رفع الإلتباس في شرح الشيخ العباس
بقلم: محمد الهادي الحسني-
كان الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو -رحمه الله- يكتب مقالات لطيفة ظريفة يحلل فيها نفسيات بعض أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ويستعرض مميزات شخصياتهم في جوانبها الإيجابية والسلبية، محاولا -قدر الإمكان- أن يكون موضوعيا.
وكان ينشر هذه المقالات في جريدة البصائر، تحت عنوان: "في الميزان"، وأنا الآن بصدد جمع هذه المقالات ونشرها في كتيب منفرد، مع التقديم لها، والتعليق عليها.
ذكر أحمد رضا حوحو في المقال الذي كتبه عن الشيخ العباس ابن الحسين أن الإمام محمد البشير الإبراهيمي قال إنه سيؤلف كتابا يسميه "رفع الإلتباس في شرح الشيخ العباس(1)"، ولاشك في أن الإمام الإبراهيمي كان في قوله هذا مازحا مع إخوانه وأبنائه من أعضاء الجمعية، مداعبا لهم، مخففا عنهم بعض ما يعانونه من عنت، وما يلاقونه من نصب.
قد يكون سبب هذا الالتباس في الشيخ العباس هو أنّه "صريح في باطنه دون ظاهره (1)" كما يقول أحمد رضا حوحو، ومن هنا وجب رفع هذا الالتباس، لأن المتعارف عليه بين الناس هو أن تكون الصراحة في الظواهر مما يرونه بأبصارهم ويسمعونه بآذانهم، لا في البواطن، فغموض ظاهره آت من "وسائله التي يستعملها إلى غاياته(1)".
فمن هو هذا الشيخ الذي التبس أمره، وغمض شأنه، وحيّر غيره حتى عزم الإمام الإبراهيمي على إزالة لبسه، رغم أنه "صريح في مباديه ومراميه، صريح في صداقته، صريح في خصومته، صريح في معتقداته وآرائه(1)"؟
إنه كما عرّفه صديقه حوحو: "شعلة من الذكاء، وذكاء مخدوم مرن... وقد اجتمع له الذكاء وكثرة التجارب، وقوة الشخصية، وفصاحة اللسان، وضبط الأعصاب، والاطلاع الواسع، ومن هذه العناصر تكوّنت شخصيته المرغوبة المرهوبة(1)
ويضيف أحمد رضا حوحو تعريفه بالشيخ العباس، وتقريب شخصيته إلى الناس فيقول: "فإذا قام خطيبا في العامة لعب بعقولهم، وألهب حماسهم فيما يعتقد وما لا يعتقد، وإذا جلس في ندوة إخوان الصفا(❊) كان قطبا لامعا في آرائهم وأفكارهم المتمردة، أما إذا تصدى للإفتاء فإنه يفتي بدين الله كما يفهمه هو، ويفهمه المنطق، ويرتضيه العقل"(1).
لقد خطّت الأقدار في صحيفتي أن أعمل مع الشيخ العباس حولين كاملين، في مسجد باريس، الذي كان عميدا له (1982 - 1989)، وكنت شهيدا على صدق ودقة تحليل أحمد رضا حوحو لشخصية الشيخ العباس، فقد كان قوي الشخصية، ومن ذلك أنني لم أره يلبّي أية دعوة للعشاء - ماعدا إفطار رمضان - مهما يكن الداعي، والمرة الوحيدة التي خرج فيها عن مألوفه هي تلبيته لدعوة ممثلية فلسطين في باريس بمناسبة أول زيارة لياسر عرفات لفرنسا، وفي تلك الليلة وهو يعانق ياسر عرفات داهمته أزمة قلبية فكانت القاضية.
إنني لست المعجب الوحيد بالشيخ العباس، فقد رأيت، وسمعت علماء، وسفراء، ومثقفين، وصحافيين، ورجال دين، يهودا ومسيحيين، يبدون إعجابهم بالشيخ العباس، لذكائه، وحيويته، وأشهد أنه كان أحد أهم الشخصيات الدينية السياسية، في فرنسا، وقد أخبرني الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية الأسبق، أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك قال له إنه شديد الإعجاب بالشيخ العباس، وأنه يأسف إذ لم يستطع التواصل المباشر معه بسبب الحاجز اللغوي، فقد كان كل منهما يجهل لغة الآخر.
