الأديب عمر راسم… الثائرُ على عصره
بقلم : محمد بسكر-
لا تغيب عن مخيلتنا صورة المصحف الشريف الذي افتخرت به المطبعة الثعالبية، وشهّرته في فهرستها مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، فوصفته بقولها: « وهو المصحف المومأ إليه بخط مغربي واضح جلي، جميل ليس له نظير ولا مثيل، وبالاختصار فما على المشتري إلّا المقابلة بين طبعنا وطبع آخر، ليظهر له الفرق الكبير »(1)، لم يكن ورق المصحف الصقيل هو من شدّ انتباهنا إليه، بقدر خطّه المغربي الجميل الذي تشرّف الأديب والفنان عمر راسم بإنجازه، لقد اِكتحلت بمرآه عيون أجيال من شباب الجزائر والمغرب العربي.
جمع الأستاذ عمر راسم بين مهارة الكتابة الصحفية وفنّ الخطّ والمنمنمات، والفنّ والأدب وليدا شخصية هادئة ذواقة، تحسن التقاط مشاهد الجمال، وتبرع في التعبير عن محيطها بسهولة، وحياة الأديب عمر راسم ينطبق عليها هذا الوصف في شطرها الأوّل، ويشوبها الاضطراب والتيه في شطرها الثاني.
أوّل من تعرض للحديث عنه الشيخ محمد العابد الجلالي، في كتابه (تقويم الأخلاق) الذي ظهر سنة 1927م، ويرى أبو القاسم سعد الله بأنه « يعرف عمر راسم شخصيا، ولذلك كتب عنه عن كثب ومعرفة دقيقة، سيما عن صحافته، وتنقلاته، وسجنه وآرائه »، ولكنه لاحظ وجود ثغرتين في هذه الترجمة، « الأولى أنها ترجمة مبكرة لحياته...والثانية أنّ هناك جوانب خفية لا يمكن للمعاصر أن يطلع عليها في حياة كل إنسان تقريبا، وذلك هو ما تتكفل به الوثائق والتجارب الأخرى والتي لا تظهر عادة إلا بعد وفاة الشخص وانقضاء فترة من الزمن» (2).
1: جريدة (ذو الفقار)
بدأ عمر راسم الكتابة مبكرا في جريدة التقدم التونسية سنة 1907م، فكتب فيها بمُوَاربة وصراحة، وبأسلوب يغلب عليه المضيّ في الاندفاع دون خشية، وتطرّق لمواضيع تجنّبها الكثير من الكتّاب الجزائريين المعاصرين له، ثم أنشأ أول جريدة عربية شعبية، وهي « الجزائر »، بتاريخ 27 أكتوبر سنة 1908م، غير أنّه لم يصدر منها إلا ثلاثة أو أربعة أعداد، ويرجع سبب اختفائها إلى أمور مالية (3) أو ماتت بفقر الدّم، كما جاء في عبارة أحمد توفيق المدني، وفي الأشهر الأخيرة من سنة 1913م أصدر جريدة أخرى سماها (ذو الفقار)، اضطلع بنفسه على تحريرها وكتابة نصوصها ورسم صورها، ثم طَبْعِها طبعا حجريا، تبنى فيها فكر الإمام محمد عبده، فهي كما وصفها في صفحة العدد الأول: « عبدوية، إصلاحية، وأنها لا تخرج عن الطريقة التي اختطّها لها رجال الإصلاح المخلصين»(4)، لم تعمر طويلا كغيرها، فلم يظهر منها غير أربعة أعداد، ولكنه وجد فيها حريته، وانقاد في تحرير مواضيعها وراء مشاعره الجياشة، فازدادت حدّة نقده للاستعمار، ورغم أنّ أصدقاءه نصحوه بالتخفيف من لهجته التي عُرف بها في مقالاته التي كان ينشرها في جريدة «الحق الوهراني»، لكن المتصفح لما كتبه لا يجده تراجع عن مواقفه وأسلوبه الذي يغلب عليه الاندفاع.
والدّارس للمواضيع التي كتبها في الأعداد القليلة من مقالاته يجد أنّ اهتماماته تدور حول المحاور التالية:
• أولا: محاربة الفساد الاجتماعي والأخلاقي: فلم يقبل الواقع الذي آل إليه مجتمعه، وهو يرى تفسخ شبابه، وانتشار الوهن في مفاصله، فكتب في العدد الثالث من جريدته (سنة 1914، ص3)، مقالة بعنوان« الإسلام والمسلمون»، مفعمة بالحماسة، وحارة اللهجة، تساءل فيها عن مآل أمة، « مساجدها خالية من المصلين، بينما شوارعها مملوءة باللّصوص والسّفلة، بلاد انتشر فيها الربا والسلب والجفاء بين أهلها، وانعدم فيها الإحسان، وكثر فيها تقليد الكافرين. ودعا إلى نبذ الكسل والخمول والتوكل على الغير، وإلى التخلق بالفضيلة. وقال إننا إذا لم نعرف الأسباب التي أدت بالأمة العربية إلى القوة والسّؤدد، اِندَثَرنَا..وفي نظره أن تلك الأسباب لا تخرج عن مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات»(5).
