اهتمام ابن باديس بالشباب
بقلم: د.علي الصلابي-
كان الاحتلال الفرنسي قد شمل بسياسته الظالمة عموم أفراد الشعب الجزائري نسائه ورجاله، شيوخه وشبابه، غير أن التركيز كان منصباً على الشباب أكثر من غيره، لما في الشباب من أهمية في حياة الأمم ـ وكان ذلك بإضعاف قواه وإفساد أخلاقه بهدف ضرب الأمة في أكبر قوة مادية تملكها في حياتها، وكان ابن باديس قد اهتم وركز على الشباب مبكراً، فظهرت رعايته بالشباب في محورين اثنين:
الرعاية العامة للشباب، والعناية الخاصة بالطلبة.
ـ الرعاية العامة للشباب:
تدخل عناية ابن باديس بالشباب في إطار اهتمامه العام بمجموع أفراد المجتمع الجزائري، وطبيعي أن يتوجه هذا الاهتمام في نطاق النهضة إلى عنصر الشباب أكثر من غيره بما ينتظر أن يقوم به من نشاطات في هذا المشروع، بسبب ما تميزت به من قوة في الإرادة وصدق في العزيمة وثقة في المستقبل، فهو عدة الأمة، وحادي قافلة نهضتها، وحامل مشعل تطلعاتها إلى أهدافها في التحرر والتقدم.
يقول ابن باديس عن شباب الجزائر في ذلك العهد، وما ينبغي أن يكون عليه: «أعلن الشهاب» من أول يومه و«المنتقد» الشهيد قبله ؛ أنه لسان الشباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده وقبح له دينه وقومه، وقطع له من كل شيء ـ إلا منه ـ أمله، وحقره في نفسه تحقيراً. وإلا شباب جاهل أكلته الحانات والمقاهي والشوارع.
ومن وجد العمل منه لا يرى نفسه إلا الة متحركة في ذلك العمل، لا همّ له من ورائه في نفسه فضلاً عن شعوره بأمر عام، وإلا شباب حفظه الله للإسلام والعروبة، فأقبل على تعلمها، لكنه تعلم سطحي لفظي خالٍ من الروح، لا يعتز بماضٍ، ولا يألم بحاضر، ولا يطمح لمستقبل، اللهم إلا أفراد قلائل جدًّا هنا وهناك.
وأما اليوم فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونوادٍ ـ إلا نادراً ـ إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات وشعار الجميع،: الإسلام، العروبة، الجزائر.
وقد شمل الشيخ بعنايته مختلف قطاعات الشباب: الطفولة، الطلبة، الكشافة، الرياضيين، الفنانين، شمل هؤلاء جميعاً، وهم في محاضنهم وفي مدارسهم ونواديهم، فقد عني بالأطفال وهم في حجور أمهاتهم رضعاً، تفتك الأمراض والأوبئة بأجسامهم، يصارعون الموت في كل لحظة من الليل أو من النهار، فيصرعهم ويتخطف منهم زهاء أربعين في المائة من مجموعهم، بسبب الفاقة وسوء التغذية والأمراض. إن موت أربعين في المائة ناتج في الأكثر عن عدم الوجد وسوء الحال، بدليل أن الموت والمرض في أبناء الفقراء أكثر منهم في غيرهم.
وتمتد عناية ابن باديس بالشباب إلى الكشافة الإسلامية الجزائرية، فكانت تربطه بها صلة متينة، فكان رئيساً شرفياً لأول مؤتمر كشفي ينعقد بالجزائر سنة 1930م، كما كان رئيساً ومؤسساً لفوج «كشافة الرجاء» سنة 1935م، وكان يوجههم في نتاجه.
ومما جاء في ذلك في قصيدته «تحية المولد الكريم» بوجه ويشجع عناصر هذا الفوج، محملاً إياهم أمانة النهوض بالأمة والعمل على تحريرها والرقي بها، هذه الأبيات:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذِب
أم رام إدماجاً له رام المحال من الطلبْ
يا نشء يا ذخر الجزائر في الشدايد والكرب
يا نشء أنت «رجاؤنا» وبك «الصباح» قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوبَ ولا تَهَبْ
وارفـــع منــارَ العـــدل والإحسان واصدم من غصب
وأَذِقْ نفوسَ الظالمين السُّمَّ يمزجُ باللهبْ
واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
واهزُز نفوس الجامدين فربما حَيِيَ الخَشَبْ
نحن الألى عرف الزمان قديمنا الجمَّ الحَسَب
ومعين ذاك الجوُّ في نسل العُروبة ما نضب
من كان يبغي وُدَّنا فعلى الكرامة والرُّحَبْ
أو كان يبغي ذُلَّنا فله المهانة والحَرَب
هذا نِظَامُ حياتِنا بالنور خُطَّ وباللَّهَب
حتى يعود لشعبنا من مجده ما قدْ ذهب
هذا لكم عهدي به حتى أُوَسَّد بالتُّرَب
فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب
ومما جاء في هذه القصيدة توجه ابن باديس إلى المجتمع حاثاً إياه على العناية بهذا النشء قائلاً:
يا قــــــوم هذا نشؤكم وإلى المعالي قد وثب
كونوا له يكن لكم وإلى الأمام ابناً وأب
ويصور الشيخ الشاعر الصالح رمضان، وهو أحد مرشدي الكشافة الإسلامية الجزائرية بعض مهام هذا الفوج فيقول:
نحن «الرجا» عند المحن لقـــومنا وللوطــــن
لفوجنا سرب نفيس عبد الحميد بن باديس
كأن فيه «ماسنيس» يزجي الصفوف ويسوس
فرقتنا «صلاح الدين» حاضرة في كل حين
فتياتها قــرة عيــــن لفـــوجنا والمسلمــــين
وكانت تربط ابن باديس بالجمعية الرياضية «المولودية» صلة وثقى، يكاد يعرفها العام والخاص، فكان يشجعها ويحرص على توجيه عناصرها دينياً وأخلاقياً، كما كانت له علاقته مماثلة مع جمعية الفن للموسيقى العربية بقسنطينة.