إن من الأمور التي كلما ذكرتها عضضت أناملي ندما وحسرة عليها هو أنني لم استغل وجودي إلى جانب الشيخ العباس في باريس في تسجيل وتدوين ما تختزنه ذاكرته العجيبة من معلومات عن الأشخاص الذين عرفهم، واحتك بهم، وعمل معهم، وعن الحوادث التي عاصرها، وكان شهيدا على بعضها، ومشاركا في بعضها.
تتمثل عبقرية الشيخ العباس ودهاؤه في نجاحه في تسيير مسجد باريس، الذي كانت تحيط به الدسائس والمؤامرات من كل جانب.
كان على الشيخ العباس أن يواجه في باريس عدة جبهات هي:
· جبهة الحركى، الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا دينهم، ووطنهم، وبقوا مُصرّين على الخيانة والحنْث العظيم.
· جبهة المسلمين من الفرنسيين الأصليين، الذين يرون أنفسهم أولى الناس بالإشراف على مسجد باريس وتسييره، وهي كلمة حق أريد بها باطل.
· جبهة اليمين الفرنسي -دينيا وسياسيا- سليل الباب إربان الثاني، الذي أوحى له قرينه بفكرة الحروب الصليبية، وكان هذا اليمين يود أن تكفر الجزائر والجزائريون كما كفر؛ فإذا بممثل الجزائر يدعو إلى الإسلام من قلب فرنسا، وأم قراها، ويجوس خلال ديارها، ويسلم على يديه كثير من أبنائها. وكثيرا ما كان يقول لي عندما أرافقه لمناسبة من المناسبات: أرأيت يا "الشيخ" الهادي "آية الله"؛ لقد كنت مطاردا من فرنسا في بلدي الجزائر بسبب عملي في سبيل الإسلام، فقدر الله أن يمحو آية فرنسا في الجزائر، ويجعل آية الجزائر مبصرة في فرنسا.
· جبهة الأقدام السوداء، وهم الفرنسيون الذين كانوا يتنعمون في جنة الجزائر، ثم طهرها الله من رجسهم، فهم لايقومون إذا رأوا أو سمعوا ما يذكرهم بالجزائر" إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس".
· جبهة المغاربة الذين تحركهم المصالح المغربية التي تعتبر المغاربة هم الأحق بتسيير مسجد باريس، لأن السلطان يوسف (والد محمد الخامس، وجد الحسن الثاني) كان من الحاضرين في تدشين المسجد.
· جبهة المصريين الذين يظنون أنفسهم الشراب وغيرهم السراب، حيث كان خطباء المسجد منذ تدشينه منهم، فلما أراد الشيخ العباس أن يكون للجزائريين نصيب في الخطابة، والإمامة، لاعتبارات تاريخية ومالية، رأوا ذلك إحدى الكبر.
· جبهة السعوديين الذين كانوا يرون أنفسهم الأوصياء على دين الله، وكانوا يستعملون أناسا لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان، وقد كان الذي أُمر بإزعاج الشيخ العباس يمتهن حرفة البناء، ومع ذلك كان يتعالم، وهو الذي لا يكاد يُبين.. فواضيعة الإسلام أن يدعو إليه، ويجادل عنه أمثال هؤلاء العوام في إحدى العواصم الكبرى التي تعج بكبار الأحبار والقسّيسين والمفكرين.
· جبهة الإيرانيين الذين "جاو من تالي وقالوا يا مالي"، فرأوا أن "آيتهم" قد أشرقت، وأن شمسهم قد سطعت، فما على الكواكب إلا أن تأفل.
· جبهة المعارضة الجزائرية، خاصة تلك التي كانت تتمظهر بالإسلام، وتتخذه وسيلة للاسترزاق، وكان يتزعمها شخص قال فيه الإمام الإبراهيمي:
با أمنا وهدٌوّا وخلالا أخويه
وغدوا ورواحا في فجاج الوطنيه
واشترى لفظا سخيفا ختمه في النطق "كيه"(2)
وقد علمت أن أحد أفراد هذه المعارضة قطع عنه المال من الجهة التي كانت تستعمله فجاء يسعى إلى الشيخ العباس راجيا منه توظيفا.