• ثانيا: اهتمامه بشؤون العالم الإسلامي: فنقل مقالات مقتصرة من جرائد عربية وبأقلام شرقية عن حوادث عالمية تهم المسلمين، منها: يقظة المسلمين في جاوة، والمسلمون في منشوريا، والمسلمون في انكلترا، ومسلمو روسيا، وأشار في مقاله "الإسلام والمسلمون "، إلى أنّ سبب تأخر المسلمين يعود لانفصالهم عن الشريعة الإسلامية. واستمر اهتمام عمر راسم بقضايا العالم الإسلامي حتى بعد اعتزاله العمل الصحفي، ففي رسالته التي بعثها إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني، حثّه فيها أن يحمل في مقالاته التي ينشرها في جريدة البصائر، حملة غيور صادق شجاع، على حكّام العراق وباكستان بسبب انجرارهم وراء السياسة الصهيونية والاستعمار الغربي، وذكّره بواجبه باعتباره كان كاتبَ جمعية الخلافة بتونس، وأنّه لا خلافة الآن، وإنما هي وحدة الإسلام التي تلمّ شعث العالم الإسلامي، ثم حمّل تركيا مسؤولية ما آلت إليه الأمور، بسبب اعترافها بالدولة الإسرائيلية، ووصف فعلها بالخيانة العظمى التي تشبه بكثير خيانة الحسين، وأنها إنما انجرّت وراء الغرب بتعاملها مع الصهيونية، نكاية في العرب (6).
• ثالثا: انتقاده للحضارة والأفكار الغربية، فوقف موقفا معاديا للمقلّدين للغرب، حيث نقل مقالا من مجلة (المنار) بعنوان «مفاسد المفرنجين في أمر الاجتماع والدّين»، يعالج مشكلة المقلّدين للإفرنج وفسادهم الأخلاقي، ورسم صورة ترمز إلى رجل مقلد للغرب يطلب من زوجه أن تخلع لباسها العربي لتتعلم الرقص ولتتمدن، فأجابته بأنّ لباسها القومي لا يكون عائقاً لها عن التمدن»(7).
• رابعا: اعتراضه على سياسة الاستعمار الفرنسي: نقده لسياسة الاستعمار بدأت مبكرا عندما كان ينشر في جرائد أخرى، واستمر في نهجه في جريدته، فكتب موضوعا بمناسبة حلول ذكرى دخول فرنسا إلى الجزائر سنة 1830م بعنوان « صفحة من تاريخ الجزائر»، جاء فيه:« في هذا اليوم نزل الجيش الفرنسي في شبه جزيرة سيدي فرج، وفي هذه السنة (1914م) تشكلت جمعيات لإحياء هذا اليوم والاحتفال باستيلاء فرنسا على أكبر وأغنى مستعمراتها( الجزائر)، سنذكر في العدد الآتي الأسباب التي أدت إلى الحرب وكيفية دخول الفرنسيين إلى عاصمة الجزائر »(8). ولم يكتف بالتطرق للأحداث التاريخية التي تذكر الناس بمرارة الاحتلال، وإنما هاجم بعنف سياسة فرنسا، فانتقد ظاهرة منح النياشين للشخصيات السياسية والعلمية، مقابل الخدمات والولاء على حساب الشعب والمصلحة الوطنية(9)، كما عارض سياسة التجنيد الإجباري، وانتقد دعاة الاندماج الذين قبلوا بهذه السياسة مقابل كسب بعض الحقوق السياسية.
• خامسا: التنبيه على مخاطر الحركة الصهيونية: يعتبر من أوائل الكتّاب من نبّه الناس على خطر الحركة الصهيونية ومراميها البعيدة، فنشر موضوعا في العدد الرابع (سنة1914م، ص8)، نقله من مجلة المنار بعنوان (المسألة الصهيونية)، لقد أدرك هو وزميله عمر بن قدور ما يحاك ضد فلسطين ونبها إلى ذلك مبكرا.
: 2 محنة السجن..والانطواء على الذّات .
تعتبر شجاعة عمر راسم وبسالته في طرح المواضيع هي سبب إقبال الاستعمار الفرنسي على غلق جرائده، ولما بدأت الحرب العالمية الأولى ألقي القبض عليه، بسبب « وقوع رسالة بعثها إلى جريدة الشعب المصرية في أيدي المخابرات البريطانية، التي أطلعت أختها الفرنسية على مضمونها الذي يدعو إلى عدم الركون إلى أعدائهم» (10) وأُدخل السجن بتاريخ 13/08/1914م، ولم يخرج منه إلا سنة 1921م، وهو الجزائري الوحيد الذي تلصق به تهمة الاتصال بالعدو والاتفاق معه.