ـ العناية الخاصة بالطلبة:
ويتحول هذا الاهتمام العام بالشباب إلى عناية خاصة بالطلبة، تشملهم وهم يطلبون العلم في كتاتيبهم، ومدارسهم، ومساجدهم، وكان الكاتب قد بذل جهوداً حميدة في هذا الميدان منذ أن رابط بالجامع الأخضر، يربي الناشئة ويكوّن الجيل، ولم تكن عنايته هذه بتربية الشباب لتقتصر على تربية البنين دون البنات، وإنما كانت تشمل الجانبين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكان يحرص في هذا المجال على توطيد أسباب الصلة بينه وبين طلبته بتقديم يد العون لهم، فكان يساعدهم مادياً من ماله الخاص، وما تعود به مساعيه من أجلهم لدى المحسنين بحثِّه إياهم على إغاثة أبناء الأمة، بما يمكّنهم من التغلب على مؤونة التبلغ والتفرغ، ثم مواجهة أعباء الطلب والتحصيل.
كانت عنايته بطلابه كبيرة، وكان يؤكد أن مهنته كمعلم ؛ تجعله دائم التفكير في تلامذته.
ـ العناية الشاملة بعموم الشباب: كان ابن باديس يرى ضرورة العناية بجميع هذه الفئات الشبابية، وكان يعمل على تربيتهم وتثقيفهم وتوجيههم إلى المنابع الصافية من أصول دينهم والمناهل العذبة من مبادئ أخلاقهم، والتمكين لهذه وتلك في قلوبهم وفي عقولهم، وقد عني في هذا المضمار بما ينمي قواهم الجسدية والروحية بحثِّهم على المحافظة عل صحتهم البدنية: حافظ على صحتك، فهي أساس سعادتك وشرط قيامك بالأعمال النافعة لنفسك ولغيرك.
وحثهم على الاهتمام بقواهم العقلية: حافظ على عقلك فهو النور الإلهي الذي مُنحته لتهتدي إلى طريق السعادة في حياتك. حافظ على حياتك ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك.
وكان ابن باديس حريصاً على ما يسمو بأخلاقهم، ويحفظ شخصيتهم، ويحميهم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والفساد، وقد أولى في هذا الباب عناية خاصة بالتصدي لما يهدد الشباب من تيارات هدامة، تزين لهم التنكر لدينهم وقومهم عن طريق ما تبثه في صدورهم من سموم وتزرعه في سلوكهم من افات، وقد ساعد على ذلك ما يغزو العقول يومئذ من الخرافة والتقليد، بسبب الجهل والفهم السقيم لحقائق الإسلام، الذي يشده إلى العقل والعلم حبل متين، فكان خطر ذلك كبيراً على الشباب ولاسيما على أولئك الذين كانوا يتعلمون منهم في المدارس الأجنبية ؛ فإن قلة زاد هؤلاء من الدين الصحيح والعلم النافع، إلى جانب تلك السموم التي كان ينفثها في صدورهم من ينفثها من الأخصائيين في ذلك من دوائر الاحتلال، لقد أوشك هذا النقص أن يؤدي ببعض هؤلاء إلى حافة السقوط في وهدة الشك والمروق من الدين، مما جعل من المهام الرئيسة الإسراع إلى انتشال هؤلاء من هذه المخاطر. ولذلك كان الإقدام على انتشال هؤلاء من هذه الطبقة من الشباب من أوكد الواجبات في مثل هذا الظرف الذي طغى فيه تيار المادة على كل شيء.
وكان لابن باديس وجمعية العلماء دور كبير في توعية هؤلاء الشباب وتعريفهم بالمكانة السامية التي تحظى بها في دينهم قيم العقل والعلم والحق والعدل، فكان لهذه الجهود أن اتت أكلها فاهتدى بعض الشباب إلى الطريق الصحيح، ومن أقوى الأدلة على ذلك، بل حسبنا في ذلك أن نقايس بين حالة هذه الطبقة المنكرة وهي حالة تمرد ومروق وإلحاد ؛ وبين حالتها الراهنة وهي حالة تدعو إلى الاطمئنان والسرور.
كما قام ابن باديس بتقديم نماذج من سير السلف الصالح للشباب، لتكون محل قدوة واعتبار لديهم. فرسم لهم صوراً من أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، وملامح من سير بعض السلف نسائه ورجاله، وبعض القصص الديني، محاولاً بذلك أن يلفت النظر إلى ما في هذه الأمثلة من مواطن الأسوة بما يساعد على بناء نفوس الشباب وعقولهم، مما في تلك المواقف من مبادئ الدين والعلم والأخلاق، فيكون لهم من ذلك ما يجعلهم يحملون أمانة الأجيال الماضية للأجيال الاتية، ولا ينكرون أصلهم وإن أنكرهم العالم بأسره، ولا يتنكرون لأمتهم ولو تنكر لهم الناس أجمعون.
لقد اعتنى صاحب الشهاب بالشباب عناية خاصة تكويناً ورعاية وتوجيهاً، فهو لا يفتأ يوجه إليهم نصائحه في آية مناسبة مواتية.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)