· جبهة ودادية الجزائريين بأوروبا، التي كان أكثر مسؤوليها من النطيحة، والمتردية، والموقوذة، والمنخنقة، فانفض الجزائريون من حولهم، وهجروهم، فلما جاء الشيخ العباس واسترجع أولئك الجزائريين إلى مسجد باريس حاولت الودادية دسّ أنفها في المسجد، فحال الشيخ بينها وبين المسجد التي كانت تريد أن ترفع به خسيستها.
ولد الشيخ العباس في سيدي خليفة (ولاية ميلة) في عام 1912، في أسرة اشتهرت في المنطقة بالعلم والدين، لأنها كانت صاحبة زاوية.
حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ اللغة وعلوم الدين، ثم ذهب إلى تونس فلم يطل مكثه فيها، ليتحول إلى القرويين بالمغرب الأقصى وتخرج فيه، وقد كان في فترة الطّلب في المغرب من أنشط الطلاب سياسيا.
انخرط في حزب الشعب الجزائري ثم انسحب منه، وقد عينه الإمام عبد الحميد بن باديس في بني صاف، ثم حوّله إلى عنابة، واعتقل في حوادث 8 ماي 1945، وكان من أساتذة معهد ابن باديس، ثم "أُعفي من التدريس بالمعهد وأُلحق بمكتب الرئيس (الابراهيمي) ليستعين به على تصريف الأمور، وليكون نائبه في كل ما يوجهه إليه من شؤون المدارس، والجمعيات، والشّعب والمعلمين والجمهور"(3).
وقد انتخب في المكتب الإداري لجمعية العلماء في 1951، ورافق الإمام الإبراهيمي عندما ذهب إلى باريس ليعرض القضية الجزائرية على ممثلي الدول العربية والإسلامية في جميعة الأمم المتحدة التي عقدت دورتها في نهاية 1951 في باريس.
وعين بعد اندلاع الثورة ممثلا لها في المملكة العربية السعودية، واستمر سفيرا للجزائر بها حتى سنة 1964.
وقد كان من الذين وقفوا إلى جنب الإمام الإبراهيمي عندما أبدى له الرئيس الأسبق أحمد ابن بلة نواجذه.
وعين رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، الذي تركه عندما عين الأستاذ مولود قاسم وزيرا للتعليم الأصلي والشؤون الدينية في عام 1970، وقد أخبرني الشيخ أنه ترك رئاسة المجلس الإسلامي حذر الاصطدام مع الأستاذ مولود، حيث كان كلاهما يتميز بالعصبية.
وفي عام 1982 عين عميدا لمسجد باريس حتى توفاه الله في 3/5/1989.
كان الشيخ العباس ضليعا في اللغة العربية وآدابها، ولا يصبر على تصحيح خطإ، كائنا من كان المخطئ، كما كان راسخ القدم في الفقه المالكي، ولكنه كان مُيسّرا على الناس في الفتوى.
وكان الشيخ حلو الحديث، عذب الكلام، يتذوق الأدب الرفيع: شعرا ونثرا، وكان صاحب نكتة. وقد سألته مرة: لماذا يلبس الجزائريون لباس كثير من الشعوب ويعرض أكثرهم عن "الڤندورة" الجزائرية، فقال لي وهو يبتسم: لأنها ناقصة الجمال، فهي اللباس الذي خاطته أمّنا حواء لأبينا آدم.
رحم الله الشيخ العباس، وحبذا لو يطلق إسمه على مؤسسة تعليمية، فهو حقيق بذلك لعلمه وجهاده.
الهوامش:
1) ) جريدة البصائر. ع 267 في 16 أفريل 1951 ص 5 - 6
❊) ) إخوان الصفا هم جماعة من أساتذة معهد الإمام ابن باديس
2) ) هذه الأبيات أملاها عليّ الشيخ موسى نويوات، واللفظ السخيف هو "الاشتراكية".
3) ) آثار الإمام الإبراهيمي، ج2. ص374.