجزائرية: ابن باديس أشهر صحفي جزائري والعربي التبسي أعدموه بسبب مقالاته الصحفية
بقلم: عبد الناصر بن عيسى-
عمر راسم أنشأ أول جريدة عربية فحاكموه عسكريا وسجنوه مدى الحياة كيف كانت فرنسا الاستعمارية تسمي الشيخ عبد الحميد بن باديس؟ وكيف كانت تسمي رفقاءه في جمعية العلماء المسلمين؟ ومن أين كان يعيش، وما هو مصدر رزق الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان يتكفل ماديا بتعليم المئات من التلاميذ القادمين من كل الأصقاع لطلب العلم في مدرسته الخاصة بالتعليم والتربية التي كان يمنحها كل وقته وكل ماله؟
لماذا حاول الطرقيون قتل الشيخ بن باديس عام 1937 ولماذا قتلت فرنسا الشيخ العربي التبسي؟
أسئلة لا يوجد أحسن من الإجابة عنها في يوم الاحتفال بعيد الصحافة في الثالث من شهر ماي ..
فالشيخ عبد الحميد بن باديس كان صحفيا، وكل السجلات الفرنسية التي تتحدث عن الشيخ تسميه بالصحفي ابن باديس، فهو لم يكن إماما عينته فرنسا ولم يكن مفتيا، وإنما أولا وقبل كل شيء كان صحفيا، وكل رجالات التعليم ومنهم بالخصوص البشير الإبراهيمي والطيب العقبي ومبارك الميلي كانوا صحفيين، جمعهم القلم والصحافة قبل أن يبادروا إلى بعث جمعية العلماء المسلمين التي كان سلاحها الأول والأهم هو الصحافة.
ويبلغ عمر الصحافة الجزائرية الآن قرنا وسنتين، وتكمن قوة الصحافة الجزائرية المعربة بالخصوص كونها من أنامل الفنانين والدعاة، وكانت أول صحيفة جزائرية هي "الجزائر" التي بعثها الرسام العالمي عمر راسم عام 1908، وكان عمر راسم ظاهرة إعلامية قد لا تتكرر في تاريخ الصحافة العالمية، فهو الذي يكتب، وهو رئيس التحرير، وهو الذي يرسم في جريدته أي أنه كل شيء في جريدة "الجزائر" التي أوقفتها فرنسا، وصدرت بعدها جريدة الحق بعاصمة الغرب بعد ثلاث سنوات، وكان اتجاهها عثماني، وحتى جريدة الفاروق التي أسسها محفّظ القرآن الكريم عمر بن قدور كانت محرجة للاستعمار الفرنسي الذي لاحظ أن ولادة الصحافة الجزائرية كان الهدف منها الجزائر والعربية والدين الإسلامي، حيث كانت جميعها ناطقة باللغة العربية وذات أبعاد دينية إصلاحية، إذ قامت جريدة الفاروق بمحاربة البدع وكان صاحبها على اتصال مباشر بالشيخ محمد عبده.
ودون سن الثلاثين قرر الشيخ عبد الحميد بن باديس تأسيس أول يومية في تاريخ الجزائر وبعث صحيفة "النجاح" رفقة مجموعة من رجالات فسنطينة، وبلغ سحب هذه اليومية أواخر العشرينيات من القرن الماضي خمسة آلاف نسخة توزع على المستوى الوطني، رغم أنها لا تصل إلى القراء إلا بعد بضعة أيام، ولكن هذه التجربة منحت الصحفي عبد الحميد بن باديس النضج الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مؤسسات صحفية كاملة من شركة توزيع ومطبعة وهيئة تحرير، وكانت أولى الباكورات عام 1925 جريدة المنتقد، ولكنها توقفت عن الصدور بأمر من المستعمر بعد 18 عددا فقط، وقام الشيخ عبد الحميد بن باديس بإصدار جريدة "الشهاب" وأيضا باقتناء المطبعة الجزائرية الإسلامية التي مازالت موجودة لحد الآن، وهو ما جعل الجريدة تحقق نجاحا باهرا، وقال المفكر مالك بن نبي إنه لم يكن يشعر بالراحة إلا إذا تصفّح افتتاحية الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويشعر بالحزن إذا أطلت الصحيفة من دون افتتاحية تزامنا مع الرحلات الكثيرة التي كان يقوم بها الشيخ بن باديس، الذي كان يخرج في مهمات صحفية طويلة الأجل، وواصلت الشهاب صدورها ولم تتوقف إلا قبل وفاة الشيخ بن باديس بستة أشهر، وكل رجالات جمعية العلماء المسلمين خاضوا عالم الصحافة ككتاب وكمؤسسين، ومنهم الشيخ العقبي الذي أسّس جريدة "صدى الصحراء" وجريدة "بسكرة" وجريدة "الإصلاح" في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.
ولم يكن الشيخ بن باديس صحفيا تقليديا، وإنما كان قلمه هو سلاحه، ولأن جريدة الشهاب قصفت الطرقية ومظاهر الشعوذة وأسمت المتورطين في عالمها بالإسم، قامت الزاوية العلوية ببعث صحيفة "البلاغ الجزائري" وأنجزت أيضا مطبعة خاصة بها، واندلعت حربا صحفية بين الشهاب والبلاغ انتهت بمحاولة اغتيال عبد الحميد بن باديس الذي فاجأه مبعوث علوي بعصا، وبضربات كادت أن تودي بحياته ونجا من موت مؤكد بسبب مقالاته. وحتى الصلح الذي أقيم بين الزاوية العلوية والشيخ بن باديس أثناء زيارته إلى مستعانم كان صحفيا بالدرجة الأولى، حيث غطت الشهاب الرحلة وأعطتها أبعادها الإصلاحية.
ورغم أن المشارقة يتحدثون دائما عن ريادتهم في الصحافة العربية، إلا أن ما قام به الرعيل الأول من الصحافيين الجزائريين هو التجربة الصحفية الأكثر إثارة وأهمية، فالصحفي عمر راسم الذي أنشأ أول صحيفة جزائرية هو أيضا أول من استعمل في عالم الصحافة الأسماء المستعارة حتى لا توقف صحيفته فرنسا، ونجح بصحيفة "ذوالفقار" حيث كان يوقّع باسم ابن المنصور الصنهاجي، وانتقد نزول الجيوش الفرنسية عام 1914 بسيدي فرج، وكان أيضا في ذات السنة أول صحفي في العالم يتطرق لخطر الصهيونية، وهو ما جعل السلطات الفرنسية تحاكمه عسكريا وأصدرت في حقه حكما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وهو حسب علمنا أقسى حكم يصدر في حق صحفي في ذلك الوقت في العالم. وحتى الاستعمار الفرنسي عند اغتيال الشيخ العربي التبسي أعلن عن القضاء على صحفي جزائري كان قلمه يدعو إلى التمرد على الفرنسيين. ولن نبالغ إذا قلنا أن أول صحفي يتابع في محكمة عسكرية في العالم هو عمر راسم، وكان قلمه عربيا خالصا وهذا منذ قرن، وأول صحفي تعرض لمحاولة اغتيال هو بن باديس، وهذا منذ أزيد عن ثمانين سنة وأول صحفي في العالم تعرض للقتل وإخفاء جثته التي لا يُعلم لحد مدفنها وهذا منذ أزيد عن نصف قرن.