كان الأستاذ عمر راسم في مراحل حياته الأخيرة قد ضرب على نفسه عزلة، ورضي أن يعيش على هامش الحياة، وظهر عليه الضجر الشديد من الأدباء والمثقفين المعاصرين له، فهو يعلن بكلّ صراحة سخطه من هذه الفئة، وخيبته من هذا الوطن الذي لا مستقبل له، فقد صرح مشافهة بذلك لأحمد توفيق مدني، ثم أكدّ ذلك في رسالة فقال: « لا أريد أن أكون مع أناس اعتقد أنهم أعداء الحق والإنسانية (الوطن)، ولا أرضى أن أكون في كتاب أو صفحة أو صورة أو مرآة، ولو مع الأمير عبد القادر أو المقراني أو غيرهما» (11)، ولا تفسير للحالة النفسية التي أفرزت هذه الأحكام القاسية إلا ما ذكره أحمد توفيق عنه، من كونه نُكب على يد الاستعمار القاسي نكبة سوداء أثّرت على البقية الباقية من حياته.
لعل الأستاذ أحمد توفيق المدني هو الوحيد الذي خالط الرجل في هذه المرحلة الأخيرة من حياته، فقد زاره عمر راسم، ودار بينهما حوار طويل تحدث عنه في مذكراته (حياة كفاح)، ولاحظ حالة الإحباط التي انتابته بعد خروجه من السجن، فتذمره ظاهر من محيطه الاجتماعي، بدا ذلك في رسائله ووثائقه، ومنها قصيدة كتبها بالعامية، مطلعها: «يا أخي أنقول لك كلمة..اسمعها مني بلا عجب» تناول فيها حال المسلم الذي حكم عليه بخيانة الإسلام، وحبّ النّهب، وأنّه لم يبق له ثقة أو طمع في هذه الأمة التي يسودها جهالها، ووصف شبابها بالعربدة والطيش وتقليد الغرب، كما انتقد الشخصيات الأدبية والفكرية والسياسية، كالأديب أحمد أمين، والأمير خالد، والملك فاروق، ومحمد نجيب..وغيرهم، وحكم على زعماء الأحزاب والسياسة والإصلاح الدّيني بالفشل.
3: موقف عمر راسم من كتاب الجزائر.
عندما صدر (كتاب الجزائر) للأستاذ أحمد توفيق مدني، تجمّلت صفحته الأولى بصورة رسمها عمر راسم، ولم يكتف بالمشاركة بذلك، بل مدح عمله وبعث إليه برسالة، وصف فيها كتابه بالعمل الجليل، الذي لا ينكر قدره ومنفعته إلا من لا إحساس له ولا مروءة (12)، وقال إنّ مؤلّفه « أعلم كتَّاب القطر، والجاري فيه بالسياسة الوطنية والعالمية»، غير أنه أعرب عن مخالفته في الغاية والطريقة التي مشى عليها، لعلّه وجد في أسلوبه نوعا من الهدوء والمهادنة، ولاحظ إغفاله الحديث عن بعض الشخصيات الجزائرية الهامّة، فأرسل له رسالة أخرى من ثلاث صفحات، تحوي تراجم بعض الشخصيات العلمية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقد أشار محمد علي دبوز أنّه اطّلع على كتاب لعمر راسم ترجم فيه لعلماء الجزائر واستفاد منه، ولا أدري هل وقف (رحمه الله) على كتاب له بدء ونهاية، أم أنّ الأمر لا يتجاوز هذه الصفحات التي ربما أطلعه عليها أحمد توفيق المدني؟ لا يوجد ما يثبت هذا الأمر أو عكسه. ولم تخل تراجمه من أحاكم أصدرها في حق كلّ شخصية تحدث عنها، مما حذا بالأستاذ أحمد توفيق يتأسّف كلّ الأسف لعدم تفرغه لتسجيل ما كان يعرف من تاريخ الجزائر ورجالها على صفحات منظمة تنشر ويستفيد منها عموم الناس.
توفي عمر راسم سنة 1959م، وطويت بوفاته أسراره ودوافعه التي حتّمت عليه الانطواء على الذات، والاختفاء عن الأضواء، وكان الأستاذ المدني طلب منه سابقا أن يكتب ترجمة عن شخصه، فأجابه برسالة (في شهر نوفمبر من سنة 1952م)، قال فيها: « عندما تسمح لي الفرصة إن شاء الله أكتب ترجمة بيدي، وأذكر فيها الوقائع التي لا يعلمها إلّا علام الغيوب، وتتضح المسألة، ويظهر الخبيث من الطيب»، لم تختف بوفاته معلومات هامّة عن سيرته الذاتية وشخصيته المثيرة للجدل، وإنّما اختفى معها تراثه السياسي والثقافي، ويذهب أبو القاسم سعد الله إلى أنّ رجلا في مثله ثقافةً وسياسةً واطّلاعًا « لا يمكنُ أن يترك فقط هذا التراث الضئيل الذي يرجع معظمه إلى منتصف عمره. حقيقة أنّ عهدا من اليأس قد طغى عليه، وأنّ إهمالا قد أحسّ به... ولكنّنا لا نصدق أنّ عمر راسم قد توقف تماما عن العطاء الأدبي والفني والقلمي، فأين تراثه الكامل؟»(13).